منتديات قصيمي نت

منتديات قصيمي نت (http://www.qassimy.com/vb/index.php)
-   المنتدى الإسلامي (http://www.qassimy.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   10 رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية (http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=12929)

سقراط 17-07-04 10:41 PM

فصل وإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعقاب وقد أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله في الإنس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله كما شرع الله ورسوله وكما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ويعاملهم إذا اعتدوا بما يعامل به المعتدون فيدفع صولهم بما يدفع صول الإنس . وصرعهم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس مع الإنس وقد يتناكح الإنس والجن ويولد بينهما ولد وهذا كثير معروف وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه وكره أكثر العلماء مناكحة الجن . وقد يكون وهو كثير أو الأكثر عن بغض ومجازاة مثل أن يؤذيهم بعض الإنس أو يظنوا أنهم يتعمدوا أذاهم إما ببول على بعضهم وإما بصب ماء حار وإما بقتل بعضهم وإن كان الإنسي لا يعرف ذلك - وفي الجن جهل وظلم - فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه وقد يكون عن عبث منهم وشر بمثل سفهاء الإنس . وحينئذ فما كان من الباب الأول فهو من الفواحش التي حرمها الله تعالى كما حرم ذلك على الإنس وإن كان برضا الآخر فكيف إذا كان مع كراهته فإنه فاحشة وظلم ؟ فيخاطب الجن بذلك ويعرفون أن هذا فاحشة محرمة أو فاحشة وعدوان لتقوم الحجة عليهم بذلك ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله الذي أرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن . وما كان من القسم الثاني فإن كان الإنسي لم يعلم فيخاطبون بأن هذا لم يعلم ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة وإن كان قد فعل ذلك في داره وملكه عرفوا بأن الدار ملكه فله أن يتصرف فيها بما يجوز وأنتم ليس لكم أن تمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخراب والفلوات ؛ ولهذا يوجدون كثيرا في الخراب والفلوات ويوجدون في مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل والقمامين والمقابر . والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين وتكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية يأوون كثيرا إلى هذه الأماكن التي هي مأوى الشياطين . وقد جاءت الآثار بالنهي عن الصلاة فيها لأنها مأوى الشياطين والفقهاء منهم من علل النهي بكونها مظنة النجاسات . ومنهم من قال : إنه تعبد لا يعقل معناه . والصحيح أن العلة في الحمام وأعطان الإبل ونحو ذلك أنها مأوى الشياطين وفي المقبرة أن ذلك ذريعة إلى الشرك مع أن المقابر تكون أيضا مأوى للشياطين . والمقصود أن أهل الضلال والبدع الذين فيهم زهد وعبادة على غير الوجه الشرعي ولهم أحيانا مكاشفات ولهم تأثيرات يأوون كثيرا إلى مواضع الشياطين التي نهى عن الصلاة فيها ؛ لأن الشياطين تتنزل عليهم بها وتخاطبهم الشياطين ببعض الأمور كما تخاطب الكهان وكما كانت تدخل في الأصنام وتكلم عابدي الأصنام وتعينهم في بعض المطالب كما تعين السحرة وكما تعين عباد الأصنام وعباد الشمس والقمر والكواكب إذا عبدوها بالعبادات التي يظنون أنها تناسبها من تسبيح لها ولباس وبخور وغير ذلك . فإنه قد تنزل عليهم شياطين يسمونها روحانية الكواكب وقد تقضي بعض حوائجهم إما قتل بعض أعدائهم أو إمراضه وإما جلب بعض من يهوونه وإما إحضار بعض المال ولكن الضرر الذي يحصل لهم بذلك أعظم من النفع بل قد يكون أضعاف أضعاف النفع . والذين يستخدمون الجن بهذه الأمور يزعم كثير منهم أن سليمان كان يستخدم الجن بها فإنه قد ذكر غير واحد من علماء السلف أن سليمان لما مات كتبت الشياطين كتب سحر وكفر وجعلتها تحت كرسيه وقالوا : كان سليمان يستخدم الجن بهذه فطعن طائفة من أهل الكتاب في سليمان بهذا . وآخرون قالوا : لولا أن هذا حق جائز لما فعله سليمان ؛ فضل الفريقان هؤلاء بقدحهم في سليمان وهؤلاء باتباعهم السحر فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم } إلى قوله تعالى { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } بين سبحانه أن هذا لا يضر ولا ينفع ؛ إذ كان النفع هو الخير الخالص أو الراجح والضرر هو الشر الخالص أو الراجح وشر هذا إما خالص وإما راجح . والمقصود أن الجن إذا اعتدوا على الإنس أخبروا بحكم الله ورسوله وأقيمت عليهم الحجة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر كما يفعل بالإنس ؛ لأن الله يقول : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا } ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل حيات البيوت حتى تؤذن ثلاثا كما في صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن بالمدينة نفرا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثا فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان } وفي صحيح مسلم أيضا { عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته قال : فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس فجلست فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت : نعم فقال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس قال : فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار ويرجع إلى أهله فاستأذنه يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة فقالت : اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه فما يدرى أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى ؟ قال : فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا له ذلك وقلنا : ادع الله يحييه لنا قال : استغفروا لصاحبكم ثم قال : إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان } وفي لفظ آخر لمسلم أيضا : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليه ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر } وقال لهم : { اذهبوا فادفنوا صاحبكم } . وذلك أن قتل الجن بغير حق لا يجوز كما لا يجوز قتل الإنس بلا حق والظلم محرم في كل حال ؟ فلا يحل لأحد أن يظلم أحدا ولو كان كافرا بل قال تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } والجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفي صور الطير وفي صور بني آدم كما أتى الشيطان قريشا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر قال تعالى : { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم } إلى قوله : { والله شديد العقاب } . وكما روي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسونه أو يخرجونه ؟ كما قال تبارك وتعالى : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا فإن ذهبت وإلا قتلت فإنها إن كانت حية قتلت وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلا وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز . وأهل العزائم والأقسام يقسمون على بعضهم ليعينهم على بعض تارة يبرون قسمه وكثيرا لا يفعلون ذلك بأن يكون ذلك الجني معظما عندهم وليس للمعزم وعزيمته من الحرمة ما يقتضي إعانتهم على ذلك إذ كان المعزم قد يكون بمنزلة الذي يحلف غيره ويقسم عليه بمن يعظمه وهذا تختلف أحواله فمن أقسم على الناس ليؤذوا من هو عظيم عندهم لم يلتفتوا إليه وقد يكون ذاك منيعا فأحوالهم شبيهة بأحوال الإنس لكن الإنس أعقل وأصدق وأعدل وأوفى بالعهد ؛ والجن أجهل وأكذب وأظلم وأغدر . والمقصود أن أرباب العزائم مع كون عزائمهم تشتمل على شرك وكفر لا تجوز العزيمة والقسم به فهم كثيرا ما يعجزون عن دفع الجني وكثيرا ما تسخر منهم الجن إذا طلبوا منهم قتل الجني الصارع للإنس أو حبسه فيخيلوا إليهم أنهم قتلوه أو حبسوه ويكون ذلك تخييلا وكذبا هذا إذا كان الذي يرى ما يخيلونه صادقا في الرؤية فإن عامة ما يعرفونه لمن يريدون تعريفه إما بالمكاشفة والمخاطبة إن كان من جنس عباد المشركين وأهل الكتاب ومبتدعة المسلمين الذين تضلهم الجن والشياطين وأما ما يظهرونه لأهل العزائم والأقسام أنهم يمثلون ما يريدون تعريفه فإذا رأى المثال أخبر عن ذلك وقد يعرف أنه مثال وقد يوهمونه أنه نفس المرئي وإذا أرادوا سماع كلام من يناديه من مكان بعيد مثل من يستغيث ببعض العباد الضالين من المشركين وأهل الكتاب وأهل الجهل من عباد المسلمين إذا استغاث به بعض محبيه فقال : يا سيدي فلان فإن الجني يخاطبه بمثل صوت ذلك الإنسي فإذا رد الشيخ عليه الخطاب أجاب ذلك الإنسي بمثل ذلك الصوت وهذا وقع لعدد كثير أعرف منهم طائفة .

فصل : وكثيرا ما يتصور الشيطان بصورة المدعو المنادى المستغاث به إذا كان ميتا . وكذلك قد يكون حيا ولا يشعر بالذي ناداه ؛ بل يتصور الشيطان بصورته فيظن المشرك الضال المستغيث بذلك الشخص أن الشخص نفسه أجابه وإنما هو الشيطان وهذا يقع للكفار المستغيثين بمن يحسنون به الظن من الأموات والأحياء كالنصارى المستغيثين بجرجس وغيره من قداديسهم ويقع لأهل الشرك والضلال من المنتسبين إلى الإسلام الذين يستغيثون بالموتى والغائبين يتصور لهم الشيطان في صورة ذلك المستغاث به وهو لا يشعر . وأعرف عددا كثيرا وقع لهم في عدة أشخاص يقول لي كل من الأشخاص : أني لم أعرف أن هذا استغاث بي والمستغيث قد رأى ذلك الذي هو على صورة هذا وما اعتقد أنه إلا هذا . وذكر لي غير واحد أنهم استغاثوا بي كل يذكر قصة غير قصة صاحبه فأخبرت كلا منهم أني لم أجب أحدا منهم ولا علمت باستغاثته فقيل : هذا يكون ملكا فقلت : الملك لا يغيث المشرك إنما هو شيطان أراد أن يضله . وكذلك يتصور بصورته ويقف بعرفات فيظن من يحسن به الظن أنه وقف بعرفات وكثير منهم حمله الشيطان إلى عرفات أو غيرها من الحرم فيتجاوز الميقات بلا إحرام ولا تلبية ولا يطوف بالبيت ولا بالصفا والمروة وفيهم من لا يعبر مكة وفيهم من يقف بعرفات ويرجع ولا يرمي الجمار إلى أمثال ذلك من الأمور التي يضلهم بها الشيطان حيث فعلوا ما هو منهي عنه في الشرع إما محرم وإما مكروه ليس بواجب ولا مستحب وقد زين لهم الشيطان أن هذا من كرامات الصالحين وهو من تلبيس الشيطان فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب وكل من عبد عبادة ليست واجبة ولا مستحبة وظنها واجبة أو مستحبة فإنما زين ذلك له الشيطان وإن قدر أنه عفا عنه لحسن قصده واجتهاده لكن ليس هذا مما يكرم الله به أولياءه المتقين إذ ليس في فعل المحرمات والمكروهات إكرام بل الإكرام حفظه من ذلك ومنعه منه ؛ فإن ذلك ينقصه لا يزيده وإن لم يعاقب عليه بالعذاب فلا بد أن يخفضه عما كان ويخفض أتباعه الذين يمدحون هذه الحال ويعظمون صاحبها فإن مدح المحرمات والمكروهات وتعظيم صاحبها هو من الضلال عن سبيل الله وكلما ازداد العبد في البدع اجتهادا ازداد من الله بعدا لأنها تخرجه عن سبيل الله ؛ سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى بعض سبيل المغضوب عليهم والضالين .

فصل إذا عرف الأصل في هذا الباب فنقول : يجوز بل يستحب وقد يجب أن يذب عن المظلوم وأن ينصر ؛ فإن نصر المظلوم مأمور به بحسب الإمكان وفي الصحيحين حديث البراء بن عازب قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع أمرنا بعيادة المريض واتباع الجنازة وتشميت العاطس وإبرار القسم أو المقسم ونصر المظلوم وإجابة الداعي وإفشاء السلام . ونهانا عن خواتيم أو تختم الذهب ؛ وعن شرب بالفضة ؛ وعن المياثر وعن القسي ولبس الحرير ؛ والإستبرق والديباج } . وفي الصحيح عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { انصر أخاك ظالما أو مظلوما قلت : يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما ؟ قال : تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه } وأيضا ففيه تفريج كربة هذا المظلوم . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه } . وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرقى قال : من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل } لكن ينصر بالعدل كما أمر الله ورسوله مثل الأدعية والأذكار الشرعية ومثل أمر الجني ونهيه كما يؤمر الإنسي وينهى ويجوز من ذلك ما يجوز مثله في حق الإنسي مثل أن يحتاج إلى انتهار الجني وتهديده ولعنه وسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال : { قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعناه يقول : أعوذ بالله منك ثم قال : ألعنك بلعنة الله ثلاثا وبسط يده كأنه يتناول شيئا فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله قد سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ورأيناك بسطت يدك قال : إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة فلم يستأخر ثلاث مرات ثم أردت أخذه ووالله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة } ففي هذا الحديث الاستعاذة منه ولعنته بلعنة الله ولم يستأخر بذلك فمد يده إليه . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الشيطان عرض لي فشد علي ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه فذعته ولقد هممت أن أوثقه إلى سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول أخي سليمان { رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي } فرده الله خاسئا } فهذا الحديث يوافق الأول ويفسره وقوله : " ذعته " أي : خنقته فبين أن مد اليد كان لخنقه وهذا دفع لعدوانه بالفعل وهو الخنق وبه اندفع عدوانه فرده الله خاسئا . وأما الزيادة وهو ربطه إلى السارية فهو من باب التصرف الملكي الذي تركه لسليمان فإن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يتصرف في الجن كتصرفه في الإنس تصرف عبد رسول يأمرهم بعبادة الله وطاعته لا يتصرف لأمر يرجع إليه وهو التصرف الملكي ؛ فإنه كان عبدا رسولا وسليمان نبي ملك والعبد الرسول أفضل من النبي الملك كما أن السابقين المقربين أفضل من عموم الأبرار أصحاب اليمين وقد روى النسائي على شرط البخاري { عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فأتاه الشيطان فأخذه فصرعه فخنقه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وجدت برد لسانه على يدي ولولا دعوة سليمان لأصبح موثقا حتى يراه الناس } . ورواه أحمد وأبو داود من حديث أبي سعيد وفيه : { فأهويت بيدي فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين : الإبهام والتي تليها } وهذا فعله في الصلاة وهذا مما احتج به العلماء على جواز مثل هذا في الصلاة وهو كدفع المار وقتل الأسودين والصلاة حال المسايفة . وقد تنازع العلماء في شيطان الجن إذا مر بين يدي المصلي هل يقطع ؟ على قولين هما قولان في مذهب أحمد كما ذكرهما ابن حامد وغيره : أحدهما : يقطع لهذا الحديث ؛ ولقوله لما أخبر أن مرور الكلب الأسود يقطع للصلاة : { الكلب الأسود شيطان } فعلل بأنه شيطان . وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الكلب الأسود شيطان الكلاب والجن تتصور بصورته كثيرا وكذلك صورة القط الأسود ؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره وفيه قوة الحرارة . ومما يتقرب به إلى الجن الذبائح فإن من الناس من يذبح للجن وهو من الشرك الذي حرمه الله ورسوله وروي أنه نهى عن ذبائح الجن وإذا برئ المصاب بالدعاء . والذكر وأمر الجن ونهيهم وانتهارهم وسبهم ولعنهم ونحو ذلك من الكلام حصل المقصود وإن كان ذلك يتضمن مرض طائفة من الجن أو موتهم فهم الظالمون لأنفسهم إذا كان الراقي الداعي المعالج لم يتعد عليهم كما يتعدى عليهم كثير من أهل العزائم فيأمرون بقتل من لا يجوز قتله وقد يحبسون من لا يحتاج إلى حبسه ؛ ولهذا قد تقاتلهم الجن على ذلك ففيهم من تقتله الجن أو تمرضه وفيهم من يفعل ذلك بأهله وأولاده أو دوابه . وأما من سلك في دفع عداوتهم مسلك العدل الذي أمر الله به ورسوله فإنه لم يظلمهم بل هو مطيع لله ورسوله في نصر المظلوم وإغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب بالطريق الشرعي التي ليس فيها شرك بالخلق ولا ظلم للمخلوق ومثل هذا لا تؤذيه الجن إما لمعرفتهم بأنه عادل ؛ وإما لعجزهم عنه . وإن كان الجن من العفاريت وهو ضعيف فقد تؤذيه فينبغي لمثل هذا أن يحترز بقراءة العوذ مثل آية الكرسي والمعوذات والصلاة والدعاء ونحو ذلك مما يقوي الإيمان ويجنب الذنوب التي بها يسلطون عليه فإنه مجاهد في سبيل الله وهذا من أعظم الجهاد فليحذر أن ينصر العدو عليه بذنوبه وإن كان الأمر فوق قدرته فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها فلا يتعرض من البلاء لما لا يطيق . ومن أعظم ما ينتصر به عليهم آية الكرسي فقد ثبت في صحيح البخاري حديث { أبي هريرة قال : وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال : فخليت عنه فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال : أما أنه قد كذبك وسيعود فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك ؟ قلت : يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله قال : أما إنه قد كذبك وسيعود فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت : ما هن ؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال : ما هي ؟ قلت : قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ قلت : لا . قال : ذاك شيطان } . ومع هذا فقد جرب المجربون الذين لا يحصون كثرة أن لها من التأثير في دفع الشياطين وإبطال أحوالهم ما لا ينضبط من كثرته وقوته فإن لها تأثيرا عظيما في دفع الشيطان عن نفس الإنسان وعن المصروع وعن من تعينه الشياطين مثل أهل الظلم والغضب وأهل الشهوة والطرب وأرباب السماع المكاء والتصدية إذا قرئت عليهم بصدق دفعت الشياطين وبطلت الأمور التي يخيلها الشيطان ويبطل ما عند إخوان الشياطين من مكاشفة شيطانية وتصرف شيطاني إذ كانت الشياطين يوحون إلى أوليائهم بأمور يظنها الجهال من كرامات أولياء الله المتقين وإنما هي من تلبيسات الشياطين على أوليائهم المغضوب عليهم والضالين . والصائل المعتدي يستحق دفعه سواء كان مسلما أو كافرا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد } فإذا كان المظلوم له أن يدفع عن مال المظلوم ولو بقتل الصائل العادي فكيف لا يدفع عن عقله وبدنه وحرمته فإن الشيطان يفسد عقله ويعاقبه في بدنه وقد يفعل معه فاحشة إنسي بإنسي وإن لم يندفع إلا بالقتل جاز قتله . وأما إسلام صاحبه والتخلي عنه فهو مثل إسلام أمثاله من المظلومين وهذا فرض على الكفاية مع القدرة ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه } فإن كان عاجزا عن ذلك أو هو مشغول بما هو أوجب منه أو قام به غيره لم يجب وإن كان قادرا وقد تعين عليه ولا يشغله عما هو أوجب منه وجب عليه . وأما قول السائل : هل هذا مشروع ؟ فهذا من أفضل الأعمال وهو من أعمال الأنبياء والصالحين ؛ فإنه ما زال الأنبياء والصالحون يدفعون الشياطين عن بني آدم بما أمر الله به ورسوله كما كان المسيح يفعل ذلك وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فقد روى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه من حديث مطر بن عبد الرحمن الأعنق قال : حدثتني { أم أبان بنت الوازع بن زارع في عامر العبدي ؛ عن أبيها أن جدها الزارع انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق معه بابن له مجنون - أو ابن أخت له - قال جدي : فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : إن معي ابنا لي - أو ابن أخت لي - مجنون أتيتك به تدعو الله له . قال : ائتني به قال : فانطلقت به إليه وهو في الركاب فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ادنه مني اجعل ظهره مما يليني قال : بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله فجعل يضرب ظهره حتى رأيت بياض إبطيه ويقول : اخرج عدو الله اخرج عدو الله فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول ثم أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه فدعا له بماء فمسح وجهه ودعا له فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه } . وقال أحمد في المسند : ثنا عبد الله بن نمير ؛ عن عثمان بن حكيم أنا عبد الرحمن بن عبد العزيز ؛ { عن يعلى بن مرة قال : لقد رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ما رآها أحد قبلي ولا يراها أحد بعدي لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها فقالت : يا رسول الله هذا صبي أصابه بلاء وأصابنا منه بلاء يؤخذ في اليوم ما أدري كم مرة قال : ناولينيه فرفعته إليه فجعله بينه وبين واسطة الرحل ثم فغر فاه فنفث فيه ثلاثا وقال : بسم الله أنا عبد الله اخسأ عدو الله ثم ناولها إياه فقال : ألقينا في الرجعة في هذا المكان فأخبرينا ما فعل قال : فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث فقال : ما فعل صبيك ؟ فقالت : والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئا حتى الساعة فاجترر هذه الغنم قال : انزل خذ منها واحدة ورد البقية } . وذكر الحديث بتمامه . ثنا وكيع قال : ثنا الأعمش ؛ عن المنهال بن عمرو ؛ عن يعلى بن مرة ؛ عن أبيه قال وكيع : مرة يعني الثقفي ؛ ولم يقل : مرة عن أبيه : { أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معها صبي لها به لمم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخرج عدو الله أنا رسول الله قال : فبرأ قال : فأهدت إليه كبشين وشيئا من أقط وشيئا من سمن قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ الأقط والسمن وخذ أحد الكبشين ورد عليها الآخر } . ثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر ؛ عن عطاء بن السائب ؛ عن عبد الله بن حفص { عن يعلى بن مرة الثقفي قال : ثلاثة أشياء رأيتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث وفيه قال : ثم سرنا فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جنة فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنخره فقال : اخرج إني محمد رسول الله قال : ثم سرنا فلما رجعنا من سفرنا مررنا بذلك الماء فأتته المرأة بجزر ولبن فأمرها أن ترد الجزر وأمر أصحابه فشربوا من اللبن فسألها عن الصبي فقالت : والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبا بعدك } . ولو قدر أنه لم ينقل ذلك لكون مثله لم يقع عند الأنبياء ؛ لكون الشياطين لم تكن تقدر [ أن ] تفعل ذلك عند الأنبياء وفعلت ذلك عندنا فقد أمرنا الله ورسوله من نصر المظلوم والتنفيس عن المكروب ونفع المسلم بما يتناول ذلك . وقد ثبت في الصحيحين حديث الذين رقوا بالفاتحة وقال النبي صلى الله عليه وسلم { وما أدراك أنها رقية } { وأذن لهم في أخذ الجعل على شفاء اللديغ بالرقية } وقد { قال النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان الذي أراد قطع صلاته : أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله التامة ثلاث مرات } وهذا كدفع ظالمي الإنس من الكفار والفجار ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإن كانوا لم يروا الترك ولم يكونوا يرمون بالقسي الفارسية ونحوها مما يحتاج إليه في قتال فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم وأخبر أن أمته ستقاتلهم ومعلوم أن قتالهم النافع إنما هو بالقسي الفارسية ولو قوتلوا بالقسي العربية التي تشبه قوس القطن لم تغن شيئا ؛ بل استطالوا على المسلمين بقوة رميهم فلا بد من قتالهم بما يقهرهم . وقد قال بعض المسلمين لعمر بن الخطاب : إن العدو إذا رأيناهم قد لبسوا الحرير وجدنا في قلوبنا روعة فقال : وأنتم فالبسوا كما لبسوا . وقد { أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في عمرة القضية بالرمل والاضطباع } ليري المشركين قوتهم وإن لم يكن هذا مشروعا قبل هذا ففعل لأجل الجهاد ما لم يكن مشروعا بدون ذلك . ولهذا قد يحتاج في إبراء المصروع ودفع الجن عنه إلى الضرب فيضرب ضربا كثيرا جدا والضرب إنما يقع على الجني ولا يحس به المصروع حتى يفيق المصروع ويخبر أنه لم يحس بشيء من ذلك ولا يؤثر في بدنه ويكون قد ضرب بعصا قوية على رجليه نحو ثلاثمائة أو أربعمائة ضربة وأكثر وأقل بحيث لو كان على الإنسي لقتله وإنما هو على الجني والجني يصيح ويصرخ ويحدث الحاضرين بأمور متعددة كما قد فعلنا نحن هذا وجربناه مرات كثيرة يطول وصفها بحضرة خلق كثيرين . وأما الاستعانة عليهم بما يقال ويكتب مما لا يعرف معناه فلا يشرع لا سيما إن كان فيه شرك ؛ فإن ذلك محرم . وعامة ما يقوله أهل العزائم فيه شرك وقد يقرءون مع ذلك شيئا من القرآن ويظهرونه ويكتمون ما يقولونه من الشرك وفي الاستشفاء بما شرعه الله ورسوله ما يغني عن الشرك وأهله . والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال ؛ لأن ذلك محرم في كل حال وليس هذا كالتكلم به عند الإكراه . فإن ذلك إنما يجوز إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان والتكلم به إنما يؤثر إذا كان بقلب صاحبه ولو تكلم به مع طمأنينة قلبه بالإيمان لم يؤثر . والشيطان إذا عرف أن صاحبه مستخف بالعزائم لم يساعده وأيضا فإن المكره مضطر إلى التكلم به ولا ضرورة إلى إبراء المصاب به لوجهين : أحدهما : أنه قد لا يؤثر أكثر مما يؤثر من يعالج بالعزائم فلا يؤثر بل يزيده شرا . والثاني : أن في الحق ما يغني عن الباطل . والناس في هذا الباب ثلاثة أصناف : قوم يكذبون بدخول الجني في الإنس . وقوم يدفعون ذلك بالعزائم المذمومة فهؤلاء يكذبون بالموجود وهؤلاء يعصون بل يكفرون بالمعبود . والأمة الوسط تصدق بالحق الموجود وتؤمن بالإله الواحد المعبود وبعبادته ودعائه وذكره وأسمائه وكلامه فتدفع شياطين الإنس والجن . وأما سؤال الجن وسؤال من يسألهم فهذا إن كان على وجه التصديق لهم في كل ما يخبرون به والتعظيم للمسئول فهو حرام كما ثبت في صحيح مسلم وغيره { عن معاوية بن الحكم السلمي قال : قلت : يا رسول الله أمورا كنا نصنعها في الجاهلية كنا نأتي الكهان قال : فلا تأتوا الكهان } وفي صحيح مسلم أيضا عن عبيد الله ؛ عن نافع ؛ عن صفية ؛ عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما } . وأما إن كان يسأل المسئول ليمتحن حاله ويختبر باطن أمره وعنده ما يميز به صدقه من كذبه فهذا جائز كما ثبت في الصحيحين : { أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ابن صياد فقال : ما يأتيك ؟ فقال : يأتيني صادق وكاذب قال : ما ترى ؟ قال : أرى عرشا على الماء قال : فإني قد خبأت لك خبيئا قال : الدخ الدخ قال : اخسأ فلن تعدو قدرك فإنما أنت من إخوان الكهان } . وكذلك إذا كان يسمع ما يقولونه ويخبرون به عن الجن كما يسمع المسلمون ما يقول الكفار والفجار ليعرفوا ما عندهم فيعتبروا به وكما يسمع خبر الفاسق ويتبين ويتثبت فلا يجزم بصدقه ولا كذبه إلا ببينة كما قال تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة : { أن أهل الكتاب كانوا يقرءون التوراة ويفسرونها بالعربية فقال النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وقولوا : { آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } } فقد جاز للمسلمين سماع ما يقولونه ولم يصدقوه ولم يكذبوه . وقد روي عن أبي موسى الأشعري أنه أبطأ عليه خبر عمر وكان هناك امرأة لها قرين من الجن فسأله عنه فأخبره أنه ترك عمر يسم إبل الصدقة . وفي خبر آخر أن عمر أرسل جيشا فقدم شخص إلى المدينة فأخبر أنهم انتصروا على عدوهم وشاع الخبر فسأل عمر عن ذلك فذكر له فقال : هذا أبو الهيثم بريد المسلمين من الجن وسيأتي بريد الإنس بعد ذلك فجاء بعد ذلك بعدة أيام .

فصل ويجوز أن يكتب للمصاب وغيره من المرضى شيئا من كتاب الله وذكره بالمداد المباح ويغسل ويسقى كما نص على ذلك أحمد وغيره قال عبد الله بن أحمد : قرأت على أبي ثنا يعلى بن عبيد ؛ ثنا سفيان ؛ عن محمد بن أبي ليلى عن الحكم ؛ عن سعيد بن جبير ؛ عن ابن عباس قال : إذا عسر على المرأة ولادتها فليكتب : بسم الله لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } . قال أبي : ثنا أسود بن عامر بإسناده بمعناه وقال : يكتب في إناء نظيف فيسقى قال أبي : وزاد فيه وكيع فتسقى وينضح ما دون سرتها قال عبد الله : رأيت أبي يكتب للمرأة في جام أو شيء نظيف . وقال أبو عمرو محمد بن أحمد بن حمدان الحيري : أنا الحسن بن سفيان النسوي ؛ حدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية ؛ ثنا علي بن الحسن بن شقيق ؛ ثنا عبد الله بن المبارك ؛ عن سفيان ؛ عن ابن أبي ليلى ؛ عن الحكم ؛ عن سعيد بن جبير ؛ عن ابن عباس قال : إذا عسر على المرأة ولادها فليكتب : بسم الله لا إله إلا الله العلي العظيم لا إله إلا الله الحليم الكريم ؛ سبحان الله وتعالى رب العرش العظيم ؛ والحمد لله رب العالمين { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } { كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } . قال علي : يكتب في كاغدة فيعلق على عضد المرأة قال علي : وقد جربناه فلم نر شيئا أعجب منه فإذا وضعت تحله سريعا ثم تجعله في خرقة أو تحرقه . آخر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه .

تم نسخه من موقع الإسلام
شبكة مشكاة الإسلامية
....يتبع

سقراط 17-07-04 10:43 PM

رسالة في أمراض القلوب وشفاؤها
شيخ الإسلام ابن تيمية


مكتبة مشكاة الإسلامية



وقال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما
فصل " في مرض القلوب وشفائها "
قال الله تعالى عن المنافقين : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } وقال تعالى : { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم } وقال : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } وقال : { ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } وقال تعالى : { قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } وقال : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } وقال : { ويشف صدور قوم مؤمنين } { ويذهب غيظ قلوبهم } . و " مرض البدن " خلاف صحته وصلاحه وهو فساد يكون فيه يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية فإدراكه إما أن يذهب كالعمى والصمم . وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه كما يدرك الحلو مرا وكما يخيل إليه أشياء لا حقيقة لها في الخارج . وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته عن الهضم أو مثل أن يبغض الأغذية التي يحتاج إليها ويحب الأشياء التي تضره ويحصل له من الآلام بحسب ذلك ؛ ولكن مع ذلك المرض لم يمت ولم يهلك ؛ بل فيه نوع قوة على إدراك الحركة الإرادية في الجملة [ فيتولد من ذلك ] ألم يحصل في البدن إما بسبب فساد الكمية أو الكيفية : ( فالأول أما نقص المادة فيحتاج إلى غذاء وأما بسبب زياداتها فيحتاج إلى استفراغ . و ( الثاني كقوة في الحرارة والبرودة خارج عن الاعتدال فيداوى .

فصل وكذلك " مرض القلب "
هو نوع فساد يحصل له يفسد به تصوره وإرادته فتصوره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق أو يراه على خلاف ما هو عليه وإرادته بحيث يبغض الحق النافع ويحب الباطل الضار ؛ فلهذا يفسر المرض تارة بالشك والريب . كما فسر مجاهد وقتادة قوله : { في قلوبهم مرض } أي شك . وتارة يفسر بشهوة الزنا كما فسر به قوله : { فيطمع الذي في قلبه مرض } . ولهذا صنف الخرائطي " كتاب اعتلال القلوب " أي مرضها وأراد به مرضها بالشهوة والمريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح فيضره يسير الحر والبرد والعمل ونحو ذلك من الأمور التي لا يقوى عليها لضعفه بالمرض . والمرض في الجملة يضعف المريض بجعل قوته ضعيفة لا تطيق ما يطيقه القوي والصحة تحفظ بالمثل وتزال بالضد والمرض يقوى بمثل سببه . ويزول بضده فإذا حصل للمريض مثل سبب مرضه زاد مرضه وزاد ضعف قوته حتى ربما يهلك . وإن حصل له ما يقوي القوة ويزيل المرض كان بالعكس . و " مرض القلب " ألم يحصل في القلب كالغيظ من عدو استولى عليك فإن ذلك يؤلم القلب . قال الله تعالى : { ويشف صدور قوم مؤمنين } { ويذهب غيظ قلوبهم } فشفاؤهم بزوال ما حصل في قلوبهم من الألم ويقال : فلان شفي غيظه وفي القود استشفاء أولياء المقتول ونحو ذلك . فهذا شفاء من الغم والغيظ والحزن وكل هذه آلام تحصل في النفس . وكذلك " الشك والجهل " يؤلم القلب قال النبي صلى الله عليه وسلم { هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال } . والشاك في الشيء المرتاب فيه يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين ويقال للعالم الذي أجاب بما يبين الحق : قد شفاني بالجواب . والمرض دون الموت فالقلب يموت بالجهل المطلق ويمرض بنوع من الجهل فله موت ومرض وحياة وشفاء وحياته وموته ومرضه وشفاؤه أعظم من حياة البدن وموته ومرضه وشفائه فلهذا مرض القلب إذا ورد عليه شبهة أو شهوة قوت مرضه وإن حصلت له حكمة وموعظة كانت من أسباب صلاحه وشفائه . قال تعالى : { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض } لأن ذلك أورث شبهة عندهم والقاسية قلوبهم ليبسها فأولئك قلوبهم ضعيفة بالمرض فصار ما ألقى الشيطان فتنة لهم وهؤلاء كانت قلوبهم قاسية عن الإيمان فصار فتنة لهم . وقال : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة } كما قال : { وليقول الذين في قلوبهم مرض } لم تمت قلوبهم كموت الكفار والمنافقين وليست صحيحة صالحة كصالح قلوب المؤمنين بل فيها مرض شبهة وشهوات وكذلك { فيطمع الذي في قلبه مرض } وهو مرض الشهوة فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها بخلاف القلب المريض بالشهوة فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض . والقرآن شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره فيبقى القلب محبا للرشاد مبغضا للغي بعد أن كان مريدا للغي مبغضا للرشاد . فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة حتى يصلح القلب فتصلح إرادته ويعود إلى فطرته التي فطر عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي ويغتذي القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذي البدن بما ينميه ويقومه فإن زكاة القلب مثل نماء البدن . و " الزكاة في اللغة " النماء والزيادة في الصلاح . يقال : زكا الشيء إذا نما في الصلاح فالقلب يحتاج أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة له ولا بد مع ذلك من منع ما يضره فلا ينمو البدن إلا بإعطاء ما ينفعه ومنع ما يضره كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلا بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره وكذلك الزرع لا يزكو إلا بهذا . و " الصدقة " لما كانت تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار صار القلب يزكو بها وزكاته معنى زائد على طهارته من الذنب . قال الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } وكذلك ترك الفواحش يزكو بها القلب . وكذلك ترك المعاصي فإنها بمنزلة الأخلاط الرديئة في البدن ومثل الدغل في الزرع فإذا استفرغ البدن من الأخلاط الرديئة كاستخراج الدم الزائد تخلصت القوة الطبيعية واستراحت فينمو البدن وكذلك القلب إذا تاب من الذنوب كان استفراغا من تخليطاته حيث خلط عملا صالحا وآخر سيئا فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإراداته للأعمال الصالحة واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه . فزكاة القلب بحيث ينمو ويكمل . قال تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا } وقال تعالى : { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم } وقال : { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون } وقال تعالى : { قد أفلح من تزكى } { وذكر اسم ربه فصلى } وقال تعالى : { قد أفلح من زكاها } { وقد خاب من دساها } وقال تعالى : { وما يدريك لعله يزكى } وقال تعالى : { فقل هل لك إلى أن تزكى } { وأهديك إلى ربك فتخشى } فالتزكية وإن كان أصلها النماء والبركة وزيادة الخير فإنما تحصل بإزالة الشر ؛ فلهذا صار التزكي يجمع هذا وهذا . وقال : { وويل للمشركين } { الذين لا يؤتون الزكاة } وهي التوحيد والإيمان الذي به يزكو القلب فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب وإثبات إلهية الحق في القلب وهو حقيقة لا إله إلا الله . وهذا أصل ما تزكو به القلوب . والتزكية جعل الشيء زكيا : إما في ذاته وإما في الاعتقاد والخبر ؛ كما يقال عدلته إذا جعلته عدلا في نفسه أو في اعتقاد الناس قال تعالى : { فلا تزكوا أنفسكم } أي تخبروا بزكاتها وهذا غير قوله : { قد أفلح من زكاها } ولهذا قال : { هو أعلم بمن اتقى } وكان اسم زينب برة فقيل تزكي نفسها فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب . وأما قوله : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء } أي يجعله زاكيا ويخبر بزكاته كما يزكي المزكي الشهود فيخبر بعدلهم . و " العدل " هو الاعتدال والاعتدال هو صلاح القلب كما أن الظلم فساده ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالما لنفسه والظلم خلاف العدل فلم يعدل على نفسه ؛ بل ظلمها ؛ فصلاح القلب في العدل وفساده في الظلم وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم وهو المظلوم كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه فمنه العمل وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر . قال تعالى : { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } . والعمل له أثر في القلب من نفع وضر وصلاح قبل أثره في الخارج فصلاحها عدل لها وفسادها ظلم لها قال تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } وقال تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } قال بعض السلف : إن للحسنة لنورا في القلب وقوة في البدن وضياء في الوجه وسعة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة لظلمة في القلب وسوادا في الوجه ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق . وقال تعالى : { كل امرئ بما كسب رهين } وقال تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة } وقال : { وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } وتبسل أي ترتهن وتحبس وتؤسر ؛ كما أن الجسد إذا صح من مرضه قيل قد اعتدل مزاجه والمرض إنما هو بإخراج المزاج مع أن الاعتدال المحض السالم من الأخلاط لا سبيل إليه لكن الأمثل ؛ فالأمثل ؛ فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم والانحراف . والعدل المحض في كل شيء متعذر علما وعملا ولكن الأمثل فالأمثل ؛ ولهذا يقال : هذا أمثل ويقال للطريقة السلفية : الطريقة المثلى . وقال تعالى : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } وقال تعالى : { وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها } . والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له ثم العدل على الناس في حقوقهم ثم العدل على النفس . والظلم " ثلاثة أنواع " : والظلم كله من أمراض القلوب والعدل صحتها وصلاحها . قال أحمد بن حنبل لبعض الناس : لو صححت لم تخف أحدا أي خوفك من المخلوق هو من مرض فيك كمرض الشرك والذنوب . وأصل صلاح القلب هو حياته واستنارته قال تعالى : { أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } . لذلك ذكر الله حياة القلوب ونورها وموتها وظلمتها في غير موضع . كقوله : { لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين } وقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ثم قال : { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } وقال تعالى : { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } . ومن أنواعه أنه يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن . وفي الحديث الصحيح { مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت } وفي الصحيح أيضا : { اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا } . وقد قال تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات } وذكر سبحانه آية النور وآية الظلمة فقال : { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور } فهذا مثل نور الإيمان في قلوب المؤمنين ثم قال : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } . ( فالأول مثل الاعتقادات الفاسدة والأعمال التابعة لها يحسبها صاحبها شيئا ينفعه فإذا جاءها لم يجدها شيئا ينفعه فوفاه الله حسابه على تلك الأعمال . و ( الثاني : مثل للجهل البسيط وعدم الإيمان والعلم فإن صاحبها في ظلمات بعضها فوق بعض لا يبصر شيئا ؛ فإن البصر إنما هو بنور الإيمان والعلم . قال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } وقال تعالى . { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } وهو برهان الإيمان الذي حصل في قلبه فصرف الله به ما كان هم به وكتب له حسنة كاملة ولم يكتب عليه خطيئة إذ فعل خيرا ولم يفعل سيئة . وقال تعالى : { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } وقال : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات } وقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به } . ولهذا ضرب الله للإيمان " مثلين " . مثلا بالماء الذي به الحياة وما يقترن به من الزبد ومثلا بالنار التي بها النور وما يقترن بما يوقد عليه من الزبد . وكذلك ضرب الله للنفاق " مثلين " قال تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال } وقال تعالى في المنافقين : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون } { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين } { يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير } . فضرب لهم مثلا كالذي أوقد النار كلما أضاءت أطفأها الله والمثل المائي كالمثل النازل من السماء وفيه ظلمات ورعد وبرق يرى . ولبسط الكلام في هذه الأمثال موضع آخر . وإنما المقصود هنا ذكر حياة القلوب وإنارتها وفي الدعاء المأثور { اجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا } . و " الربيع " هو المطر الذي ينزل من السماء فينبت به النبات قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم } . والفصل الذي ينزل فيه أول المطر تسميه العرب الربيع لنزول المطر الذي ينبت الربيع فيه وغيرهم يسمي الربيع الفصل الذي يلي الشتاء ؛ فإن فيه تخرج الأزهار التي تخلق منها الثمار وتنبت الأوراق على الأشجار . والقلب الحي المنور ؛ فإنه لما فيه من النور يسمع ويبصر ويعقل والقلب الميت فإنه لا يسمع ولا يبصر . قال تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } وقال تعالى : { ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون } { ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون } وقال تعالى : { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين } الآيات . فأخبر أنهم لا يفقهون بقلوبهم ولا يسمعون بآذانهم ولا يؤمنون بما رأوه من النار كما أخبر عنهم حيث قالوا : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } . فذكروا الموانع على القلوب ، والسمع والأبصار وأبدانهم حية تسمع الأصوات وترى الأشخاص ؛ لكن حياة البدن بدون حياة القلب من جنس حياة البهائم لها سمع وبصر وهي تأكل وتشرب وتنكح ولهذا قال تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } . فشبههم بالغنم الذي ينعق بها الراعي وهي لا تسمع إلا نداء . كما قال في الآية الأخرى : { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا } وقال تعالى : { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل } فطائفة من المفسرين تقول في هذه الآيات وما أشبهها كقوله : { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } وأمثالها مما ذكر الله في عيوب الإنسان وذمها فيقول هؤلاء : هذه الآية في الكفار والمراد بالإنسان هنا الكافر فيبقى من يسمع ذلك يظن أنه ليس لمن يظهر الإسلام في هذا الذم والوعيد نصيب ؛ بل يذهب وهمه إلى من كان مظهرا للشرك من العرب أو إلى من يعرفهم من مظهري الكفر كاليهود والنصارى ومشركي الترك والهند . ونحو ذلك فلا ينتفع بهذه الآيات التي أنزلها الله ليهتدي بها عباده . فيقال : - أولا - : المظهرون للإسلام فيهم مؤمن ومنافق والمنافقون كثيرون في كل زمان والمنافقون في الدرك الأسفل من النار . ويقال : " ثانيا " الإنسان قد يكون عنده شعبة من نفاق وكفر وإن كان معه إيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : { أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا عاهد غدر . وإذا خاصم فجر } فأخبر أنه من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق . وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه قال لأبي ذر رضي الله عنه { إنك امرؤ فيك جاهلية } وأبو ذر - رضي الله عنه - من أصدق الناس إيمانا وقال في الحديث الصحيح : { أربع في أمتي من أمر الجاهلية : الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم } وقال في الحديث الصحيح { لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : اليهود والنصارى قال : فمن } وقال أيضا في الحديث الصحيح : { لتأخذن أمتي ما أخذت الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع . قالوا : فارس والروم قال : ومن الناس إلا هؤلاء } . وقال ابن أبي مليكة : أدركت ثلاثين من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه وعن علي - أو حذيفة - رضي الله عنهما ما - قال : القلوب " أربعة " . قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أغلف فذاك قلب الكافر وقلب منكوس . فذاك قلب المنافق وقلب فيه مادتان : مادة تمده الإيمان ومادة تمده النفاق فأولئك قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . وإذا عرف هذا علم أن كل عبد ينتفع بما ذكر الله في الإيمان من مدح شعب الإيمان وذم شعب الكفر وهذا كما يقول بعضهم في قوله : { اهدنا الصراط المستقيم } . فيقولون المؤمن قد هدي إلى الصراط المستقيم فأي فائدة في طلب الهدى ثم يجيب بعضهم بأن المراد ثبتنا على الهدى كما تقول العرب للنائم : نم حتى آتيك أو يقول بعضهم ألزم قلوبنا الهدى فحذف الملزوم ويقول بعضهم زدني هدى وإنما يوردون هذا السؤال لعدم تصورهم الصراط المستقيم الذي يطلب العبد الهداية إليه ؛ فإن المراد به العمل بما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه في جميع الأمور . والإنسان وإن كان أقر بأن محمدا رسول الله وأن القرآن حق على سبيل الإجمال فأكثر ما يحتاج إليه من العلم بما ينفعه ويضره وما أمر به وما نهى عنه في تفاصيل الأمور وجزئياتها لم يعرفه وما عرفه فكثير منه لم يعمل بعلمه ولو قدر أنه بلغه كل أمر ونهي في القرآن والسنة فالقرآن والسنة إنما تذكر فيهما الأمور العامة الكلية لا يمكن غير ذلك لا تذكر ما يخص به كل عبد ولهذا أمر الإنسان في مثل ذلك بسؤال الهدى إلى الصراط المستقيم . والهدى إلى الصراط المستقيم يتناول هذا كله يتناول التعريف بما جاء به الرسول مفصلا ويتناول التعريف بما يدخل في أوامره الكليات ويتناول إلهام العمل بعلمه فإن مجرد العلم بالحق لا يحصل به الاهتداء إن لم يعمل بعلمه ولهذا قال لنبيه بعد صلح الحديبية : { إنا فتحنا لك فتحا مبينا } { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما } وقال في حق موسى وهارون : { وآتيناهما الكتاب المستبين } { وهديناهما الصراط المستقيم } والمسلمون قد تنازعوا فيما شاء الله من الأمور الخبرية والعلمية الاعتقادية والعملية مع أنهم كلهم متفقون على أن محمدا حق والقرآن حق فلو حصل لكل منهم الهدى إلى الصراط المستقيم فيما اختلفوا فيه لم يختلفوا ثم الذين علموا ما أمر الله به أكثرهم يعصونه و [ لا ] يحتذون حذوه فلو هدوا إلى الصراط المستقيم في تلك الأعمال لفعلوا ما أمروا به وتركوا ما نهوا عنه والذين هداهم الله من هذه الأمة حتى صاروا من أولياء الله المتقين كان من أعظم أسباب ذلك دعاؤهم الله بهذا الدعاء في كل صلاة مع علمهم بحاجتهم وفاقتهم إلى الله دائما في أن يهديهم الصراط المستقيم . فبدوام هذا الدعاء والافتقار صاروا من أولياء الله المتقين . قال سهل بن عبد الله التستري ليس بين العبد وبين ربه طريق أقرب إليه من الافتقار وما حصل فيه الهدى في الماضي فهو محتاج إلى حصول الهدى فيه في المستقبل وهذا حقيقة قول من يقول : ثبتنا واهدنا لزوم الصراط . وقول من قال : زدنا هدى يتناول ما تقدم ؛ لكن هذا كله هدى منه في المستقبل إلى الصراط المستقيم ؛ فإن العمل في المستقبل بالعلم لم يحصل بعد ولا يكون مهتديا حتى يعمل في المستقبل بالعلم وقد لا يحصل العلم في المستقبل بل يزول عن القلب وإن حصل فقد لا يحصل العمل فالناس كلهم مضطرون إلى هذا الدعاء ؛ ولهذا فرضه الله عليهم في كل صلاة فليسوا إلى شيء من الدعاء أحوج منهم إليه وإذا حصل الهدى إلى الصراط المستقيم حصل النصر والرزق وسائر ما تطلب النفوس من السعادة والله أعلم .

واعلم أن حياة القلب وحياة غيره ليست مجرد الحس والحركة الإرادية أو مجرد العلم والقدرة كما يظن ذلك طائفة من النظار في علم الله وقدرته كأبي الحسين البصري . قالوا : إن حياته أنه بحيث يعلم ويقدر بل الحياة صفة قائمة بالموصوف وهي شرط في العلم والإرادة والقدرة على الأفعال الاختيارية وهي أيضا مستلزمة لذلك فكل حي له شعور وإرادة وعمل اختياري بقدرة وكل ما له علم وإرادة وعمل اختياري فهو حي . والحياء مشتق من الحياة ؛ فإن القلب الحي يكون صاحبه حيا فيه حياء يمنعه عن القبائح فإن حياة القلب هي المانعة من القبائح التي تفسد القلب ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { الحياء من الإيمان } وقال : { الحياء والعي شعبتان من الإيمان . والبذاء والبيان شعبتان من النفاق } فإن الحي يدفع ما يؤذيه ؛ بخلاف الميت الذي لا حياة فيه [ فإنه ] يسمى وقحا والوقاحة الصلابة وهو اليبس المخالف لرطوبة الحياة فإذا كان وقحا يابسا صليب الوجه لم يكن في قلبه حياة توجب حياءه ، وامتناعه من القبح كالأرض اليابسة لا يؤثر فيها وطء الأقدام بخلاف الأرض الخضرة . ولهذا كان الحي يظهر عليه التأثر بالقبح وله إرادة تمنعه عن فعل القبح بخلاف الوقح الذي ليس بحي فلا حياء معه ولا إيمان يزجره عن ذلك . فالقلب إذا كان حيا فمات الإنسان بفراق روحه بدنه كان موت النفس فراقها للبدن ليست هي في نفسها ميتة بمعنى زوال حياتها عنها . ولهذا قال تعالى : { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء } وقال تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء } مع أنهم موتى داخلون في قوله : { كل نفس ذائقة الموت } وفي قوله : { إنك ميت وإنهم ميتون } وقوله : { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } فالموت المثبت غير الموت المنفي . المثبت هو فراق الروح البدن والمنفي زوال الحياة بالجملة عن الروح والبدن . وهذا كما أن النوم أخو الموت فيسمى وفاة ويسمى موتا وإن كانت الحياة موجودة فيهما . قال الله تعالى : { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } . وكان { النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول : الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور } وفي حديث آخر : { الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا } وإذا أوى إلى فراشه يقول : { اللهم أنت خلقت نفسي وأنت توفاها لك مماتها ومحياها إن أمسكتها فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين } ويقول : { باسمك اللهم أموت وأحيا }

فصل ومن أمراض القلوب " الحسد " كما قال بعضهم في حده : إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأغنياء فلا يجوز أن يكون الفاضل حسودا ؛ لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل وقد قال طائفة من الناس : إنه تمني زوال النعمة عن المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها بخلاف الغبطة فإنه تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط . والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود وهو نوعان : ( أحدهما كراهة للنعمة عليه مطلقا فهذا هو الحسد المذموم وإذا أبغض ذلك فإنه يتألم ويتأذى بوجود ما يبغضه فيكون ذلك مرضا في قلبه ويلتذ بزوال النعمة عنه وإن لم يحصل له نفع بزوالها ؛ لكن نفعه زوال الألم الذي كان في نفسه ولكن ذلك الألم لم يزل إلا بمباشرة منه وهو راحة وأشده كالمريض الذي عولج بما يسكن وجعه والمرض باق ؛ فإن بغضه لنعمة الله على عبده مرض فإن تلك النعمة قد تعود على المحسود وأعظم منها وقد يحصل نظير تلك النعمة لنظير ذلك المحسود . والحاسد ليس له غرض في شيء معين ؛ لكن نفسه تكره ما أنعم به على النوع . ولهذا قال من قال : إنه تمني زوال النعمة فإن من كره النعمة على غيره تمنى زوالها بقلبه . و ( النوع الثاني : أن يكره فضل ذلك الشخص عليه فيحب أن يكون مثله أو أفضل منه فهذا حسد وهو الذي سموه الغبطة وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حسدا في الحديث المتفق عليه من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : { لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ورجل آتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق } هذا لفظ ابن مسعود . ولفظ ابن عمر { رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار } رواه البخاري من حديث أبي هريرة ولفظه : { لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه الليل والنهار فسمعه رجل فقال : يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل : يا ليتني أوتيت مثل ما أوتي هذا فعملت فيه مثل ما يعمل هذا } فهذا الحسد الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم إلا في موضعين هو الذي سماه أولئك الغبطة وهو أن يحب مثل حال الغير ويكره أن يفضل عليه . فإن قيل : إذا لم سمي حسدا وإنما أحب أن ينعم الله عليه ؟ . قيل مبدأ هذا الحب هو نظره إلى إنعامه على الغير وكراهته أن يتفضل عليه ولولا وجود ذلك الغير لم يحب ذلك فلما كان مبدأ ذلك كراهته أن يتفضل عليه الغير كان حسدا ؛ لأنه كراهة تتبعها محبة وأما من أحب أن ينعم الله عليه مع عدم التفاته إلى أحوال الناس فهذا ليس عنده من الحسد شيء . ولهذا يبتلى غالب الناس بهذا القسم الثاني وقد تسمى المنافسة فيتنافس الاثنان في الأمر المحبوب المطلوب كلاهما يطلب أن يأخذه وذلك لكراهية أحدهما أن يتفضل عليه الآخر كما يكره المستبقان كل منهما أن يسبقه الآخر والتنافس ليس مذموما مطلقا بل هو محمود في الخير . قال تعالى : { إن الأبرار لفي نعيم } { على الأرائك ينظرون } { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } { يسقون من رحيق مختوم } { ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } فأمر المنافس أن ينافس في هذا النعيم لا ينافس في نعيم الدنيا الزائل وهذا موافق لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نهى عن الحسد إلا فيمن أوتي العلم فهو يعمل به ويعلمه ومن أوتي المال فهو ينفقه فأما من أوتي علما ولم يعمل به ولم يعلمه أو أوتي مالا ولم ينفقه في طاعة الله فهذا لا يحسد ولا يتمنى مثل حاله فإنه ليس في خير يرغب فيه بل هو معرض للعذاب ومن ولي ولاية فيأتيها بعلم وعدل أدى الأمانات إلى أهلها وحكم بين الناس بالكتاب والسنة فهذا درجته عظيمة ؛ لكن هذا في جهاد عظيم كذلك المجاهد في سبيل الله . والنفوس لا تحسد من هو في تعب عظيم فلهذا لم يذكره وإن كان المجاهد في سبيل الله أفضل من الذي ينفق المال ؛ بخلاف المنفق والمعلم فإن هذين ليس لهم في العادة عدو من خارج فإن قدر أنهما لهما عدو يجاهدانه . فذلك أفضل لدرجتهما وكذلك لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم المصلي والصائم والحاج ؛ لأن هذه الأعمال لا يحصل منها في العادة من نفع الناس الذي يعظمون به الشخص ويسودونه ما يحصل بالتعليم والإنفاق . والحسد في الأصل إنما يقع لما يحصل للغير من السؤدد والرياسة وإلا فالعامل لا يحسد في العادة ولو كان تنعمه بالأكل والشرب والنكاح أكثر من غيره بخلاف هذين النوعين فإنهما يحسدان كثيرا ولهذا يوجد بين أهل العلم الذين لهم أتباع من الحسد ما لا يوجد فيمن ليس كذلك وكذلك فيمن له أتباع بسبب إنفاق ماله فهذا ينفع الناس بقوت القلوب وهذا ينفعهم بقوت الأبدان والناس كلهم محتاجون إلى ما يصلحهم من هذا وهذا . ولهذا ضرب الله سبحانه " مثلين " : مثلا بهذا ومثلا بهذا فقال : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } . و ( المثلان ضربهما الله سبحانه لنفسه المقدسة ولما يعبد من دونه ؛ فإن الأوثان لا تقدر لا على عمل ينفع ولا على كلام ينفع فإذا قدر عبد مملوك لا يقدر على شيء وآخر قد رزقه الله رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوي هذا المملوك العاجز عن الإحسان وهذا القادر على الإحسان المحسن إلى الناس سرا وجهرا وهو سبحانه قادر على الإحسان إلى عباده وهو محسن إليهم دائما فكيف يشبه به العاجز المملوك الذي لا يقدر على شيء حتى يشرك به معه وهذا مثل الذي أعطاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار . و ( المثل الثاني إذا قدر شخصان أحدهما أبكم لا يعقل ولا يتكلم ولا يقدر على شيء وهو مع هذا كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير فليس فيه من نفع قط بل هو كل على من يتولى أمره وآخر عالم عادل يأمر بالعدل ويعمل بالعدل فهو على صراط مستقيم . وهذا نظير الذي أعطاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها الناس . وقد ضرب ذلك مثلا لنفسه ؛ فإنه سبحانه عالم عادل قادر يأمر بالعدل وهو قائم بالقسط على صراط مستقيم . كما قال تعالى : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم } وقال هود : { إن ربي على صراط مستقيم } . ولهذا كان الناس يعظمون دار العباس كان عبد الله يعلم الناس وأخوه يطعم الناس فكانوا يعظمون على ذلك . ورأى معاوية الناس يسألون ابن عمر عن المناسك وهو يفتيهم فقال : هذا والله الشرف أو نحو ذلك . هذا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه نافس أبا بكر رضي الله عنه الإنفاق كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما . قال : فجئت بنصف مالي قال : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قلت مثله وأتى أبو بكر رضي الله عنه بكل ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك قال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شيء أبدا } . فكان ما فعله عمر من المنافسة والغبطة المباحة ؛ لكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه وهو أنه خال من المنافسة مطلقا لا ينظر إلى حال غيره . وكذلك { موسى صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج حصل له منافسة وغبطة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى بكى لما تجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له : ما يبكيك ؟ فقال : أبكي ؛ لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي } أخرجاه في الصحيحين وروي في بعض الألفاظ المروية غير الصحيح { مررنا على رجل وهو يقول ويرفع صوته : أكرمته وفضلته قال : فرفعناه إليه فسلمنا عليه فرد السلام فقال : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا أحمد قال : مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته قال : ثم اندفعنا فقلت من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا موسى بن عمران قلت : ومن يعاتب ؟ قال : يعاتب ربه فيك قلت : ويرفع صوته على ربه قال إن الله عز وجل قد عرف صدقه } . وعمر رضي الله عنه كان مشبها بموسى ونبينا حاله أفضل من حال موسى فإنه لم يكن عنده شيء من ذلك . وكذلك كان في الصحابة أبو عبيدة بن الجراح ونحوه كانوا سالمين من جميع هذه الأمور فكانوا أرفع درجة ممن عنده منافسة وغبطة وإن كان ذلك مباحا ولهذا استحق أبو عبيدة رضي الله عنه أن يكون أمين هذه الأمة فإن المؤتمن إذا لم يكن في نفسه مزاحمة على شيء مما اؤتمن عليه كان أحق بالأمانة ممن يخاف مزاحمته ؛ ولهذا يؤتمن على النساء والصبيان الخصيان ويؤتمن على الولاية الصغرى من يعرف أنه لا يزاحم على الكبرى ويؤتمن على المال من يعرف أنه ليس له غرض في أخذ شيء منه وإذا اؤتمن من في نفسه خيانة شبه بالذئب المؤتمن على الغنم فلا يقدر أن يؤدي الأمانة في ذلك لما في نفسه من الطلب لما اؤتمن عليه . وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن { أنس رضي الله عنه قال : كنا يوما جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة قال : فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوء قد علق نعليه في يده الشمال فسلم فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فطلع ذلك الرجل على مثل حاله فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مقالته فطلع ذلك الرجل على مثل حاله فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم اتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فقال : إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت قال : نعم قال أنس رضي الله عنه فكان عبد الله يحدث أنه بات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئا ؛ غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم إلى صلاة الفجر فقال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا فلما فرغنا من الثلاث وكدت أن أحقر عمله قلت : يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات يطلع عليكم رجل من أهل الجنة فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي بذلك فلم أرك تعمل كثير عمل فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ما هو إلا ما رأيت غير أنني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشا ولا حسدا على خير أعطاه الله إياه قال عبد الله هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق } . فقول عبد الله بن عمرو له هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد . وبهذا أثنى الله تعالى على الأنصار فقال : { ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } أي مما أوتي إخوانهم المهاجرون قال المفسرون لا يجدون في صدورهم حاجة أي حسدا وغيظا مما أوتي المهاجرون ثم قال بعضهم من مال الفيء وقيل من الفضل والتقدم فهم لا يجدون حاجة مما أوتوا من المال ولا من الجاه والحسد يقع على هذا . وكان بين الأوس والخزرج منافسة على الدين فكان هؤلاء إذا فعلوا ما يفضلون به عند الله ورسوله أحب الآخرون أن يفعلوا نظير ذلك فهو منافسة فيما يقربهم إلى الله كما قال : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } .

وأما الحسد المذموم كله فقد قال تعالى في حق اليهود : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } يودون أي يتمنون ارتدادكم حسدا فجعل الحسد هو الموجب لذلك الود من بعد ما تبين لهم الحق ؛ لأنهم لما رأوا أنكم قد حصل لكم من النعمة ما حصل ؛ بل ما لم يحصل لهم مثله حسدوكم وكذلك في الآية الأخرى : { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما } { فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا } وقال تعالى : { قل أعوذ برب الفلق } { من شر ما خلق } { ومن شر غاسق إذا وقب } { ومن شر النفاثات في العقد } { ومن شر حاسد إذا حسد } . وقد ذكر طائفة من المفسرين أنها ( نزلت بسبب حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم حتى سحروه : سحره لبيد بن الأعصم اليهودي فالحاسد المبغض للنعمة على من أنعم الله عليه بها ظالم معتد والكاره لتفضيله المحب لمماثلته منهي عن ذلك إلا فيما يقربه إلى الله فإذا أحب أن يعطى مثل ما أعطي مما يقربه إلى الله فهذا لا بأس به وإعراض قلبه عن هذا بحيث لا ينظر إلى حال الغير أفضل . ثم هذا الحسد إن عمل بموجبه صاحبه كان ظالما معتديا مستحقا للعقوبة إلا أن يتوب وكان المحسود مظلوما مأمورا بالصبر والتقوى فيصبر على أذى الحاسد ويعفو ويصفح عنه كما قال تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره } وقد ابتلي يوسف بحسد إخوته له حيث قالوا : { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين } فحسدوهما على تفضيل الأب لهما ولهذا قال يعقوب ليوسف : { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين } . ثم إنهم ظلموه بتكلمهم في قتله وإلقائه في الجب وبيعه رقيقا لمن ذهب به إلى بلاد الكفر فصار مملوكا لقوم كفار ثم إن يوسف ابتلي بعد أن ظلم بمن يدعوه إلى الفاحشة ويراود عليها ويستعين عليه بمن يعينه على ذلك فاستعصم واختار السجن على الفاحشة وآثر عذاب الدنيا على سخط الله فكان مظلوما من جهة من أحبه لهواه وغرضه الفاسد . فهذه المحبة أحبته لهوى محبوبها شفاؤها وشفاؤه إن وافقها وأولئك المبغضون أبغضوه بغضة أوجبت أن يصير ملقى في الجب ثم أسيرا مملوكا بغير اختياره فأولئك أخرجوه من إطلاق الحرية إلى رق العبودية الباطلة بغير اختياره وهذه ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوسا مسجونا باختياره فكانت هذه أعظم في محنته وكان صبره هنا صبرا اختياريا اقترن به التقوى بخلاف صبره على ظلمهم فإن ذلك كان من باب المصائب التي من لم يصبر عليها صبر الكرام سلا سلو البهائم . والصبر الثاني أفضل الصبرين ؛ ولهذا قال : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } . وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان وإن لم يفعل أوذي وعوقب فاختار الأذى والعقوبة على فراق دينه : إما الحبس وإما الخروج من بلده كما جرى للمهاجرين حيث اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين وكانوا يعذبون ويؤذون . وقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم بأنواع من الأذى فكان يصبر عليها صبرا اختياريا فإنه إنما يؤذى لئلا يفعل ما يفعله باختياره وكان هذا أعظم من صبر يوسف : لأن يوسف إنما طلب منه الفاحشة وإنما عوقب إذا لم يفعل بالحبس والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طلب منهم الكفر وإذا لم يفعلوا طلبت عقوبتهم بالقتل فما دونه وأهون ما عوقب به الحبس فإن المشركين حبسوه وبني هاشم بالشعب مدة ثم لما مات أبو طالب اشتدوا عليه فلما بايعت الأنصار وعرفوا بذلك صاروا يقصدون منعه من الخروج ويحبسونه هو وأصحابه عن ذلك ولم يكن أحد يهاجر إلا سرا إلا عمر بن الخطاب ونحوه فكانوا قد ألجئوهم إلى الخروج من ديارهم ومع هذا منعوا من منعوه منهم عن ذلك وحبسوه . فكان ما حصل للمؤمنين من الأذى والمصائب هو باختيارهم طاعة لله ورسوله لم يكن من المصائب السماوية التي تجري بدون اختيار العبد من جنس حبس يوسف لا من جنس التفريق بينه وبين أبيه وهذا أشرف النوعين وأهلها أعظم درجة - وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه وتكفر عنه الذنوب بمصائبه - فإن هذا أصيب وأوذي باختياره طاعة لله يثاب على نفس المصائب ويكتب له بها عمل صالح . قال تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين } . بخلاف المصائب التي تجري بلا اختيار العبد كالمرض وموت العزيز عليه وأخذ اللصوص ماله فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها لا على نفس ما يحدث من المصيبة ؛ لكن المصيبة يكفر بها خطاياه فإن الثواب إنما يكون على الأعمال الاختيارية وما يتولد عنها . والذين يؤذون على الإيمان وطاعة الله ورسوله ويحدث لهم بسبب ذلك حرج أو مرض أو حبس أو فراق وطن وذهاب مال وأهل أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال هم في ذلك على طريقة الأنبياء وأتباعهم كالمهاجرين الأولين فهؤلاء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب وعلى غيظه الكفار وإن كانت هذه الآثار ليست عملا فعله يقوم به لكنها متسببة عن فعله الاختياري وهي التي يقال لها متولدة . وقد اختلف الناس هل يقال إنها فعل لفاعل السبب أو لله أو لا فاعل لها والصحيح أنها مشتركة بين فاعل السبب وسائر الأسباب ولهذا كتب له بها عمل صالح . والمقصود أن " الحسد " مرض من أمراض النفس وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا قليل من الناس ولهذا يقال : ما خلا جسد من حسد لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه . وقد قيل للحسن البصري : أيحسد المؤمن ؟ فقال ما أنساك إخوة يوسف لا أبا لك ولكن عمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يدا ولسانا . فمن وجد في نفسه حسدا لغيره فعليه أن يستعمل معه التقوى والصبر . فيكره ذلك من نفسه وكثير من الناس الذين عندهم دين لا يعتدون على المحسود فلا يعينون من ظلمه ولكنهم أيضا لا يقومون بما يجب من حقه بل إذا ذمه أحد لم يوافقوه على ذمه ولا يذكرون محامده وكذلك لو مدحه أحد لسكتوا وهؤلاء مدينون في ترك المأمور في حقه مفرطون في ذلك ؛ لا معتدون عليه وجزاؤهم أنهم يبخسون حقوقهم فلا ينصفون أيضا في مواضع ولا ينصرون على من ظلمهم كما لم ينصروا هذا المحسود وأما من اعتدى بقول أو فعل فذلك يعاقب . ومن اتقى الله وصبر فلم يدخل في الظالمين نفعه الله بتقواه : كما جرى لزينب بنت جحش - رضي الله عنها - فإنها كانت هي التي تسامي عائشة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسد النساء بعضهن لبعض كثير غالب لا سيما المتزوجات بزوج واحد فإن المرأة تغار على زوجها لحظها منه فإنه بسبب المشاركة يفوت بعض حظها . وهكذا الحسد يقع كثيرا بين المتشاركين في رئاسة أو مال إذا أخذ بعضهم قسطا من ذلك وفات الآخر ؛ ويكون بين النظراء لكراهة أحدهما أن يفضل الآخر عليه كحسد إخوة يوسف كحسد ابني آدم أحدهما لأخيه فإنه حسده لكون أن الله تقبل قربانه ولم يتقبل قربان هذا ؛ فحسده على ما فضله الله من الإيمان والتقوى - كحسد اليهود للمسلمين - وقتله على ذلك ؛ ولهذا قيل أول ذنب عصي الله به ثلاثة : الحرص والكبر والحسد . فالحرص من آدم والكبر من إبليس والحسد من قابيل حيث قتل هابيل . وفي الحديث { ثلاث لا ينجو منهن أحد : الحسد والظن والطيرة . وسأحدثكم بما يخرج من ذلك إذا حسدت فلا تبغض وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض } رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم { دب إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد والبغضاء وهي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين } فسماه داء كما سمى البخل داء في قوله : { وأي داء أدوأ من البخل } فعلم أن هذا مرض وقد جاء في حديث آخر { أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء } فعطف الأدواء على الأخلاق والأهواء . فإن " الخلق " ما صار عادة للنفس وسجية . قال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } قال ابن عباس وابن عيينة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم عنهم : على دين عظيم وفي لفظ عن ابن عباس : على دين الإسلام . وكذلك قالت عائشة - رضي الله عنها - : كان خلقه القرآن . وكذلك قال الحسن البصري : أدب القرآن هو الخلق العظيم . وأما " الهوى " فقد يكون عارضا والداء هو المرض وهو تألم القلب والفساد فيه وقرن في الحديث الأول الحسد بالبغضاء ؛ لأن الحاسد يكره أولا فضل الله على ذلك الغير ؛ ثم ينتقل إلى بغضه ؛ فإن بغض اللازم يقتضي بغض الملزوم فإن نعمة الله إذا كانت لازمة وهو يحب زوالها وهي لا تزول إلا بزواله أبغضه وأحب عدمه والحسد يوجب البغي كما أخبر الله تعالى عمن قبلنا : أنهم اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فلم يكن اختلافهم لعدم العلم بل علموا الحق ولكن بغى بعضهم على بعض كما يبغي الحاسد على المحسود . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا تحاسدوا ولا تباغضوا ؛ ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال : يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من رواية أنس أيضا { والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه } . وقد قال تعالى : { وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } { ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما } . فهؤلاء المبطئون لم يحبوا لإخوانهم المؤمنين ما يحبون لأنفسهم بل إن أصابتهم مصيبة فرحوا باختصاصهم وإن أصابتهم نعمة لم يفرحوا لهم بها بل أحبوا أن يكون لهم منها حظ فهم لا يفرحون إلا بدنيا تحصل لهم أو شر دنيوي ينصرف عنهم إذا كانوا لا يحبون الله ورسوله والدار الآخرة ولو كانوا كذلك لأحبوا إخوانهم وأحبوا ما وصل إليهم من فضله وتألموا بما يصيبهم من المصيبة ومن لم يسره ما يسر المؤمنين ويسوءه ما يسوء المؤمنين فليس منهم . ففي الصحيحين عن عامر قال سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد . إذا اشتكى منه شيء تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر } وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه } . والشح مرض والبخل مرض والحسد شر من البخل كما في الحديث الذي رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار } وذلك أن البخيل يمنع نفسه والحسود يكره نعمة الله على عباده وقد يكون في الرجل إعطاء لمن يعينه على أغراضه وحسد لنظرائه وقد يكون فيه بخل بلا حسد لغيره والشح أصل ذلك . وقال تعالى : { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون } وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا } وكان عبد الرحمن بن عوف يكثر من الدعاء في طوافه يقول : اللهم قني شح نفسي فقال له رجل : ما أكثر ما تدعو بهذا فقال : إذا وقيت شح نفسي وقيت الشح والظلم والقطيعة . والحسد يوجب الظلم .

فصل فالبخل والحسد مرض يوجب بغض النفس لما ينفعها بل وحبها لما يضرها ولهذا يقرن الحسد بالحقد والغضب وأما مرض الشهوة والعشق فهو حب النفس لما يضرها وقد يقترن به بغضها لما ينفعها والعشق مرض نفساني وإذا قوي أثر في البدن فصار مرضا في الجسم إما من أمراض الدماغ كالماليخوليا ؛ ولهذا قيل فيه هو مرض وسواسي شبيه بالماليخوليا وإما من أمراض البدن كالضعف والنحول ونحو ذلك . والمقصود هنا " مرض القلب " فإنه أصل محبة النفس لما يضرها كالمريض البدن الذي يشتهي ما يضره وإذا لم يطعم ذلك تألم وإن أطعم ذلك قوي به المرض وزاد . كذلك العاشق يضره اتصاله بالمعشوق مشاهدة وملامسة وسماعا بل ويضره التفكر فيه والتخيل له وهو يشتهي ذلك فإن منع من مشتهاه تألم وتعذب وإن أعطي مشتهاه قوي مرضه وكان سببا لزيادة الألم . وفي الحديث : { أن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه الطعام والشراب } وفي مناجاة موسى المأثورة عن وهب التي رواها الإمام أحمد في ( كتاب الزهد " { يقول الله تعالى : إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مراتع الهلكة . وإني لأجنبهم سكونها وعيشها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرا لم تكلمه الدنيا ولم يطفئه الهوى } . وإنما شفاء المريض بزوال مرضه بل بزوال ذلك الحب المذموم من قلبه . والناس في العشق على قولين : قيل إنه من باب الإرادات وهذا هو المشهور . وقيل : من باب التصورات وأنه فساد في التخييل حيث يتصور المعشوق على ما هو به قال هؤلاء : ولهذا لا يوصف الله بالعشق ولا أنه يعشق ؛ لأنه منزه عن ذلك ولا يحمد من يتخيل فيه خيالا فاسدا . وأما الأولون فمنهم من قال : يوصف بالعشق فإنه المحبة التامة ؛ والله يحب ويحب وروي في أثر عن عبد الواحد بن زيد أنه قال : { لا يزال عبدي يتقرب إلي يعشقني وأعشقه } وهذا قول بعض الصوفية . والجمهور لا يطلقون هذا اللفظ في حق الله ؛ لأن العشق هو المحبة المفرطة الزائدة على الحد الذي ينبغي والله تعالى محبته لا نهاية لها فليست تنتهي إلى حد لا تنبغي مجاوزته . قال هؤلاء : والعشق مذموم مطلقا لا يمدح لا في محبة الخالق ولا المخلوق لأنه المحبة المفرطة الزائدة على الحد المحمود و ( أيضا فإن لفظ " العشق " إنما يستعمل في العرف في محبة الإنسان لامرأة أو صبي لا يستعمل في محبة كمحبة الأهل والمال والوطن والجاه ومحبة الأنبياء والصالحين وهو مقرون كثيرا بالفعل المحرم : إما بمحبة امرأة أجنبية أو صبي يقترن به النظر المحرم واللمس المحرم وغير ذلك من الأفعال المحرمة . وأما محبة الرجل لامرأته أو سريته [ محبة ] تخرجه عن العدل بحيث يفعل لأجلها ما لا يحل ويترك ما يجب كما هو الواقع كثيرا حتى يظلم ابنه من امرأته العتيقة ؛ لمحبته الجديدة وحتى يفعل من مطالبها المذمومة ما يضره في دينه ودنياه مثل أن يخصها بميراث لا تستحقه أو يعطي أهلها من الولاية والمال ما يتعدى به حدود الله أو يسرف في الإنفاق عليها أو يملكها من أمور محرمة تضره في دينه ودنياه وهذا في عشق من يباح له وطؤها . فكيف عشق الأجنبية والذكران من العالمين ؟ ففيه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد وهو من الأمراض التي تفسد دين صاحبها وعرضه ثم قد تفسد عقله ثم جسمه . قال تعالى : { فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض } . ومن في قلبه مرض الشهوة وإرادة الصورة متى خضع المطلوب طمع المريض والطمع الذي يقوي الإرادة والطلب ويقوي المرض بذلك بخلاف ما إذا كان آيسا من المطلوب فإن اليأس يزيل الطمع فتضعف الإرادة فيضعف الحب فإن الإنسان لا يريد أن يطلب ما هو آيس منه فلا يكون مع الإرادة عمل أصلا بل يكون حديث نفس إلا أن يقترن بذلك كلام أو نظر ونحو ذلك فيأثم بذلك . فأما إذا ابتلي بالعشق وعف وصبر فإنه يثاب على تقواه الله وقد روي في الحديث : { أن من عشق فعف وكتم وصبر ثم مات كان شهيدا } وهو معروف من رواية يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا وفيه نظر ولا يحتج بهذا . لكن من المعلوم بأدلة الشرع أنه إذا عف عن المحرمات نظرا وقولا وعملا وكتم ذلك فلم يتكلم به حتى لا يكون في ذلك كلام محرم إما شكوى إلى المخلوق وإما إظهار فاحشة وإما نوع طلب للمعشوق وصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى ما في قلبه من ألم العشق كما يصبر المصاب عن ألم المصيبة ؛ فإن هذا يكون ممن اتقى الله وصبر { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } وهكذا مرض الحسد وغيره من أمراض النفوس وإذا كانت النفس تطلب ما يبغضه الله فينهاها خشية من الله كان ممن دخل في قوله : { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } { فإن الجنة هي المأوى } فالنفس إذا أحبت شيئا سعت في حصوله بما يمكن حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بغضا مذموما وفعل ذلك كان آثما مثل أن يبغض شخصا لحسده له فيؤذي من له به تعلق إما بمنع حقوقهم ؛ أو بعدوان عليهم . أو لمحبة له لهواه معه فيفعل لأجله ما هو محرم أو ما هو مأمور به لله فيفعله لأجل هواه لا لله وهذه أمراض كثيرة في النفوس والإنسان قد يبغض شيئا فيبغض لأجله أمورا كثيرة بمجرد الوهم والخيال . وكذلك يحب شيئا فيحب لأجله أمورا كثيرة ؛ لأجل الوهم والخيال كما قال شاعرهم : أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب فقد أحب سوداء ؛ فأحب جنس السواد حتى في الكلاب وهذا كله مرض في القلب في تصوره وإرادته . فنسأل الله تعالى أن يعافي قلوبنا من كل داء ؛ ونعوذ بالله من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء . والقلب إنما خلق لأجل " حب الله تعالى " وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ؛ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه اقرءوا إن شئتم : { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } } أخرجه البخاري ومسلم . فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده ؛ فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفا بالله محبا له عابدا له وحده لكن تفسد فطرته من مرضه كأبويه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه وهذه كلها تغير فطرته التي فطره عليها وإن كانت بقضاء الله وقدره - كما يغير البدن بالجدع - ثم قد يعود إلى الفطرة إذا يسر الله تعالى لها من يسعى في إعادتها إلى الفطرة . والرسل صلى الله عليهم وسلم بعثوا لتقرير الفطرة وتكميلها لا لتغيير الفطرة وتحويلها وإذا كان القلب محبا لله وحده مخلصا له الدين لم يبتل بحب غيره [ أصلا ] فضلا أن يبتلى بالعشق . وحيث ابتلي بالعشق فلنقص محبته لله وحده . ولهذا لما كان يوسف محبا لله مخلصا له الدين لم يبتل بذلك بل قال تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } . وأما امرأة العزيز فكانت مشركة هي وقومها فلهذا ابتليت بالعشق وما يبتلى بالعشق أحد إلا لنقص توحيده وإيمانه وإلا فالقلب المنيب إلى الله الخائف منه فيه صارفان يصرفان عن العشق : ( أحدهما إنابته إلى الله ومحبته له فإن ذلك ألذ وأطيب من كل شيء فلا تبقى مع محبة الله محبة مخلوق تزاحمه . و ( الثاني خوفه من الله فإن الخوف المضاد للعشق يصرفه وكل من أحب شيئا بعشق أو غير عشق فإنه يصرف عن محبته بمحبة ما هو أحب إليه منه إذا كان يزاحمه وينصرف عن محبته بخوف حصول ضرر يكون أبغض إليه من ترك ذاك الحب فإذا كان الله أحب إلى العبد من كل شيء وأخوف عنده من كل شيء لم يحصل معه عشق ولا مزاحمة إلا عند غفلة أو عند ضعف هذا الحب والخوف بترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات فإن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فكلما فعل العبد الطاعة محبة لله وخوفا منه وترك المعصية حبا له وخوفا منه قوي حبه له وخوفه منه فيزيل ما في القلب من محبة غيره ومخافة غيره . وهكذا أمراض الأبدان : فإن الصحة تحفظ بالمثل والمرض يدفع بالضد فصحة القلب بالإيمان تحفظ بالمثل وهو ما يورث القلب إيمانا من العلم النافع والعمل الصالح فتلك أغذية له كما في حديث ابن مسعود مرفوعا وموقوفا { إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وأن مأدبة الله هي القرآن } والآدب المضيف فهو ضيافة الله لعباده . مثل آخر الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده وفي أدبار الصلوات ويضم إلى ذلك الاستغفار ؛ فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه متعه متاعا حسنا إلى أجل مسمى . وليتخذ وردا من " الأذكار " في النهار ووقت النوم وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه ويكتب الإيمان في قلبه . وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس باطنة وظاهرة فإنها عمود الدين وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها بها تحمل الأثقال وتكابد الأهوال وينال رفيع الأحوال . ولا يسأم من الدعاء والطلب فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول : قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي وليعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ولم ينل أحد شيئا من ختم الخير نبي فمن دونه إلا بالصبر . والحمد لله رب العالمين وله الحمد والمنة على الإسلام والسنة حمدا يكافئ نعمه الظاهرة والباطنة وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . وسلم تسليما كثيرا .
....يتبع

سقراط 17-07-04 10:45 PM

معارج الوصول
شيخ الإسلام ابن تيمية

مكتبة مشكاة الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم تقي الدين أوحد المجتهدين أحمد ابن تيمية - قدس الله روحه ونور ضريحه.
الحمد لله نحمده ونستعينه ؛ ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما .
فصل في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميع الدين أصوله وفروعه ؛ باطنه وظاهره علمه وعمله فإن هذا الأصل هو أصل أصول العلم والإيمان وكل من كان أعظم اعتصاما بهذا الأصل كان أولى بالحق علما وعملا ومن كان أبعد عن الحق علما وعملا : كالقرامطة والمتفلسفة الذين يظنون : أن الرسل ما كانوا يعلمون حقائق العلوم الإلهية والكلية وإنما يعرف ذلك بزعمهم من يعرفه من المتفلسفة ويقولون : خاصة النبوة هي التخييل ويجعلون النبوة أفضل من غيرها عند الجمهور لا عند أهل المعرفة كما يقول هذا ونحوه الفارابي وأمثاله مثل مبشر ابن فاتك وأمثاله من الإسماعيلية . وآخرون يعترفون بأن الرسول علم الحقائق لكن يقولون : لم يبينها بل خاطب الجمهور بالتخييل فيجعلون التخييل في خطابه لا في علمه كما يقول ذلك ابن سينا وأمثاله . وآخرون يعترفون بأن الرسل علموا الحق وبينوه لكن يقولون : لا يمكن معرفته من كلامهم بل يعرف بطريق آخر : إما المعقول عند طائفة ؛ وإما المكاشفة عند طائفة ؛ إما قياس فلسفي ؛ وإما خيال صوفي . ثم بعد ذلك ينظر في كلام الرسول فما وافق ذلك قبل وما خالفه ؛ إما أن يفوض ؛ وإما أن يؤول . وهذه طريقة كثير من أهل الكلام الجهمية والمعتزلة ؛ وهي طريقة خيار الباطنية والفلاسفة الذين يعظمون الرسول وينزهونه عن الجهل والكذب لكن يدخلون في التأويل . وأبو حامد الغزالي لما ذكر في كتابه طرق الناس في التأويل ؛ وأن الفلاسفة زادوا فيه حتى انحلوا ؛ وإن الحق بين جمود الحنابلة وبين انحلال الفلاسفة ؛ وأن ذلك لا يعرف من جهة السمع بل تعرف الحق بنور يقذف في قلبك ؛ ثم ينظر في السمع : فما وافق ذلك قبلته وإلا فلا . وكان مقصوده بالفلاسفة المتأولين خيار الفلاسفة وهم الذين يعظمون الرسول عن أن يكذب للمصلحة ولكن هؤلاء وقعوا في نظير ما فروا منه نسبوه إلى التلبيس والتعمية وإضلال الخلق بل إلى أن يظهر الباطل ويكتم الحق . وابن سينا وأمثاله لما عرفوا أن كلام الرسول لا يحتمل هذه التأويلات الفلسفية ؛ بل قد عرفوا أنه أراد مفهوم الخطاب : سلك مسلك التخييل وقال : إنه خاطب الجمهور بما يخيل إليهم ؛ مع علمه أن الحق في نفس الأمر ليس كذلك . فهؤلاء يقولون : إن الرسل كذبوا للمصلحة . وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية فالذين عظموا الرسل من هؤلاء عن الكذب نسبوهم إلى التلبيس والإضلال والذين أقروا بأنهم بينوا الحق قالوا : إنهم كذبوا للمصلحة . وأما أهل العلم والإيمان فمتفقون على أن الرسل لم يقولوا إلا الحق وأنهم بينوه مع علمهم بأنهم أعلم الخلق بالحق فهم الصادقون المصدوقون علموا الحق وبينوه فمن قال : إنهم كذبوا للمصلحة فهو من إخوان المكذبين للرسل لكن هذا لما رأى ما عملوا من الخير والعدل في العالم لم يمكنه أن يقول : كذبوا لطلب العلو والفساد بل قال : كذبوا لمصلحة الخلق . كما يحكى عن ابن التومرت وأمثاله . ولهذا كان هؤلاء لا يفرقون بين النبي والساحر إلا من جهة حسن القصد فإن النبي يقصد الخير والساحر يقصد الشر وإلا فلكل منهما خوارق هي عندهم قوى نفسانية وكلاهما عندهم يكذب ؛ لكن الساحر يكذب للعلو والفساد والنبي عندهم يكذب للمصلحة ؛ إذ لم يمكنه إقامة العدل فيهم إلا بنوع من الكذب . والذين علموا أن النبوة تناقض الكذب على الله وأن النبي لا يكون إلا صادقا من هؤلاء قالوا : إنهم لم يبينوا الحق ولو أنهم قالوا : سكتوا عن بيانه لكان أقل إلحادا لكن قالوا : إنهم أخبروا بما يظهر منه للناس الباطل ولم يبينوا لهم الحق فعندهم أنهم جمعوا بين شيئين : بين كتمان حق لم يبينوه ؛ وبين إظهار ما يدل على الباطل وإن كانوا لم يقصدوا الباطل فجعلوا كلامهم من جنس المعاريض التي يعني بها المتكلم معنى صحيحا لكن لا يفهم المستمع منها إلا الباطل . وإذا قالوا : قصدوا التعريض كان أقل إلحادا ممن قال : إنهم قصدوا الكذب . والتعريض نوع من الكذب ؛ إذ كان كذبا في الأفهام ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله } وهي معاريض كقوله عن سارة : إنها أختي ؛ إذ كان ليس هناك مؤمن إلا هو وهي . وهؤلاء يقولون : إن كلام إبراهيم وعامة الأنبياء مما أخبروا به عن الغيب كذب من المعاريض . وأما جمهور المتكلمين فلا يقولون بهذا بل يقولون : قصدوا البيان دون التعريض . لكن مع هذا يقول الجهمية ونحوهم : إن بيان الحق ليس في خطابهم بل إنما في خطابهم ما يدل على الباطل . والمتكلمون من الجهمية والمعتزلة والأشعرية ونحوهم ممن سلك في إثبات الصانع طريق الأعراض يقولون : إن الصحابة لم يبينوا أصول الدين بل ولا الرسول : إما لشغلهم بالجهاد ؛ أو لغير ذلك . وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن أصول الدين الحق الذي أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وهي الأدلة والبراهين والآيات الدالة على ذلك : قد بينها الرسول أحسن بيان وأنه دل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية وبها يعلمون إثبات ربوبية الله ووحدانيته وصفاته وصدق رسوله والمعاد وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية وإن كان لا يحتاج إليها ؛ فإن كثيرا من الأمور تعرف بالخبر الصادق ومع هذا فالرسول بين الأدلة العقلية الدالة عليها ؛ فجمع بين الطريقين : السمعي ؛ والعقلي . وبينا أن دلالة الكتاب والسنة على أصول الدين ليست بمجرد الخبر ؛ كما تظنه طائفة من الغالطين من أهل الكلام والحديث والفقهاء والصوفية وغيرهم بل الكتاب والسنة دلا الخلق وهدياهم إلى الآيات والبراهين والأدلة المبينة لأصول الدين وهؤلاء الغالطون الذين أعرضوا عما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية صاروا إذا صنفوا في أصول الدين أحزابا : حزب : يقدمون في كتبهم الكلام في النظر والدليل والعلم وأن النظر يوجب العلم وأنه واجب ويتكلمون في جنس النظر وجنس الدليل وجنس العلم بكلام قد اختلط فيه الحق بالباطل ثم إذا صاروا إلى ما هو الأصل والدليل للذين استدلوا بحدوث الأعراض على حدوث الأجسام وهو دليل مبتدع في الشرع وباطل في العقل . والحزب الثاني : عرفوا أن هذا الكلام مبتدع وهو مستلزم مخالفة الكتاب والسنة وعنه ينشأ القول بأن القرآن مخلوق وأن الله لا يرى في الآخرة وليس فوق العرش ونحو ذلك من بدع الجهمية فصنفوا كتبا قدموا فيها ما يدل على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة من القرآن والحديث وكلام السلف وذكروا أشياء صحيحة لكنهم قد يخلطون الآثار صحيحها بضعيفها وقد يستدلون بما لا يدل على المطلوب . وأيضا فهم إنما يستدلون بالقرآن من جهة إخباره لا من جهة دلالته فلا يذكرون ما فيه من الأدلة على إثبات الربوبية والوحدانية والنبوة والمعاد ؛ وأنه قد بين الأدلة العقلية الدالة على ذلك ؛ ولهذا سموا كتبهم أصول السنة والشريعة ونحو ذلك وجعلوا الإيمان بالرسول قد استقر فلا يحتاج أن يبين الأدلة الدالة عليه فذمهم أولئك ونسبوهم إلى الجهل ؛ إذ لم يذكروا الأصول الدالة على صدق الرسول ؛ وهؤلاء ينسبون أولئك إلى البدعة بل إلى الكفر لكونهم أصلوا أصولا تخالف ما قاله الرسول . والطائفتان يلحقهما الملام ؛ لكونهما أعرضتا عن الأصول التي بينها الله بكتابه فإنها أصول الدين وأدلته وآياته فلما أعرض عنها الطائفتان وقع بينهما العداوة ؛ كما قال الله تعالى : { فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } . وحزب ثالث : قد عرف تفريط هؤلاء وتعدي أولئك وبدعتهم فذمهم وذم طالب العلم الذكي الذي اشتاقت نفسه إلى معرفة الأدلة والخروج عن التقليد إذا سلك طريقهم وقال : إن طريقهم ضارة وأن السلف لم يسلكوها ونحو ذلك مما يقتضي ذمها وهو كلام صحيح لكنه إنما يدل على أمر مجمل لا تتبين دلالته على المطلوب بل قد يعتقد طريق المتكلمين مع قوله : إنه بدعة ولا يفتح أبواب الأدلة التي ذكرها الله في القرآن التي تبين أن ما جاء به الرسول حق ويخرج الذكي بمعرفتها عن التقليد وعن الضلال والبدعة والجهل . فهؤلاء أضل بفرقهم ؛ لأنهم لم يتدبروا القرآن وأعرضوا عن آيات الله التي بينها بكتابه كما يعرض من يعرض عن آيات الله المخلوقة قال الله تعالى : { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } وقال تعالى : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } وقال تعالى : { إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون } { أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون } وقال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب } وقال تعالى : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } { بالبينات والزبر } الآية وقال تعالى : { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } وقال تعالى : { وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير } ومثل هذا كثير لبسطه مواضع أخر . والمقصود أن هؤلاء الغالطين الذين أعرضوا ما في القرآن من الدلائل العقلية والبراهين اليقينية لا يذكرون النظر والدليل والعلم الذي جاء به الرسول والقرآن مملوء من ذلك والمتكلمون يعترفون بأن في القرآن من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين ما فيه لكنهم يسلكون طرقا أخر كطريق الأعراض . ومنهم من يظن أن هذه طريق إبراهيم الخليل وهو غالط .

والمتفلسفة يقولون : القرآن جاء بالطريق الخطابية والمقدمات الإقناعية التي تقنع الجمهور ويقولون : إن المتكلمين جاءوا بالطرق الجدلية ويدعون أنهم هم أهل البرهان اليقيني . وهم أبعد عن البرهان في الإلهيات من المتكلمين والمتكلمون أعلم منهم بالعلميات البرهانية في الإلهيات والكليات ولكن للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به بخلاف الإلهيات فإنهم من أجهل الناس بها وأبعدهم عن معرفة الحق فيها وكلام أرسطو معلمهم فيها قليل كثير الخطأ فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقى ؛ ولا سمين فينتقى . وهذا مبسوط في غير هذا الموضع . والقرآن جاء بالبينات والهدى ؛ بالآيات البينات وهي الدلائل اليقينيات وقد قال الله تعالى لرسوله : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } والمتفلسفة يفسرون ذلك بطرقهم المنطقية في البرهان والخطابة والجدل وهو ضلال من وجوه قد بسطت في غير هذا الموضع بل الحكمة هي معرفة الحق والعمل به فالقلوب التي لها فهم وقصد تدعى بالحكمة فيبين لها الحق علما وعملا فتقبله وتعمل به . وآخرون يعترفون بالحق لكن لهم أهواء تصدهم عن اتباعه فهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل . والوعظ أمر ونهي بترغيب وترهيب كما قال تعالى : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } وقال تعالى : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا } فالدعوة بهذين الطريقين لمن قبل الحق ومن لم يقبله فإنه يجادل بالتي هي أحسن . والقرآن مشتمل على هذا وهذا ولهذا إذا جادل يسأل ويستفهم عن المقدمات البينة البرهانية التي لا يمكن أحد أن يجحدها ؛ لتقرير المخاطب بالحق ولاعترافه بإنكار الباطل كما في مثل قوله : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } وقوله : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } وقوله : { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } وقوله : { أيحسب الإنسان أن يترك سدى } { ألم يك نطفة من مني يمنى } { ثم كان علقة فخلق فسوى } { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } وقوله : { أفرأيتم ما تمنون } { أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } وقوله : { وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } وقوله : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } وقوله : { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } وقوله : { ألم نجعل له عينين } { ولسانا وشفتين } { وهديناه النجدين } إلى أمثال ذلك مما يخاطبهم باستفهام التقرير المتضمن إقرارهم واعترافهم بالمقدمات البرهانية التي تدل على المطلوب فهو من أحسن جدل بالبرهان ؛ فإن الجدل إنما يشترط فيه أن يسلم الخصم المقدمات وإن لم تكن بينة معروفة فإذا كانت بينة معروفة كانت برهانية . والقرآن لا يحتج في مجادلته بمقدمة لمجرد تسليم الخصم بها كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم بل بالقضايا والمقدمات التي تسلمها الناس وهي برهانية وإن كان بعضهم يسلمها وبعضهم ينازع فيها ذكر الدليل على صحتها كقوله : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } فإن الخطاب لما كان مع من يقر بنبوة موسى من أهل الكتاب ومع من ينكرها من المشركين ذكر ذلك بقوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } وقد بين البراهين الدالة على صدق موسى في غير موضع . وعلى قراءة من قرأ يبدونها كابن كثير وأبي عمرو جعلوا الخطاب مع المشركين وجعلوا قوله : { وعلمتم ما لم تعلموا } احتجاجا على المشركين بما جاء به محمد ؛ فالحجة على أولئك نبوة موسى وعلى هؤلاء نبوة محمد ولكل منهما من البراهين ما قد بين بعضه في غير موضع . وعلى قراءة الأكثرين بالتاء هو خطاب لأهل الكتاب وقوله : { وعلمتم ما لم تعلموا } بيان لما جاءت به الأنبياء مما أنكروه فعلمهم الأنبياء ما لم يقبلوه ولم يعلموه فاستدل بما عرفوه من أخبار الأنبياء وما لم يعرفوه . وقد قص سبحانه قصة موسى وأظهر براهين موسى وآياته التي هي من أظهر البراهين والأدلة حتى اعترف بها السحرة الذين جمعهم فرعون وناهيك بذلك فلما أظهر الله حق موسى ؛ وأتى بالآيات التي علم بالاضطرار أنها من الله ؛ وابتلعت عصاه الحبال والعصي التي أتى بها السحرة بعد أن جاءوا بسحر عظيم وسحروا أعين الناس واسترهبوا الناس ثم لما ظهر الحق وانقلبوا صاغرين قالوا : { آمنا برب العالمين } { رب موسى وهارون } فقال لهم فرعون : { آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى } { قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات } من الدلائل البينات اليقينية القطعية وعلى الذي فطرنا ؛ وهو خالقنا وربنا الذي لا بد لنا منه لن نؤثرك على هذه الدلائل اليقينية وعلى خالق البرية { فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } { إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى } . وقد ذكر الله هذه القصة في عدة مواضع من القرآن يبين في كل موضع منها من الاعتبار والاستدلال نوعا غير النوع الآخر كما يسمى الله ورسوله وكتابه بأسماء متعددة كل اسم يدل على معنى لم يدل عليه الاسم الآخر وليس في هذا تكرار بل فيه تنويع الآيات مثل : أسماء النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل : محمد وأحمد ؛ والحاشر والعاقب ؛ والمقفى ؛ ونبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة في كل اسم دلالة على معنى ليس في الاسم الآخر وإن كانت الذات واحدة فالصفات متنوعة . وكذلك القرآن إذا قيل فيه ؛ قرآن ؛ وفرقان وبيان ؛ وهدى وبصائر وشفاء ونور ورحمة وروح فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الآخر . وكذلك أسماء الرب تعالى إذا قيل : الملك ؛ القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز ؛ الجبار المتكبر الخالق البارئ ؛ المصور فكل اسم يدل على معنى ليس هو المعنى الذي في الاسم الآخر فالذات واحدة والصفات متعددة فهذا في الأسماء المفردة . وكذلك في الجمل التامة يعبر عن القصة بجمل تدل على معان فيها ثم يعبر عنها بجمل أخرى تدل على معان أخر وإن كانت القصة المذكورة ذاتها واحدة فصفاتها متعددة ففي كل جملة من الجمل معنى ليس في الجمل الأخر . وليس في القرآن تكرار أصلا وأما ما ذكره بعض الناس من أنه كرر القصص مع [ إمكان ] الاكتفاء بالواحدة وكان الحكمة فيه : أن وفود العرب كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرئهم المسلمون شيئا من القرآن فيكون ذلك كافيا وكان يبعث إلى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم يكن الآيات والقصص مثناة متكررة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى قوم وقصة نوح إلى قوم فأراد الله أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض وأن يلقيها إلى كل سمع . فهذا كلام من لم يقدر القرآن قدره . وأبو الفرج اقتصر على هذا الجواب في قوله : ( مثاني لما قيل : لم ثنيت ؟ وبسط هذا له موضع آخر فإن التثنية هي التنويع والتجنيس وهي استيفاء الأقسام ولهذا يقول من يقول من السلف : الأقسام والأمثال . والمقصود هنا التنبيه على أن القرآن اشتمل على أصول الدين التي تستحق هذا الاسم وعلى البراهين والآيات والأدلة اليقينية ؛ بخلاف ما أحدثه المبتدعون والملحدون كما قال الرازي مع خبرته بطرق هؤلاء : لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن : اقرأ في الإثبات { إليه يصعد الكلم الطيب } { الرحمن على العرش استوى } . واقرأ في النفي { ليس كمثله شيء } { ولا يحيطون به علما } قال : ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي . والخير والسعادة والكمال والصلاح منحصر في نوعين : في العلم النافع ؛ والعمل الصالح . وقد بعث الله محمدا بأفضل ذلك وهو الهدى ودين الحق كما قال : { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا } ؟ وقد قال تعالى : { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } فذكر النوعين قال الوالبي عن ابن عباس يقول : أولوا القوة في العبادة قال ابن أبي حاتم : وروي عن سعيد بن جبير وعطاء الخراساني والحسن والضحاك والسدي وقتادة وأبي سنان ومبشر بن عبيد نحو ذلك . و ( الأبصار قال : الأبصار الفقه في الدين . وقال مجاهد : ( الأبصار الصواب في الحكم وعن سعيد بن جبير قال : البصيرة بدين الله وكتابه . وعن عطاء الخراساني : { أولي الأيدي والأبصار } قال : أولوا القوة في العبادة والبصر والعلم بأمر الله وعن مجاهد وروي عن قتادة قال : أعطوا قوة في العبادة وبصرا في الدين . وجميع حكماء الأمم يفضلون هذين النوعين مثل حكماء اليونان والهند والعرب قال ابن قتيبة : الحكمة عند العرب العلم والعمل فالعمل الصالح هو عبادة الله وحده لا شريك له وهو الدين دين الإسلام والعلم والهدى هو تصديق الرسول فيما أخبر به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغير ذلك فالعلم النافع هو الإيمان والعمل الصالح هو الإسلام العلم النافع من علم الله والعمل الصالح هو العمل بأمر الله هذا تصديق الرسول فيما أخبر وهذا طاعته فيما أمر . وضد الأول أن يقول على الله ما لا يعلم وضد الثاني أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا والأول أشرف فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } وجميع الطوائف تفضل هذين النوعين لكن الذي جاء به الرسول هو أفضل ما فيهما كما قال : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر تارة ( سورة الإخلاص و ( قل يا أيها الكافرون ففي ( قل يا أيها الكافرون عبادة الله وحده وهو دين الإسلام وفي ( قل هو الله أحد صفة الرحمن وأن يقال فيه ويخبر عنه بما يستحقه وهو الإيمان هذا هو التوحيد القولي وذلك هو التوحيد العملي . وكان تارة يقرأ فيهما في الأولى بقوله في البقرة : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } وفي الثانية : { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } إلى قوله { فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } . قال أبو العالية في قوله { فوربك لنسألنهم أجمعين } { عما كانوا يعملون } قال : خلتان يسأل عنهما كل أحد : ماذا كنت تعبد ؟ وماذا أجبت المرسلين ؟ فالأولى تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله والثانية تحقيق الشهادة بأن محمدا رسول الله . والصوفية بنو أمرهم على الإرادة ولا بد منها لكن بشرط أن تكون إرادة عبادة الله وحده بما أمر . والمتكلمون بنوا أمرهم على النظر المقتضي للعلم ولا بد منه لكن بشرط أن يكون علما بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم والنظر في الأدلة التي دل بها الرسول وهي آيات الله ولا بد من هذا وهذا . ومن طلب علما بلا إرادة أو إرادة بلا علم فهو ضال ومن طلب هذا وهذا بدون اتباع الرسول فيهما فهو ضال بل كما قال من قال من السلف : الدين والإيمان قول وعمل واتباع السنة . وأهل الفقه في الأعمال الظاهرة يتكلمون في العبادات الظاهرة وأهل التصوف والزهد يتكلمون في قصد الإنسان وإرادته وأهل النظر والكلام وأهل العقائد من أهل الحديث وغيرهم يتكلمون في العلم والمعرفة والتصديق الذي هو أصل الإرادة ويقولون : العبادة لا بد فيها من القصد والقصد لا يصح إلا بعد العلم بالمقصود المعبود وهذا صحيح فلا بد من معرفة المعبود وما يعبد به فالضالون من المشركين والنصارى وأشباههم لهم عبادات وزهادات لكن لغير الله أو بغير أمر الله وإنما القصد والإرادة النافعة هو إرادة عبادة الله وحده وهو إنما يعبد بما شرع لا بالبدع . وعلى هذين الأصلين يدور دين الإسلام : على أن يعبد الله وحده وأن يعبد بما شرع ولا يعبد بالبدع وأما العلم والمعرفة والتصوف فمدارها على أن يعرف ما أخبر به الرسول ويعرف أن ما أخبر به حق إما لعلمنا بأنه لا يقول إلا حقا وهذا تصديق عام وإما لعلمنا بأن ذلك الخبر حق بما أظهر الله من آيات صدقه فإنه أنزل الكتاب والميزان وأرى الناس آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أن القرآن حق .

فصل وأما " العمليات " وما يسميه ناس : الفروع والشرع والفقه فهذا قد بينه الرسول أحسن بيان فما شيء مما أمر الله به أو نهى عنه أو حلله أو حرمه إلا بين ذلك وقد قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقال تعالى : { ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } وقال تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } وقال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وقال تعالى : { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم } { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فقد بين سبحانه أنه ما أنزل عليه الكتاب إلا ليبين لهم الذي اختلفوا فيه كما بين أنه أنزل جنس الكتاب مع النبيين ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . وقال تعالى : { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب } وقال تعالى : { وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } فقد بين للمسلمين جميع ما يتقونه كما قال : { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وهو الرد إلى كتاب الله أو إلى سنة الرسول بعد موته وقوله : { فإن تنازعتم } شرط والفعل نكرة في سياق الشرط فأي شيء تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه . والرسول أنزل الله عليه الكتاب والحكمة كما ذكر ذلك في غير موضع وقد علم أمته الكتاب والحكمة كما قال : { ويعلمهم الكتاب والحكمة } وكان يذكر في بيته الكتاب والحكمة وأمر أزواج نبيه بذكر ذلك فقال : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } فآيات الله هي القرآن إذ كان نفس القرآن يدل على أنه منزل من الله فهو علامة ودلالة على منزله و ( الحكمة قال غير واحد من السلف : هي السنة . وقال أيضا طائفة كمالك وغيره : هي معرفة الدين والعمل به . وقيل غير ذلك وكل ذلك حق فهي تتضمن التمييز بين المأمور والمحظور ؛ والحق والباطل ؛ وتعليم الحق دون الباطل وهذه السنة التي فرق بها بين الحق والباطل وبين الأعمال الحسنة من القبيحة ؛ والخير من الشر وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك } . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلام نحو هذا وهذا كثير في الحديث والآثار يذكرونه في الكتب التي تذكر فيها هذه الآثار كما يذكر مثل ذلك غير واحد فيما يصفونه في السنة مثل ابن بطة واللالكائي والطلمنكي وقبلهم المصنفون في السنة كأصحاب أحمد مثل عبد الله والأثرم وحرب الكرماني وغيرهم ومثل الخلال وغيره . والمقصود هنا تحقيق ذلك وأن الكتاب والسنة وافيان بجميع أمور الدين .

وأما إجماع الأمة :
فهو في نفسه حق لا تجتمع الأمة على ضلالة وكذلك القياس الصحيح حق ؛ فإن الله بعث رسله بالعدل وأنزل الميزان مع الكتاب والميزان يتضمن العدل وما يعرف به العدل وقد فسروا إنزال ذلك بأن ألهم العباد معرفة ذلك والله ورسوله يسوي بين المتماثلين ويفرق بين المختلفين . وهذا هو القياس الصحيح وقد ضرب الله في القرآن من كل مثل وبين القياس الصحيح وهي الأمثال المضروبة ما بينه من الحق لكن القياس الصحيح يطابق النص فإن الميزان يطابق الكتاب والله أمر نبيه أن يحكم بما أنزل وأمره أن يحكم بالعدل فهو أنزل الكتاب وإنما أنزل الكتاب بالعدل قال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } وأما إجماع الأمة فهو حق لا تجتمع الأمة - ولله الحمد - على ضلالة كما وصفها الله بذلك في الكتاب والسنة فقال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر كما وصف نبيهم بذلك في قوله : { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر } وبذلك وصف المؤمنين في قوله : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } فلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك ولم تنه عن المنكر فيه وقال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } والوسط العدل الخيار وقد جعلهم الله شهداء على الناس وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول . وقد ثبت في الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال : وجبت وجبت ثم مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شرا فقال : وجبت وجبت قالوا : يا رسول الله ما قولك وجبت وجبت ؟ قال : هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت : وجبت لها الجنة وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت : وجبت لها النار أنتم شهداء الله في الأرض } . فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء لم يشهدوا بباطل فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء فقد أمر به وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض بل زكاهم الله في شهادتهم كما زكى الأنبياء فيما يبلغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا بحق وقال تعالى : { واتبع سبيل من أناب إلي } والأمة منيبة إلى الله فيجب اتباع سبيلها وقال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } فرضي عمن اتبع السابقين إلى يوم القيامة فدل على أن متابعهم عامل بما يرضى الله والله لا يرضى إلا بالحق لا بالباطل وقال تعالى : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } . وكان عمر بن عبد العزيز يقول كلمات كان مالك يأثرها عنه كثيرا قال : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستعمال لطاعة الله ومعونة على دين الله ليس لأحد تغييرها ولا النظر في رأي من خالفها فمن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله تعالى ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا . والشافعي رضي الله عنه لما جرد الكلام في أصول الفقه احتج بهذه الآية على الإجماع كما كان هو وغيره ومالك ذكر عن عمر ابن عبد العزيز والآية دلت على أن متبع غير سبيل المؤمنين مستحق للوعيد كما أن مشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى مستحق للوعيد ومعلوم أن هذا الوصف يوجب الوعيد بمجرده فلو لم يكن الوصف الآخر يدخل في ذلك لكان لا فائدة في ذكره . وهنا للناس ثلاثة أقوال : قيل : اتباع غير سبيل المؤمنين هو بمجرد مخالفة الرسول المذكورة في الآية . وقيل : بل مخالفة الرسول مستقلة بالذم فكذلك اتباع غير سبيلهم مستقل بالذم وقيل : بل اتباع غير سبيل المؤمنين يوجب الذم كما دلت عليه الآية لكن هذا لا يقتضي مفارقة الأول بل قد يكون مستلزما له فكل متابع غير سبيل المؤمنين هو في نفس الأمر مشاق للرسول وكذلك مشاق الرسول متبع غير سبيل المؤمنين وهذا كما في طاعة الله والرسول فإن طاعة الله واجبة وطاعة الرسول واجبة وكل واحد من معصية الله ومعصية الرسول موجب للذم وهما متلازمان فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أطاعني فقد أطاع الله ؛ ومن أطاع أميري فقد أطاعني ؛ ومن عصاني فقد عصى الله ؛ ومن عصى أميري فقد عصاني } وقال : { إنما الطاعة في المعروف } يعني : إذا أمر أميري بالمعروف فطاعته من طاعتي وكل من عصى الله فقد عصى الرسول ؛ فإن الرسول يأمر بما أمر الله به بل من أطاع رسولا واحدا فقد أطاع جميع الرسل ومن آمن بواحد منهم فقد آمن بالجميع ومن عصى واحدا منهم فقد عصى الجميع ومن كذب واحدا منهم فقد كذب الجميع ؛ لأن كل رسول يصدق الآخر ويقول : إنه رسول صادق ويأمر بطاعته فمن كذب رسولا فقد كذب الذي صدقه ومن عصاه فقد عصى من أمر بطاعته . ولهذا كان دين الأنبياء واحدا كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد } . وقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } { فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون } وقال تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } { منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } . ودين الأنبياء كلهم الإسلام كما أخبر الله بذلك في غير موضع . وهو : الاستسلام لله وحده . وذلك إنما يكون بطاعته فيما أمر به في ذلك الوقت فطاعة كل نبي هي من دين الإسلام إذ ذاك واستقبال بيت المقدس كان من دين الإسلام قبل النسخ ثم لما أمر باستقبال الكعبة صار استقبالها من دين الإسلام ولم يبق استقبال الصخرة من دين الإسلام ؛ ولهذا خرج اليهود والنصارى عن دين الإسلام ؛ فإنهم تركوا طاعة الله وتصديق رسوله واعتاضوا عن ذلك بمبدل أو منسوخ . وهكذا كل مبتدع دينا خالف به سنة الرسول لا يتبع إلا دينا مبدلا أو منسوخا فكل من خالف ما جاء به الرسول : إما أن يكون ذلك قد كان مشروعا لنبي ثم نسخ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وإما أن لا يكون شرع قط ؛ فهذا كالأديان التي شرعها الشياطين على ألسنة أوليائهم قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وقال : . { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } وقال : { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون } . ولهذا كان الصحابة إذا قال أحدهم برأيه شيئا يقول : إن كان صوابا فمن الله ؛ وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه كما قال ذلك ابن مسعود وروي عن أبي بكر وعمر . فالأقسام ثلاثة ؛ فإنه : إما أن يكون هذا القول موافقا لقول الرسول أو لا يكون ؛ وإما أن يكون موافقا لشرع غيره ؛ وإما أن لا يكون فهذا الثالث المبدل كأديان المشركين والمجوس وما كان شرعا لغيره وهو لا يوافق شرعه فقد نسخ كالسبت وتحريم كل ذي ظفر وشحم الثرب والكليتين ؛ فإن اتخاذ السبت عيدا وتحريم هذه الطيبات قد كان شرعا لموسى ثم نسخ ؛ بل قد قال المسيح : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } فقد نسخ الله على لسان المسيح بعض ما كان حراما في شرع موسى . وأما محمد فقال الله فيه : { الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } والشرك كله من المبدل لم يشرع الله الشرك قط كما قال : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } . وكذلك ما كان يحرمه أهل الجاهلية مما ذكره الله في القرآن كالسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك هو من الدين المبدل ؛ ولهذا لما ذكر الله ذلك عنهم في سورة الأنعام بين أن من حرم ذلك فقد كذب على الله وذكر تعالى ما حرمه على لسان محمد وعلى لسان موسى في الأنعام فقال : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم } { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } وكذلك قال بعد هذا : { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } . فبين أن ما حرمه المشركون لم يحرمه على لسان موسى ولا لسان محمد وهذان هما اللذان جاءا بكتاب فيه الحلال والحرام كما قال تعالى : { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه } وقال تعالى : { ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة } وقال تعالى : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } إلى قوله : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه } وقالت الجن لما سمعت القرآن : { إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } وقال ورقة بن نوفل : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرجان من مشكاة واحدة . وكذلك قال النجاشي . فالقرآن والتوراة هما كتابان جاءا من عند الله لم يأت من عنده كتاب أهدى منهما كل منهما أصل مستقل والذي فيهما دين واحد وكل منهما يتضمن إثبات صفات الله تعالى والأمر بعبادته وحده لا شريك له ففيه التوحيد قولا وعملا كما في سورتي الإخلاص : { قل يا أيها الكافرون } و { قل هو الله أحد } . وأما الزبور فإن داود لم يأت بغير شريعة التوراة وإنما في الزبور ثناء على الله ودعاء وأمر ونهي بدينه وطاعته وعبادته مطلقا . وأما المسيح فإنه قال : { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } فأحل لهم بعض المحرمات وهو في الأكثر متبع لشريعة التوراة . ولهذا لم يكن بد لمن اتبع المسيح من أن يقرأ التوراة ويتبع ما فيها ؛ إذ كان الإنجيل تبعا لها . وأما القرآن فإنه مستقل بنفسه لم يحوج أصحابه إلى كتاب آخر بل اشتمل على جميع ما في الكتب من المحاسن ؛ وعلى زيادات كثيرة لا توجد في الكتب ؛ فلهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه يقرر ما فيها من الحق ويبطل ما حرف منها وينسخ ما نسخه الله فيقرر الدين الحق وهو جمهور ما فيها ويبطل الدين المبدل الذي لم يكن فيها والقليل الذي نسخ فيها ؛ فإن المنسوخ قليل جدا بالنسبة إلى المحكم المقرر . والأنبياء كلهم دينهم واحد وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم وكذلك التكذيب والمعصية : لا يجوز أن يكذب نبي نبيا بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقا وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته . ولهذا كان من صدق محمدا فقد صدق كل نبي ؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي ومن كذبه فقد كذب كل نبي ؛ ومن عصاه فقد عصى كل نبي قال تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } { أولئك هم الكافرون حقا } وقال تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون } . ومن كذب هؤلاء تكذيبا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع ؛ ولهذا يقول تعالى : { كذبت قوم نوح المرسلين } ولم يرسل إليهم قبل نوح أحدا وقال تعالى : { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم } . وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنا في جنس الرسل كما قدمنا بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه فهو مكذب لجميع الرسل كالذين قال فيهم : { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون } { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون } { في الحميم ثم في النار يسجرون } وقال تعالى : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } { فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون } وقال تعالى عن الوليد : { إنه فكر وقدر } { فقتل كيف قدر } { ثم قتل كيف قدر } { ثم نظر } { ثم عبس وبسر } { ثم أدبر واستكبر } { فقال إن هذا إلا سحر يؤثر } { إن هذا إلا قول البشر } . وأهل الكتاب منهم من يؤمن بجنس الرسالة لكن يكذب بعض الرسل كالمسيح ومحمد فهؤلاء لما آمنوا ببعض وكفروا ببعض كانوا كافرين حقا وكثير من الفلاسفة والباطنية وكثير من أهل الكلام والتصوف لا يكذب الرسل تكذيبا صريحا ولا يؤمن بحقيقة النبوة والرسالة بل يقر بفضلهم في الجملة مع كونه يقول : إن غيرهم أعلم منهم ؛ أو أنهم لم يبينوا الحق أو لبسوه ؛ أو إن النبوة هي فيض يفيض على النفوس من العقل الفعال من جنس ما يراه النائم ولا يقر بملائكة مفضلين ولا بالجن ونحو ذلك فهؤلاء يقرون ببعض صفات الأنبياء دون بعض ؛ وبما أوتوه دون بعض ولا يقرون بجميع ما أوتيه الأنبياء وهؤلاء قد يكون أحدهم شرا من اليهود والنصارى الذين أقروا بجميع صفات النبوة لكن كذبوا ببعض الأنبياء ؛ فإن الذي أقر به هؤلاء مما جاءت به الأنبياء أعظم وأكثر ؛ إذ كان هؤلاء يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ويقرون بقيام القيامة ويقرون بأنه تجب عبادته وحده لا شريك له ويقرون بالشرائع المتفق عليها . وأولئك يكذبون بهذا وإنما يقرون ببعض شرع محمد صلى الله عليه وسلم . ولهذا كان اليهود والنصارى أقل كفرا من الملاحدة الباطنية والمتفلسفة ونحوهم لكن من كان من اليهود والنصارى قد دخل مع هؤلاء فقد جمع نوعي الكفر ؛ إذ لم يؤمن بجميع صفاتهم ولا بجميع أعيانهم وهؤلاء موجودون في دول الكفار كثيرا كما يوجد أيضا في المنتسبين إلى الإسلام من هؤلاء وهؤلاء إذ كانوا في دولة المسلمين . وأهل الكتاب كانوا منافقين فيهم من النفاق بحسب ما فيهم من الكفر والنفاق يتبعض والكفر يتبعض ويزيد وينقص كما أن الإيمان يتبعض ويزيد وينقص قال الله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } وقال : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون } { وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } وقال : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } وقال : { وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا } وقال : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } وقال : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } وقال : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا } . وكثير من المصنفين في الكلام لا يردون على أهل الكتاب إلا ما يقولون : إنه يعلم بالعقل مثل تثليث النصارى ومثل تكذيب محمد ولا يناظرونهم في غير هذا من أصول الدين وهذا تقصير منهم ومخالفة لطريقة القرآن ؛ فإن الله يبين في القرآن ما خالفوا به الأنبياء ويذمهم على ذلك والقرآن مملوء من ذلك ؛ إذ كان الكفر والإيمان يتعلق بالرسالة والنبوة فإذا تبين ما خالفوا فيه الأنبياء ظهر كفرهم . وأولئك المتكلمون لما أصلوا لهم دينا بما أحدثوه من الكلام كالاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام ظنوا أن هذا هو أصول الدين ولو كان ما قالوه حقا لكان ذلك جزءا من الدين فكيف إذا كان باطلا ؟ وقد ذكرت في الرد على النصارى من مخالفتهم للأنبياء كلهم مع مخالفتهم لصريح العقل ما يظهر به من كفرهم ما يظهر ؛ ولهذا قيل فيه " الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح " وخطابهم في مقامين : أحدهما : تبديلهم لدين المسيح . والثاني : تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم واليهود خطابهم في تكذيب من بعد موسى إلى المسيح ثم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله ذلك في سورة البقرة في قوله : { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } { وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون } ثم قال : { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } إلى أن ذكر أنهم أعرضوا عن كتاب الله مطلقا واتبعوا السحر . فقال : { ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون } { واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان } إلى قوله : { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } { ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } . والنصارى نذمهم على الغلو والشرك الذي ابتدعوه وعلى تكذيب الرسول والرهبانية التي ابتدعوها ولا نحمدهم عليها إذ كانوا قد ابتدعوها وكل بدعة ضلالة لكن إذا كان صاحبها قاصدا للحق فقد يعفى عنه فيبقى عمله ضائعا لا فائدة فيه وهذا هو الضلال الذي يعذر صاحبه فلا يعاقب ولا يثاب ؛ ولهذا قال : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } فإن المغضوب عليه يعاقب بنفس الغضب والضال فاته المقصود وهو الرحمة والثواب ولكن قد لا يعاقب كما عوقب ذلك بل يكون ملعونا مطرودا ولهذا جاء في حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أن اليهود قالوا له : لن تدخل في ديننا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله . وقال له النصارى : حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله . وقال الضحاك وطائفة : إن جهنم طبقات فالعليا لعصاة هذه الأمة والتي تليها للنصارى والتي تليها لليهود . فجعلوا اليهود تحت النصارى والقرآن قد شهد بأن المشركين واليهود يوجدون أشد عداوة للذين آمنوا من الذين قالوا : إنا نصارى وشدة العداوة زيادة في الكفر فاليهود أقوى كفرا من النصارى وإن كان النصارى أجهل وأضل لكن أولئك يعاقبون على عملهم إذ كانوا عرفوا الحق وتركوه عنادا فكانوا مغضوبا عليهم وهؤلاء بالضلال حرموا أجر المهتدين ولعنوا وطردوا عما يستحقه المهتدون ثم إذا قامت عليهم الحجة فلم يؤمنوا استحقوا العقاب إذ كان اسم الضلال عاما . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح { في خطبة يوم الجمعة : خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة } ولم يقل : وكل ضلالة في النار بل يضل عن الحق من قصد الحق وقد اجتهد في طلبه فعجز عنه فلا يعاقب وقد يفعل بعض ما أمر به فيكون له أجر على اجتهاده وخطؤه الذي ضل فيه عن حقيقة الأمر مغفور له . وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم . وإذا اتقى الرجل ربه ما استطاع دخل في قوله : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وفي الصحيح أن الله قال : " قد فعلت " وبسط هذا له موضع آخر .

والمقصود هنا:
أن الرسول بين جميع الدين بالكتاب والسنة وأن الإجماع - إجماع الأمة - حق ؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة وكذلك القياس الصحيح حق يوافق الكتاب والسنة . والآية المشهورة التي يحتج بها على الإجماع قوله : { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى } ومن الناس من يقول : إنها لا تدل على مورد النزاع ؛ فإن الذم فيها لمن جمع الأمرين وهذا لا نزاع فيه ؛ أو لمن اتبع غير سبيل المؤمنين التي بها كانوا مؤمنين وهي متابعة الرسول وهذا لا نزاع فيه ؛ أو أن سبيل المؤمنين هو الاستدلال بالكتاب والسنة وهذا لا نزاع فيه ؛ فهذا ونحوه قول من يقول : لا تدل على محل النزاع . وآخرون يقولون : بل تدل على وجوب اتباع المؤمنين مطلقا وتكلفوا لذلك ما تكلفوه كما قد عرف من كلامهم ولم يجيبوا عن أسئلة أولئك بأجوبة شافية . والقول الثالث الوسط : أنها تدل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين وتحريم اتباع غير سبيلهم ولكن مع تحريم مشاقة الرسول من بعد ما تبين له الهدى وهو يدل على ذم كل من هذا وهذا كما تقدم لكن لا ينفي تلازمهما كما ذكر في طاعة الله والرسول . وحينئذ نقول : الذم إما أن يكون لاحقا لمشاقة الرسول فقط ؛ أو باتباع غير سبيلهم فقط ؛ أو أن يكون الذم لا يلحق بواحد منهما بل بهما إذا اجتمعا ؛ أو يلحق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر ؛ أو بكل منهما لكونه مستلزما للآخر . والأولان باطلان ؛ لأنه لو كان المؤثر أحدهما فقط كان ذكر الآخر ضائعا لا فائدة فيه وكون الذم لا يلحق بواحد منهما باطل قطعا ؛ فإن مشاقة الرسول موجبة للوعيد مع قطع النظر عمن اتبعه ؛ ولحوق الذم بكل منهما وإن انفرد عن الآخر لا تدل عليه الآية ؛ فإن الوعيد فيها إنما هو على المجموع . بقي القسم الآخر وهو أن كلا من الوصفين يقتضي الوعيد لأنه مستلزم للآخر كما يقال مثل ذلك في معصية الله والرسول ومخالفة القرآن والإسلام فيقال : من خالف القرآن والإسلام أو من خرج عن القرآن والإسلام فهو من أهل النار ومثله قوله : { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا } فإن الكفر بكل من هذه الأصول يستلزم الكفر بغيره فمن كفر بالله كفر بالجميع ومن كفر بالملائكة كفر بالكتب والرسل فكان كافرا بالله إذ كذب رسله وكتبه وكذلك إذا كفر باليوم الآخر كذب الكتب والرسل فكان كافرا . وكذلك قوله : { يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون } ذمهم على الوصفين وكل منهما مقتض للذم وهما متلازمان ؛ ولهذا نهى عنهما جميعا في قوله : { ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل ؛ إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق . فهكذا مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ومن شاقه فقد اتبع غير سبيلهم وهذا ظاهر ومن اتبع غير سبيلهم فقد شاقه أيضا ؛ فإنه قد جعل له مدخلا في الوعيد فدل على أنه وصف مؤثر في الذم فمن خرج عن إجماعهم فقد اتبع غير سبيلهم قطعا والآية توجب ذم ذلك . وإذا قيل : هي إنما ذمته مع مشاقة الرسول . قلنا : لأنهما متلازمان وذلك لأن كل ما أجمع عليه المسلمون فإنه يكون منصوصا عن الرسول فالمخالف لهم مخالف للرسول كما أن المخالف للرسول مخالف لله ولكن هذا يقتضي أن كل ما أجمع عليه قد بينه الرسول ؛ وهذا هو الصواب . فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس ويعلم الإجماع . فيستدل به كما أنه يستدل بالنص من لم يعرف دلالة النص وهو دليل ثان مع النص كالأمثال المضروبة في القرآن وكذلك الإجماع دليل آخر كما يقال : قد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع وكل من هذه الأصول يدل على الحق مع تلازمها ؛ فإن ما دل عليه الإجماع فقد دل عليه الكتاب والسنة وما دل عليه القرآن فعن الرسول أخذ فالكتاب والسنة كلاهما مأخوذ عنه ولا يوجد مسألة يتفق الإجماع عليها إلا وفيها نص . وقد كان بعض الناس يذكر مسائل فيها إجماع بلا نص كالمضاربة وليس كذلك بل المضاربة كانت مشهورة بينهم في الجاهلية لا سيما قريش ؛ فإن الأغلب كان عليهم التجارة وكان أصحاب الأموال يدفعونها إلى العمال ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد سافر بمال غيره قبل النبوة كما سافر بمال خديجة والعير التي كان فيها أبو سفيان كان أكثرها مضاربة مع أبي سفيان وغيره فلما جاء الإسلام أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يسافرون بمال غيرهم مضاربة ولم ينه عن ذلك والسنة : قوله وفعله وإقراره . فلما أقرها كانت ثابتة بالسنة . والأثر المشهور فيها عن عمر الذي رواه مالك في الموطأ ويعتمد عليه الفقهاء لما أرسل أبو موسى بمال أقرضه لابنيه واتجرا فيه وربحا وطلب عمر أن يأخذ الربح كله للمسلمين لكونه خصهما بذلك دون سائر الجيش فقال له أحدهما : لو خسر المال كان علينا فكيف يكون لك الربح وعلينا الضمان ؟ فقال له بعض الصحابة : اجعله مضاربا فجعله مضاربة وإنما قال ذلك لأن المضاربة كانت معروفة بينهم والعهد بالرسول قريب لم يحدث بعده فعلم أنها كانت معروفة بينهم على عهد الرسول كما كانت الفلاحة وغيرها من الصناعات كالخياطة والجزارة . وعلى هذا فالمسائل المجمع عليها قد تكون طائفة من المجتهدين لم يعرفوا فيها نصا فقالوا فيها باجتهاد الرأي الموافق للنص لكن كان النص عند غيرهم . وابن جرير وطائفة يقولون : لا ينعقد الإجماع إلا عن نص نقلوه عن الرسول مع قولهم بصحة القياس . ونحن لا نشترط أن يكونوا كلهم علموا النص فنقلوه بالمعنى كما تنقل الأخبار لكن استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة وكثير من العلماء لم يعلم النص وقد وافق الجماعة كما أنه قد يحتج بقياس وفيها إجماع لم يعلمه فيوافق الإجماع وكما يكون في المسألة نص خاص وقد استدل فيها بعضهم بعموم كاستدلال ابن مسعود وغيره بقوله : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وقال ابن مسعود : سورة النساء القصرى نزلت بعد الطولى أي : بعد البقرة ؛ وقوله : { أجلهن أن يضعن حملهن } يقتضي انحصار الأجل في ذلك فلو أوجب عليها أن تعد بأبعد الأجلين لم يكن أجلها أن تضع حملها وعلي وابن عباس وغيرهما أدخلوها في عموم الآيتين وجاء النص الخاص في قصة سبيعة الأسلمية بما يوافق قول ابن مسعود . وكذلك لما تنازعوا في المفوضة إذا مات زوجها : هل لها مهر المثل ؟ أفتى ابن مسعود فيها برأيه أن لها مهر المثل ثم رووا حديث بروع بنت واشق بما يوافق ذلك وقد خالفه علي وزيد وغيرهما فقالوا : لا مهر لها . فثبت أن بعض المجتهدين قد يفتي بعموم أو قياس ويكون في الحادثة نص خاص لم يعلمه فيوافقه ولا يعلم مسألة واحدة اتفقوا على إنه لا نص فيها ؛ بل عامة ما تنازعوا فيه كان بعضهم يحتج فيه بالنصوص أولئك احتجوا بنص كالمتوفى عنها الحامل وهؤلاء احتجوا بشمول الآيتين لها والآخرين قالوا : إنما يدخل في آية الحمل فقط وأن آية الشهور في غير الحامل كما أن آية القروء في غير الحامل . وكذلك لما تنازعوا في الحرام احتج من جعله يمينا بقوله : { لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } . وكذلك لما تنازعوا في المبتوتة : هل لها نفقة أو سكنى ؟ احتج هؤلاء بحديث فاطمة وبأن السكنى التي في القرآن للرجعية وأولئك قالوا : بل هي لهما . ودلالات النصوص قد تكون خفية فخص الله بفهمهن بعض الناس كما قال علي : إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه . وقد يكون النص بينا ويذهل المجتهد عنه كتيمم الجنب فإنه بين في القرآن في آيتين ولما احتج أبو موسى على ابن مسعود بذلك قال : الحاضر : ما درى عبد الله ما يقول إلا أنه قال : لو أرخصنا لهم في هذا لأوشك أحدهم إذا وجد المرء البرد أن يتيمم وقد قال ابن عباس وفاطمة بنت قيس وجابر : إن المطلقة في القرآن هي الرجعية بدليل قوله : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } وأي أمر يحدثه بعد الثلاثة ؟ وقد احتج طائفة على وجوب العمرة بقوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } واحتج بهذه الآية من منع الفسخ وآخرون يقولون : إنما أمر بالإتمام فقط وكذلك أمر الشارع أن يتم وكذلك في الفسخ قالوا : من فسخ العمرة إلى غير حج فلم يتمها أما إذا فسخها ليحج من عامه فهذا قد أتى بما تم مما شرع فيه ؛ فإنه شرع في حج مجرد فأتى بعمرة في الحج ولو لم يكن هذا إتماما لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عام حجة الوداع . وتنازعوا في الذي بيده عقدة النكاح وفي قوله : { أو لامستم النساء } ونحو ذلك مما ليس هذا موضع استقصائه . وأما مسألة مجردة اتفقوا على أنه لا يستدل فيها بنص جلي ولا خفي فهذا ما لا أعرفه . والجد لما قال أكثرهم : إنه أب استدلوا على ذلك بالقرآن بقوله : { كما أخرج أبويكم من الجنة } وقال ابن عباس : لو كانت الجن تظن أن الإنس تسمي أبا الأب جدا لما قالت : { وأنه تعالى جد ربنا } يقول : إنما هو أب لكن أب أبعد من أب . وقد روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس فمن ادعى إجماعهم على ترك العمل بالرأي والقياس مطلقا فقد غلط ومن ادعى أن من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس فقد غلط بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها ومن رأى دلالة الميزان ذكرها والدلائل الصحيحة لا تتناقض لكن قد يخفى وجه اتفاقها أو ضعف أحدها على بعض العلماء . وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين كما أن لهم معرفة بأمور من السنة وأحوال الرسول لا يعرفها أكثر المتأخرين فإنهم شهدوا الرسول والتنزيل وعاينوا الرسول وعرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله مما يستدلون به على مرادهم ما لم يعرفه أكثر المتأخرين الذين لم يعرفوا ذلك فطلبوا الحكم ما اعتقدوا من إجماع أو قياس . ومن قال من المتأخرين : إن الإجماع مستند معظم الشريعة فقد أخبر عن حاله ؛ فإنه لنقص معرفته بالكتاب والسنة احتاج إلى ذلك وهذا كقولهم : إن أكثر الحوادث يحتاج فيها إلى القياس لعدم دلالة النصوص عليها ؛ فإنما هذا قول من لا معرفة له بالكتاب والسنة ودلالتهما على الأحكام وقد قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - إنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة وإنما تكلم بعضهم بالرأي في مسائل قليلة والإجماع لم يكن يحتج به عامتهم ولا يحتاجون إليه ؛ إذ هم أهل الإجماع فلا إجماع قبلهم لكن لما جاء التابعون كتب عمر إلى شريح ؛ اقض بما في كتاب الله فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله فإن لم تجد فبما به قضى الصالحون قبلك . وفي رواية : فبما أجمع عليه الناس . وعمر قدم الكتاب ثم السنة وكذلك ابن مسعود قال مثل ما قال وعمر قدم الكتاب ثم السنة ثم الإجماع . وكذلك ابن عباس كان يفتي بما في الكتاب ثم بما في السنة ثم بسنة أبي بكر وعمر ؛ لقوله : { اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر } وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء وهذا هو الصواب . ولكن طائفة من المتأخرين قالوا : يبدأ المجتهد بأن ينظر أولا في الإجماع فإن وجده لم يلتفت إلى غيره وإن وجد نصا خالفه اعتقد أنه منسوخ بنص لم يبلغه وقال بعضهم ؛ الإجماع نسخه والصواب طريقة السلف . وذلك لأن الإجماع إذا خالفه نص فلا بد أن يكون مع الإجماع نص معروف به أن ذلك منسوخ فإما أن يكون النص المحكم قد ضيعته الأمة وحفظت النص المنسوخ فهذا لا يوجد قط وهو نسبة الأمة إلى حفظ ما نهيت عن اتباعه وإضاعة ما أمرت باتباعه وهي معصومة عن ذلك ومعرفة الإجماع قد تتعذر كثيرا أو غالبا فمن ذا الذي يحيط بأقوال المجتهدين ؟ بخلاف النصوص فإن معرفتها ممكنة متيسرة . وهم إنما كانوا يقضون بالكتاب أولا لأن السنة لا تنسخ الكتاب فلا يكون في القرآن شيء منسوخ بالسنة بل إن كان فيه منسوخ كان في القرآن ناسخه فلا يقدم غير القرآن عليه ثم إذا لم يجد ذلك طلبه في السنة ولا يكون في السنة شيء منسوخ إلا والسنة نسخته لا ينسخ السنة إجماع ولا غيره ؛ ولا تعارض السنة بإجماع وأكثر ألفاظ الآثار فإن لم يجد فالطالب قد لا يجد مطلوبه في السنة مع أنه فيها وكذلك في القرآن فيجوز له إذا لم يجده في القرآن أن يطلبه في السنة وإذا كان في السنة لم يكن ما في السنة معارضا لما في القرآن وكذلك الإجماع الصحيح لا يعارض كتابا ولا سنة . تم بحمد الله وعونه وصلواته على خير بريته محمد وآله وسلم .


مكتبة مشكاة الإسلامية
نقلا عن موقع الإسلام
.....انتهى
وامل الفائده المرجوه للجميع
.............اخوكم فى الله..سقراااط

سقراط 19-07-04 09:30 AM

اتمنى
تثبيت هذا الموضوع فتره
ليستفيد منه الجميع


الساعة الآن 09:21 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir