منتديات قصيمي نت

منتديات قصيمي نت (http://www.qassimy.com/vb/index.php)
-   قسم القصص والروايات (http://www.qassimy.com/vb/forumdisplay.php?f=71)
-   -   رواية فارس من أرض كوش (http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=764296)

adilahmedyousif 28-03-23 03:14 PM

رواية فارس من أرض كوش
 
عادل أحمد يوسف





فارس من أرض كوش





رواية
2022






















الفصل الأول

كنت أقف مع جمع غفيرٍ من أبناء قريتي في يوم من أيام طفولتي الباكرة بجانب الجبل الكبير الذي ينتصب شرق قريتنا، كان أهل القرية يجتمعون هناك أسفل الجبل عندما يكون الجو صحوا وربيعيا، هذه عادة متوارثة عن آبائنا الأولين. ذلك الجبل الكبير كانت تعلوه صخرة كبيرة تشبه حبة الفاصوليا. فجأة انشطرت الصخرة إلى نصفين، ثمة دخان كثيف قد تصاعد، وخطوط ممتدة منه كأنها مسار طائرات، كانت المسارات تتشكل من ألوان عدة كأنها ألوان قوس قزح، رأيت بعض الأشباح الطائرة في الفضاء الممتد أمامي وسرعان ما بدا أمام ناظري خمسة أشخاص، أربعة رجال وامرأة، كانوا جميعا يلبسون لباس الكوشيين القدماء. تلك الملابس الملكية التي نراها منحوتة في آثارهم الخالدة ونقوشهم الممتدة عبر الأزمان.
كان كل واحد منهم يحمل سيفا من الذهب الخالص كسيف بعانخي الملك الكوشي العظيم والنياشين وحدها تزين ملابسهم، سرعان ما انتظموا جميعا ونظروا صوب الجبل الذي كان خلفهم، وأتت إشارة من بعيد، أو هكذا بدا لي، وبدأوا يرددون النشيد الوطني لمملكة كوش القديمة على نحو راتب ومهيب أذهل الجميع وجعلهم متسمرين في أماكنهم لبعض الوقت.
خلقنا الله فسجدنا له
وجعل العالم يهتف لنا
فنحن الأوائل في كونه
وكل البشر أتوا بعدنا
فيا مجد كوش العظيم المجيد
فمن في الورى يكون مثلنا
وكنداكة تنسج ثوب المهابة عزَّا
وفخرا ليبقى لنا
طار الرجال صوب النجوم كصواريخ انطلقت من منصة ثابتة ثم انحدروا إلى مكان نخلة بعينها قرب النهر، ربما كانت تلك الإشارات قد أتت منه وتحت النخلة ثقب مبهم، كثرت الأقاويل عنه ويحكى أيضا أن هذا الثقب عمره أكثر من عمر النخلة نفسها، من الناس من يؤكد أن هذا الثقب يصل حاضر المنطقة بماضيها، وأن السفر عبر الأزمان يبدأ من هناك، ويقال أيضا: إن كثيرا من أرواح الموتى من الملوك الذين رحلوا قبل آلاف السنين مازالت تحوم هناك، وهذه النخلة سيأتي الحديث عنها لاحقا، المهم أن الرجال الأربعة وخامستهم المرأة عادوا في لحظات معدودة وبدأوا الطيران حول الناس في مسارات دائرية على ارتفاع مائة متر على وجه التقريب، ثم اختفى جميع الرجال فجأة إلا أن المرأة الوحيدة بقيت تراوح مكانها ولحظات الصمت المهيبة تجلد عيون الحضور والخوف يغزو رؤوسهم، انتفخ جسد المرأة التي أمامهم كأنه بالون بلاستيكي وبدأ يكبر ويكبر حتى أصبح أكبر من حجم الجبل نفسه، صرخت المرأة صرخة مدوية وضربت الجبل بقبضة يدها، حتى عادت الصخرة إلى طبيعتها.
خاف الناس من هذا المنظر العجيب، منهم من بكى ومنهم من خاف وارتعب ومنهم من فقد وعيه وكثيرون ضربوا الأرض بأرجلهم جريا صوب القرية، تاركين هذا الكائن الملكي لوحده، الكثير من البسطاء لا يعرفون شيئا عن تاريخهم ولا عن ملكهم العظيم بعانخي الذي أرسل جيشًا جرارًا لغزو مصر في شمال الوادي لأن المصريين أساءوا للخيول ولابنه تهراقا الذي امتد ملكه حتى مشارف سيناء. ثمة أقاويل كثيرة وتفسيرات جمة خرجت بعد ذلك تبرر ظهور تلك الكائنات العجيبة، منهم من قال إن سحرة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام والذي تحدث القرآن الكريم عنهم ما زالوا يعيشون في الأرض النوبية (الكوشية)، ثم إن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام نفسه - والذي يرجح الكثير من النوبيين أنه كان نوبيا (كوشيا) - ولد في هذا الجزء من العالم قبل أن يحمله النهر شمالا إلى أرض الفراعنة وتلك قصة معروفة للجميع.
يقول البعض إن هؤلاء السحرة مازالوا قابعين في جزيرة ناوا، جنوب مدينة دنقلا الحالية، وإن أصلهم يرجع إلى الثقب الذي تحت النخلة وكثيرون أيضا يقولون إن الحسد والبغضاء وآفات كثيرة مرتبطة بالدجل والشعوذة قد تمكنت من النوبيين مما حرك مشاعر آلهتهم القديمة فأرسلوا لهم هذه الكائنات العجيبة لتُريَ الناس عجائب قدرتهم وسطوتهم على النيل وسكانه. ومنهم من قال إن هذه المرأة هي إحدى الكنداكات التي رميت في النيل منذ آلاف السنين اتقاء غضب النيل وفيضانه الشرير، تلك الكنداكة قد كانت وحيدة أمها وكانت الأم تتوسل إلى ربها يوم اقتادوها قربانا للآلهة وكانت تناجي ربها ليس إله النيل لأنها لم تكن تعبد آلهتهم أبداً، إنما كانت تناجى إلهاً واحداً أحداً بعيدا أقوى من كل هؤلاء الآلهة المعروفين لديهم. عندما علم الملك النوبي آنذاك بمعتقدات تلك المرأة الخارجة عن المعتقدات الملكية اختار ابنة تلك المرأة قربانا لآلهة النيل.
ومن ذهب إلى هذا الاتجاه فسر ظاهرة رمي الصغيرة التي عمّت أرضنا الكوشية منذ ذلك الزمان حتى انتهاء ملكهم؛ لأن القرابين غالبا ما كانت تختار من سن الثمانية عشر عاما فما فوق، لكن تلك الصغيرة يوم رميها في النيل لم تكن تبلغ العاشرة من عمرها، وهذه هي المرة الأولى التي رمُيت فيها بنت صغيرة في مثل ذلك العمر قربانا للمعتقد ومنذ ذلك الزمان فإن التحذير من انتقام الآلهة، وتوسلات أم الفتاة التي أثارت فضول الناس، والتي انتحرت في النيل غرقا بعد وفاة ابنتها ما زال مستمرا إلى يومنا هذا.
إن الكوشيين رغم أنهم مسلمون ومجتمع طيب ومسالم إلا أن بعضا منهم مازال يعتقد أن الآلهة القديمة يمكن أن تؤذيهم، ثم إنهم يعتقدون أيضا أن النيل مازال يفيض بمشيئة آلهة كوش القدماء. إنه الجهل يا سادتي، لكن لا أحد يستطيع تغيير الواقع وقلب هذه المفاهيم والتي رسخت في أذهانهم منذ فجر التاريخ؛ لأن السحرة كانوا يحرسونها على حسب اعتقادهم، وكيفَ لا؟! فطقوس الديانات القديمة مازالت تسيطر على حياتهم بقوة أكبر مما كانت عليه في الماضي، فمثلا: عند ولادة ابن جديد يذهبون إلى نهر النيل لأخذ البركة بالتمسح من مائه. ثم إنهم يذهبون إلى أضرحة أولياء الله الصالحين الذين لا أحد يعرف عن تاريخهم شيئاً والتي هي ملاذ آمن لهم ومنها ضريح (سيدي الحسن أبو جلابية) يقدمون النذور والأضحيات بذبح خروف أو خروفين لطلب الاستشفاء والنجاح، ومنهم من يذهب إلى الثقب المعروف تحت الشجرة الخالدة وهناك من قال أيضا إن المصائب مصدرها هي روح (ميدوب) الشقية والتي تتمدد خلاصا من الأذى الذي لحق بصاحبه. هكذا هي تعاويذ القارة البائسة والتي لا تنتهي أبداً. أذكر من ذلك تقليد الشلوخ بأنواعها المختلفة والشلوخ وشم يوضع على الوجه، وكذلك القتل والسحل لإخراج الجن، ومن ذلك أيضا الضرب في الرأس حتى الموت لإخراج الأرواح الشريرة، وشرب بول الأبقار أو الحمير وأكل الملوحة حتى لو كانت مُدّتها منتهية منذ زمن بعيد، ناهيك عن عدم التقيد بالنظر إلى ظروف صناعتها وغيرها الكثير المدهش من عجائب الأمور. إفريقيا قارة تحكمها التعاويذ القديمة وتمضي بمشيئة السحرة وعصا الدجّالين وبركة الشيوخ المزعومة، ثم إنّ ميدوب هو تجسيد للبؤس في قارة الجوع والفقر والمرض، رغم الغنى الفاحش لهذه الأرض الغبراء وتميزها الكبير عن باقي قارات الدنيا.
أما اسم ميدوب فسيتكرر كثيرا فيما بعد.
اسمي عبد المعين دفع الله، ولدت في قرية من قرى النيل، اسمها (مولين إركي) وتعنى باللغة النوبية قرية الجبل. كان والدي يعمل في الزراعة في ساقية جدي وذلك بعد أن ترك جيش الإنجليز الذي خدمه طوال خمسة وثلاثين عاما. لم يترك والدي بلدا مستعمرا من قبل الإنجليز إلا خدم فيه، لقد كان مرجعا للتوثيق لمن أراد أن يتعرف على تاريخ كوش وعن عصر الإنجليز وفترة الاستعمار وكان في اعتقاده أن الإنجليز خرجوا باكرا من الوطن قبل أن ينضج وعي الشعب ويقوى عوده لمجابهة تحديات العصر وقبل أن ينسجم الشعب مع بعضه ولقد كانوا شعوبا وقبائل شتى، هذا كان اعتقاده، ولقد أبلى الرجل بلاء حسنا ومُنح على أمانته وشاح القديس ميخائيل من الإمبراطورية العظمى لقاء خدماته. وهو الشخص الوحيد الذي نال هذا الشرف الرفيع في عموم المنطقة الكوشية وكان هذا مصدر فخر له ولنا وللمنطقة كلها على الدوام.
لا أعرف تاريخا محددا ليوم ميلادي بالطبع لكنه مدوّن في شهادة التسنين التي أخرجتها فيما بعد، تمهيدا للالتحاق بالمدرسة الابتدائية في قرية (مولن إيركي) وهذه الشهادة تقدير افتراضي يقوم به الطبيب المسئول عن عمر الطفل عند وصوله لسن المدرسة، وكان الطبيب غالبا ما يختار الأول من يناير كسنة متبعة لمعظم أبناء بلدي. وتلك قصة قد تكررت كثيرا في أبناء جيلي، وكذلك في الأجيال التي سبقت جيلي، لم يعط أحدٌ تفسيرا دقيقا لهذا التقليد. إذ كان بإمكان الآباء والأجداد أو مسؤولي المراكز الصحية أن يسجلوا تواريخ ميلاد أبنائهم وبناتهم في نفس أيام الولادة كما تفعل معظم الأمم المتقدمة، هذا بالطبع سبّب إرباكاً للكثيرين من أبناء جيلي في حياتهم والأجيال التي سبقتنا أيضا في تفاصيل حياتهم اللاحقة.
ولكن والدتي رحمها الله، ذكرت لي عندما سألتها ذات يوم عن تاريخ ميلادي التقريبي، إذ قالت: إنني ولدت يوم أن اجتاحت السيول قريتنا وهدمت عشرين بيتاً من بيوت أهلي وجيراني، وأوقعت الآلاف من النخيل وأتلفت كافة المحاصيل. وذكرت أيضا أن ميدوب شهيد القرية والذي سقط عليه سقف أحد البيوت المعروشة من سعف النخيل كما هي عادة بيوت كوش عبر الأزمان وذلك يوم السيل الكبير ولقد أُخرج من تحت الركام جثة هامدة وكان المسكين يحاول إخراج رضيع لجارٍ له جرفته السيول في ذلك اليوم الحزين. ولقد رسخ هذا التاريخ في أذهان العامة، ذلك ما حفظ ذكرى يوم ميلادي من الضياع رغم أنه ارتبط بمناسبة حزينة. يظهر أن القرية كلها قد تأثرت كثيرا بذلك الرحيل المفاجئ والمأساوي لشاب محبوب وخدوم حد الدهشة، لطالما وقف مساندا لكل القضايا المصيرية لأهل القرية، لقد سببت وفاته بالطبع صدمة كبيرة لكل سكان القرية والقرى المجاورة أيضا، وأُقيم سرادق العزاء لمدة شهر كامل أو يزيد كما هو شائع، لقد رثاه الشعراء وتغنّى بعظيم شمائله المغنون، وتكريما له أقيم على قبره شاهد خرصاني، كتبت عليه العبارة التالية: (استشهد البطل ميدوب يوم الثالث والعشرين من يونيو عام ألف وتسعمائة واثنين وسبعين وهذا يدل على أنني إنسان محظوظ وذلك أن نصف سكان القرية تقريبا يحفظون تاريخ ميلادي لأن شاهد قبر ميدوب يوثقه ويؤكد صحة كلام والدتي أيضا ثم إن لميدوب هذا قصصا تُروى، لقد مات منذ زمن بعيد لكن روحه مازالت تؤرق حياة أهل القرية، فإن ظهوره واختفاءه المتكرر أصبح لغزا مرعبا لأهل القرية، مازال الناس في حيرة، هل كان ذلك الشخص الذي دفنوه هو نفسه ميدوب أم توأمه؟؟ كما كان يقول هو في حياته إن له توأما يشبهه تماما يعيش في مكان بعيد، مكان لم يسمه مطلقا لأحد.
في تقاليد القارة البائسة يمكنك أن تصدق كل شيء، ليس هنالك شيء يوزن بالعقل، فإن العواطف والخرافات هي من تحرك قافلة الحياة وتنسج منوالها لملايين البشر على امتداد النيل العظيم وخير مثال على كلامي ما سأرويه لكم الآن. ففي فترة باكرة من عمري شهدتُ احتفالا كبيرا أقيم في القرية بعودة ثلاثة من مشايخ ماتوا قبل خمسين عاما على وجه التقريب، وذلك قبل أن تغرق مياه السد العالي وادي حلفا أو مدينة حلفا القديمة على وجه التحديد، المهم أن هؤلاء المشائخ كانوا مدفونين في الجزء الغريق من المدينة، المدينة التي أغرقتها مياه السد العالي، وأصل الحكاية أن هؤلاء الموتى قد أخبروا ابنا لهم في منامه أنهم قرروا أن ينتقلوا بمقابرهم إلى القرية، ولقد كان ابنهم شيخا متدينا وصادقا لا يختلف اثنان على ورعه وصلاحه. وكان على القرية أن تصدق كل ما قاله الشيخ الجليل ابن الأكرمين وسليل الأئمة المبجلين، في اليوم المحدد وبدعوة من الشيخ نفسه، ذهب بعض من أهل القرية مع الشيخ فوجدوا قبورا ثلاثة في ذات المكان الذي وصفه الشيخ لهم، حينها لم يصدق الناس أن الشيوخ يمكنهم أن يصحوا بعد موتهم ويتحركوا ويبدلوا مواطن قبورهم، لكن منظر القبور يقول إنها ليست قصة مختلقة، بل حقيقة ماثلة كما شهد لها الجميع، كيف ذلك لا أدري! في ذلك اليوم وبالرغم من صغر سني كنت واعيا بما يكفي وبما يدور حولي، ذهبت إلى أبي وقلت له: يا أبتي كيف يتحرك الموتى بعد دفنهم؟!! وبأمر من؟ هل يتحركون من تلقاء أنفسهم؟ أم بواسطة قوى أخرى وهل هؤلاء الشيوخ من سكان الأرض، أم أنهم كائنات فضائية أتت من أصقاع بعيدة، هل هم يشبهون سكان اليوم، أم هم متأخرون عنهم؟ هل هم بيض أم سمر، هل يتكلمون لغتنا أم لهم لغة أخرى؟ هل هم من فصيلة البشر؟ أم هم أشكال أخرى شأنهم شأن الجن والملائكة؟ وإن كانوا بشرا مثلنا فهل هنالك حياة خاصة بالشيوخ غير حياة العامة؟ وهل خصّهم الله بهذه الصفات الخارقة، أعني التنقل بعد الموت؟ أغثني يا أبتاه وفسر لي ما أمكن ذلك.
كان أبي ينصت لي بانتباه شديد ويقول لي:( نعم نعم إنهم الشيوخ الأجلاء، طبعا طبعا هم من سكان مجرتنا وأبناء كوكبنا وهم بشر مثلنا تماما لا شك في ذلك، يأكلون ويشربون وينامون ويسبحون في النهر، يفرحون ويزعلون ويمرضون ويموتون، هم مثلنا تماما يا بني ولكنهم قد توارثوا الخلافة أباً عن جد وهم في الأساس أُناسٌ متدينون. يعالجون بالقرآن الكثير من المرضى والمجانين، كما أنهم يعلمون بعض الأشياء الغيبية بمددٍ من تقواهم، إن الله يخص بعضا من عباده بقدرات استثنائية، ليست كلها ولكن ببعضها. فقاطعته قائلاً: وكيف يعرفون هذه الأشياء؟ هل يستخدمون الجن؟ سألته ولقد أذهلني روعه من هذا السؤال، اقترب والدي مني كثيرا وجلس على ركبتيه وقال لي: لا أدري يا بني إنه سؤال تصعب الإجابة عنه، لكنني سأقول لك شيئا واحداً سمعته من جدي، قلت له: ماذا؟ قال يا بني، أتعرف تلك الشجرة الطويلة المميزة التي تنتصب في آخر القرية والمعروفة بالشجرة الخالدة؟ قلت له: نعم أعرفها، قال لي: لا تقترب منها ولا تأكل من ثمرها، قد يكون هناك شيء عظيم، جزء من تمرها يختلف لونه وحجمه عن بقية التمر، هناك قد يكمن السر يا بني. لا تُحدث أحداً بما أسررته لك، قلت له لماذا؟ ردّ علي قائلاً: إن هذه المنطقة مليئة بالأشباح والأرواح التي ماتت عبر الأزمان، والتي تأتي من داخل الثقب وربما هؤلاء المشائخ أتوا عبر الثقب أيضا، لذا عليك أن تسكت يا بني، وتأكد أنه لو سمع أحد منهم حوارنا فربّما تأتي إلينا المصائب، وقد يسلط علينا هؤلاء غضبهم، لم يسمّهم بأسمائهم، لكنني فهمت ما أشار أبي إليه على أية حال، غير أني لم أترك لحيرته سبيلا. وكنت فضوليا بعض الشيء إذ قاطعته قائلا: ماذا تقول يا أبي؟! ماذا قلت؟ اضطرب أبي قليلا، جال بنظره ناحية اليسار ومن ثمّ ناحية اليمين، كأنه أراد أن يتأكد من أن المكان خال من الناس ولا أحد يتلصص علينا، وقال وهو ممسك بيده اليمنى كلتا يدي وكان جالسا، وهمس في أذني، اسكت يا بني بحق السماء وباسم (سيدي الحسن أبو جلابية) ولا تنس أن للنخل أيضا أذنين تسمعان. لم أر في حياتي أبي حائرا ومرتبكا مثل ذلك اليوم. لكن العدالة تقتضي أن أقول لكم: إنني من جانبي لم أكن مقتنعا أبدا بما قاله أبي لي. وقلت في سري كيف لهم أن يسمعوا حواري مع أبي وهم ليسوا معنا.
وفي المساء ذهبت إلى صديقي حسن جمعة وهو صديق لي عاش معي معظم أيام الطفولة، وعندما كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري نزلت مجموعة من الناس الذين يأتون في موسم حصاد التمر سنويا بقريتنا وكانت من ضمن هذه المجموعة حسونة أم حسن جمعة ومعها ابنها حسن وهو كان في سني تقريبا ولقد كانت امرأة سمراء ولا تشبه كثيرا هؤلاء الذين أتت معهم ونحن نسميهم في منطقتنا حلب السليم وذلك لبياض بشرتهم ولقد كنت أنادي حسنا دوما باسمه مقرونا باسم أبيه حسن جمعة، خلافا عن باقي أهل القرية الذين ينادونه باسم حسن ود حسونة، المهم في الأمر أنني أخبرته بكل ما دار بيني وبين أبي، ووصفت له حالته وهو يسرد لي تلك القصة، وذكره (لسيدي الحسن أبو جلابية) أكثر من مرة كأنه يستجديه، وهو صاحب الكرامات الخارقة والأفعال الغريبة في عرف الناس كما أسلفتُ. رد حسن قائلا: أنا أيضا لا أتصور أن للموتى قدرات خارقة. لكن على أية حال (سيدي الحسن أبو جلابية) حاضر في وجدانهم وهم يتنفسون باسمه، يصدقونه ويؤمنون به كأنه نبي من عند الله، لكني لم أسمع أنه قدم لهم يوما خروفا حيا أو مطبوخا في شكل هدية أو وجبة دسمة أو قدم لهم مالا أو نفعهم بشىء يحتاجونه. أو صدّ عنهم مصيبة آتية إليهم، ولو كان للموتى قدرات لرأينا العجب، لكن الثابت أن الميت لا قدرة له على فعل شيء. وإلاّ فأين الملوك والجبابرة العتاة؟ وأين بعانخي وتهراقا وأماني ريناس؟ وأين أجدادنا الذين سدوا قرص الشمس بأجسادهم؟ وأين هم الفرسان الذين قطعوا النيل سباحة صباحا ومساء واصطادوا التماسيح بأيديهم دون خوف أو وجل؟ لو كانت هنالك خوارق في هذه الحياة لخُصّ بها هؤلاء. قال لي حسن مازحا لو كان الميت يتحرك لكان أحرى بجدك (يقصد جدي لأمي) أن يعود إليكم مرات ومرات وهو الذي ملأ أسماع الناس بالتلاوة والذكر الحكيم، وجدي رجل عظيم حقا ولقد مات قبل ثلاثة أعوام فقط بعد أن بلغ التسعين من العمر وكان يسمى الصادق الأمين بشهادة الرجال والنساء على حد سواء وهو الذي عالج الناس باستخدام آيات القرآن. شعرتُ بالفخر وأنا أسمع كلّ ما قاله صديقي في حق جدي ودعوت له خالصا من قلبي، بارك الله في عمرك يا صديقي وقلت أيضا رحمة الله تغشاك يا جدي.
كان المكان الذي توجد فيه النخلة المعمرة أو الشجرة الخالدة مكانا معروفا للجميع ولكن النخلة نفسها وما تحتها كان لغزا كبيرا في عرف الناس والثابت في خلدهم أن مكان النخلة وما حوله مسكون بالجن والشياطين كما يعتقد معظم الناس هناك وأحيانا تأتي منه البركة والحظ، كم من فتاة تائهة جلست هناك تبكي وسرعان ما جاءها عريس وتزوجت وكم من فتاة تركها حبيبها ولجأت إلى هناك وأتاها حبيب آخر وسعدت.
إن المنطقة كلها تعرف حكاية الثقب وهو مغطى تماما بعشب أخضر وبعض الحجارة المنحوتة بحروف قديمة ونقوش ورسومات وألغاز لا أحد استطاع أن يفك أسرارها.
ويقال أيضا: إن تلك النحوت تشبه العصر الكوشي. ويقال أيضا: إن نصف مجانين المنطقة قد أتت حالة الجنون لهم بعد أن كثُر ارتيادهم لذلك المكان والمكان اشتهر بارتباطه بالشعراء والجن والعفاريت.
فكل شعراء المنطقة تقريبا يزورون المكان بانتظام. ويكتبون هناك أشعارهم الخالدة.
والمنطقة برمتها منطقة شعراء ويمكنني أن أقول: إن كل شخص أراد أن يخلد حبه يأتي إلى هناك وينشد الغزل في محبوبته.
وكان لسحر جزيرة (جِرْجَا) أثر واضح في صيت المكان أيضا وجِرْجَا نفسها كانت تقع قبالة النخلة الخالدة ومن أشهر أغاني النوبة تلك الأغنية التي ألّفها حسن جمعة في حبيبته وهيبة وهذان الشخصان سيأتي ذكرهما كثيرا فيما بعد.
حمل حسن جمعة الطمبور ذات يوم وغنى وهو يمشى حول الشجرة حتى اجتمع خلق كثير حوله وهو يغني بصوت جميل ومدهش، لطالما اعتقد من يسمع مثل ذلك الصوت أنه فنان محترف وكبير ذاع صيته منذ وقت بعيد جدا وليس شخصا عاديا.
وإلى أغنية حسن لمحبوبته وهيبة:
يا شقية ويا جميلة
من جمال إحساسي جيتي
وأنتي من جِرجَا الوريفة
شجرة رويانة وظليلة
حلوة نديانة وشجية
شايلة نور القمرا ياما وقامة النخلة الأبية
وبهجة النيل وجروفه
وسطعة الشمس البتقدل في سماها
أنتي يا نوارة ياما
نسمة فجرية وهنية
وعيونك سكرية
فيك أبحر بالقوافي
وألحق الشط البغادي
أنت حلوة
تدي زي نغم السواقي
عاشقة زي جرف البوادي
وحكايات النوادي
والشجيرات تنادي
يا وريفة يا غزالة
لومشيت خلفك أعاني والسحب تمطر وراك
يا رضيّة
أنتي من جِرجَا الجميلة
سمحة نديانة وشجية
يا وهيبة
سرعان ما تلقف فنان كوشي تلك الأغنية الرائعة وجوّد لحنها وأبهر بها البوادي والحضر.
أصبحت الأغنية على كل لسان واشتهرت قصة حبهما هي وحسن في أرجاء المنطقة الكوشية.
كانت وهيبة كحوريات البحر، بيضاء الوجه، شقراء الشعر ويحكى أن جدتها من اُمَها كانت حورية وجدت ملقاة على الشاطئ ذات يوم وكانت عمر الحورية ثلاثة أيام فقط حينما وجدتها أسرة من القرية وتبنتها وأصبحت جزءا من عائلتهم.
زوجوها من شاب من البلد حين كبرت وخلفت بنتا اسمها حورية، وهي أيضا كبرت وتزوجت من البلد أيضا وأنجبت وهيبة ست الاسم. هذه هي الرواية الأكثر تداولا عن أصل وهيبة، لكن يمكنك أن تسمع حكايات أخرى عن أصلها وفصلها؛ لأن منطقتنا تكثر فيها الشائعات ومن الصعب أن تجزم بشيء كهذا لكثرة الأقاويل وتعدد المصادر.
ومنذ ذلك اليوم الذي كبرت فيه جدة وهيبة وتزوجت وأنجبت تسللت العيون الخضر والشعر الأشقر إلى دماء الكوشيين.
ومن هذا الاتجاه فإن حكايات ميدوب الذي مات يوم ولادتي، وقيادته للحياة في منطقتنا وامتلاكه القدرة على بلورة الأحداث، شيء لا يمكن تجاهله في خيال بعض الناس، ويحكى أن ميدوب قد دُفن في فركي خور- وتعنى بالنوبية وادي فركي - وهو وادي منخفض يشق القرية إلى نصفين ويُحكى أن هذا الخور يمتد إلى مشارف مدينة (أبو حمد) عند انحناءة النيل نحو الغرب، بعد مسار منعرج وطويل. وأبو حمد نفسها مدينة تقع على الضفة الشرقية للنيل على بُعد ألف كلم تقريبا جنوبا من قرية (مولين إركي) يقال: إن تلك المساحة الشاسعة تسكنها الشياطين ويقدر عددهم بالملايين، ويطلق على المنطقة وادي الجن، ويقال: إن قبيلة الجن تزرع تلك الأرض الممتدة، والتي تقدر مساحتها بآلاف الأفدنة منذ آلاف السنين، ويقال أيضا: إنهم مسلحون بعتاد عجيب يمكنه أن يفوق قوتي أميركا وروسيا مجتمعتين، ويُحكى أيضا أن هذا هو السبب الحقيقي لعدم زراعة واستغلال تلك الأراضي من قبل الحكومات المتعاقبة، ويقال أيضا أن ميدوب قد دخل ذات يوم الثقب المعروف وخرج من عند الوادي والذي يبتعد أكثر من ثلاثة كيلومترات. قد تكون تلك خرافات وأساطير، لكنها تسيطر على التفكير الجمعي لأهالي النيل.
في يوم لا أذكر تاريخا محددا له ظهر ميدوب فجأة وخاطب جمعا غفيرا من الناس قائلا: أيها السادة والسيدات أحفاد ملوك وملكات كوش، كنداكات مملكته العظيمة. قبل كل شيء، عليكم أن تعرفوا، أنني ميدوب ومهمتي أن أدافع عن إرث ومعتقدات آبائكم الأولين، ودستور إمارتي لكم ميثاق خاليوت بن بعانخي العظيم:
(إنني لا أكذب
ولا أعتدي على ملكية غيري
ولا أرتكب الخطيئة
وقلبي ينفطر لمعاناة الفقراء
إنني لا أقتل شخصا دون جرم يستحق القتل
ولا أقبل رشوة لأداء عمل غير شرعي
ولا أدفع بخادمٍ استجارني إلى صاحبه
ولا أعاشر امرأة متزوجة
ولا أنطق بحكم دون سند
ولا أنصب الشراك للطيور المقدسة
أو أقتل حيوانا مقدسا
إنني لا أعتدي على ممتلكات المعبد (الدولة)
بل و أقدم العطايا للمعبد
إنني أقدم الخبز للجياع
والماء للعطشى
والملبس للعري
أفعل هذا في هذه الحياة الدنيا
وأسير في طريق الخالق
مبتعدا عن كل ما يغضب المعبود
لكي أرسم الطريق للأحفاد الذين يأتون من بعدي
في هذه الدنيا، وإلى الذين يخلفونهم وإلى الأبد)
ثم تابع كلامه قائلا ذات يوم وأنا بالقرب من الجبل رأيت تلك المرأة التي خرجت من حبة الفاصوليا (الصخرة الكبيرة التي انشطرت) ذات الروح الملكية، تطير صوب السماء مغطية القرية كلها بجناحين كبيرين، وهي تُحدث صوتا مدهشا سمعه كل أهل القرية أيضا، كانت تقول أين أنتم من ملوك الماضي؟ وملكات كوش؟ أين روح الكنداكات التي سيّرت النيل وبنت الحضارات وألهمت العباد؟ أين محتويات العروش الملكية؟ لقد أضعتم حضارتنا ورمّلتم تقاليدنا ولم تستطيعوا حتى استخراج ما تركناه لكم في باطن الأرض من ذهب.
ها هي الأمم تسرق ملككم وذهبكم وأنتم نائمون، إن الطائرات تأتي من حيث لا تدرون، حيث قامت بسرقة عرش بعانخي الذهبي، انتبهوا لآثار صَلِب وصاي وكرمة وجبل البركل ومروي والآلاف من المدن المطمورة. إن ثروتكم تعد بمليارات الدولارات، مدن بكاملها طُمرت وحضارات تحت الثرى ترقد منذ آلاف السنين ولقد طواها النسيان.
يا من اخترعتم الأبجدية وأهديتم البشرية فن صهر الحديد وفنون القتال والنطفة الأولى في فن النحت والبناء كفى رُقادا يا أبناء وأحفاد أهل النيل العظماء كفى انتظارا لعودة بعانخي العظيم، ثم واصلت تثرثر، وأصبحت تتلو شيئا من تراثيات فننا القديم:
سلاما قريتي العذراء سلاما أيها النيل
ترابك ازدهى نُزلا في الأرواح والمقل
وذاع النيل في عمري عافية لا وصم
وكان ملاذنا المرئي بدور غير منقسم
وألف حكاية نسجت في الكثبان والرمل
ونحن بنوك في السراء والضراء والمثل
نحن عراقة الماضي وأرتال من الألغاز والحيل
فدينا النيل خالصة بأقوام من الرحل
وكل أميرة رميت قربانا من الأهل
هنالك حبنا الأول للوديان والسهل
هنالك قبر والدتي وآبائي الأول
هنالك عمتي آمنة أراها كوكب الزحل
هو التاريخ يرفدنا بالآراء والأمل
جبال كلها درر وأرض كلها نخل
باسم الحب والعرفان والقيم
بحق مرارة الآهات اكتب أنت يا قلم
دوّن في رياض الزمن قيم الخير والألم
سطر عن زمان التيه والأشرار والظلم
بأي جريرة سرقت كنوز الأرض والنعم
بأي طريقة سلبت أراضي الأهل والقيم
بأي وسيلة حرقت نخيل الناس والشيم
بكائي ليس ينفعني في دنيا كلها ظلم
أيا كوش مللت الشعر والتمكين بالقدم
بكل حضارة سمقت عند الحرب والسلم
بكل قصائد الشعراء وأهل الفن والنغم

وبعد ذلك ذهبت إلى مكان الشجرة المعمرة ودخلت من الثقب واختفت.
هذا ما قاله ميدوب ثم سكت وهو ينظر إلي الجميع كأنه انتصر عليهم بالضربة القاضية. رد عليه رجل كبير في السن قائلا: يا أهل قريتي لا يغرنّكم كلام الموتى، ميدوب هذا ميتٌ وأنا الذي أنزلته في القبر ودفنته مع ثلة من الناس. لا أتذكر وجوه المشيعين يومها، لقد كانوا كُثرا، شُعثا وغُبرا. كلّ هذا ليس مهمّا، إن كل الكلام الذي قاله ليس واقعيا، وهو في حد ذاته كشخص لغز كبير وسرٌ مبهم كتاريخنا تماما. سرّه هو نفس سرّ المدن المطمورة والآلهة المحنطة والملوك المدفونين منذ الأزل. لكن الثابت أن هذا الرجل المقبور أعني ميدوب قد مات. وأن الشيطان يتمثل في صورته، هذا شيء مؤكد وأجزم لكم بذلك، هل سمعتم في تاريخكم كله أن ميتا قد عاد من قبره؟؟ قلت له: نعم نعم أيها الرجل الطيب الشيوخ الثلاثة أ لم تسمع بتلك الواقعة؟ إن سألت أصغر طفل في قريتنا سيسرد لك حكايتهم بكامل تفاصيلها. رمقني الرجل العجوز بنظرة ازدراء ولكنه لم يقل شيئا، لقد أغاظتني هذه الحركة وحاولت أن أرد عليه بحركة احتجاج، أو أن أصفق له مثلا بكلتا يدي، لكن صديقي حسن كان بجانبي، لكزني برجله وقال لي بصوت خافت: اصمت اصمت، واصل الرجل العجوز كلامه، هذه تخاريف رجال يملكون الشيطان ويطيعونه، قاطعه رجل يقف بعيدا قائلا: لا أيها الرجل أنت المخرف، إن الصلاح والبركات موجودة أصلا في تعاليم الدين وسجادات الصالحين، إن الدنيا كلها مُسخّره لعباد الله الأخيار، فهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون. إن منطقتنا ظلّت تقاوم التقاليد القديمة البالية وآثار الفيضانات إنّما ببركة هؤلاء الأسياد، بمدائحهم وتعلقهم بالقرآن والسنة، إنما حلّت بنا البركات بأدعيتهم، وقد ينتج الفدان دون إضافة أي سماد عشرة جوالات من الفول وضعفه من القمح ببركاتهم أيضا، أي أمة تنتج هذا في الفدان الواحد؟ إلا هؤلاء الكفار الفرنجة في بلاد العم سام وبلاد القارة العجوز وتلك منتجات ملوثة لأنها متبّلة بأسمدة سامة.
منذ أن جئنا إلى هذه الحياة وإلى يومنا هذا، ذاك ما أراه، نعم نعم يا سادتي إنهم أضافوا إلى حياتنا وحياة الذين من قبلنا تلك الروحانيات وصدق التعامل مع الذات. تعلّمنا منهم الإخلاص والاحترام وجمال الحياة وحبّ الخير للناس. تعلمنا منهم قيم التعاضد والتكافل، اللّهم اجعل حياتنا رخاء وجمالا، أكرمنا وأكرم شيوخنا الأجلاء، وأبق تعاليمهم وقيادتهم لحياتنا نبراسا لنا ولعقولنا ولا تفتنا بمستورد الأفكار، وأضاف: هؤلاء الشيوخ هم البركة، ابتسم مفاخرا كأنه أحسّ أن كلامه كان قويا ومؤثرا، أضاف الرجل الأول بانفعال مقاطعا له: دعك من الكلام الشرير المغلف بأحاجي المخرفين، وأشاح ببصره من ناحيته وخاطبنا قائلا: يا أبنائي و يا أحفادي و يا أصحاب العقول، اسمعوا مني أصدق العبارات، إنها ليست تخاريف رجل يخاطبكم. إنها تمتمات النيل عبر القرون، إنها كلمات الصدق الباقية في أخلاقيات أمتنا المجيدة، رغم خذلان الزمان لنا، اسمع أيها النيل العظيم المدهش حقا. اسمعي أيتها الجبال الصامدة، إن عز للناس تصديقي فهذا شأنهم، لكن من واجبي أن أوصل رسالتي. هذه الأقوال كلها تخاريف ولا شيء غير ذلك، وبعدها لهم دينهم ولي دين، كان الرجل يصيح ولكن لا أحد ينتبه لكلامه، رد عليه رجل آخر يماثله في السن، أ نصدقك أم نصدق أعيننا؟ فالمقابر أتت إلى ديارنا وهي موجودة فعلا فكيف ننكر ذلك؟ لقد رأينا بأم أعيننا ما قلناه لكم، لست وحدي حتى تقول إنني مخرف، لكن سكان أكثر من عشر قرى شهدوا معي ذلك الحدث، وقال مخاطبا زميله: اذهب يا أخي. لا ترهق أدمغتنا بفلسفتك المستوردة، هنالك ما وراء الجبل، سنجد الدلائل الدامغة يا سادتي، انتهى كلامه.
روح ميدوب المعذبة ستطارد قوافلنا إلى الأبد، هل هي لعنة إله النيل؟ أم غضبة الكنداكة؟ أم سحرة موسى؟ من يسيّر المكان هناك يا إلهي؟! ويقال إنه أي ميدوب أتى مشيا على الأقدام من مكان بعيد. لقد كان شابا لطيفا حسن المظهر، طيب السلوك أحبه الناس وأحبهم هو. عاشرهم بلين القول وكرم المعاملة وعاملوه بأحسن منها تكريما له وحبا فيه. استقطع له شيخ القرية خمسة أفدنة من أرضه ليزرعها ويعيش بها لأن الشاب كان قد دخل في حياة أهل القرية مدخلا حسنا وأصبح جزءا لا يتجزأ من حياتهم، أفراحهم وأتراحهم. ما أن يتزوج شخص وإلا كان في مقدمة من يقومون بواجب الضيافة والاستقبال. يجهز لهم الشاي ويأتي لهم بالماء، وما أن يموت شخص إلا أن يكون أول من يتسابق لحمل النعش أو ينزل الميت في قبره، وبعد أن مات ميدوب بسنوات طويلة كان يظهر كثيرا وينقل الأعاجيب والألغاز والأحداث إلى أهل القرية كما سردت لكم بعضا من مواقفه.
ذات يوم يحكى أنه ظهر لاثنتين من بنات القرية، وقال لهما إنه رأى امرأة بثياب ملكية تطير في سماء القرية بشكل دائري، وأن جموعاً غفيرة من الناس كانت تنظر إلى السماء حيث تواصل الملكة دورانها، لكنها فجأة اقتربت من الحشد وكان الجسم الملكي الهائل يصغر ويصغر حتى أصبح مثل حبة الفاصوليا وتسلل إلى الثقب حيث تنتصب الشجرة الخالدة. واصل ميدوب كلامه إنها هي هي هي، نفس الشخص الخامس تلك المرأة التي قرأتْ نشيد مملكة كوش ورأيتموها جميعا.
في اليوم التالي ظهر ميدوب أيضا وقال إنه قبل طلوع الشمس قد رأى عند الشجرة بنتا صغيرة، كانت تكبر وتصغر وما أن اقترب منها حتى بدت له صورة الملكة الطائرة، وقال أيضا: إنه رأى قبل ذلك نفس تلك البنت الصغيرة مُسْجاة على الشاطئ وواصل كلامه قائلا: كنت أريد أن أهرب لكنها فتحت عينيها وقالت لي: هذا سرٌّ لا تذعه. أنا روح الملكات الكوشيات. جئت لأطهر الأرض الكوشية من دنس الاستعباد والأفكار الغريبة. سأكبر يا ميدوب وستراني أعمر الأرض الكوشية وأزرع معاني الطيبة وقيم التوارث الأزلي، علامتي أنني أستطيع التكيف مع الظروف وأبدل شكلي تصغيرا وتكبيرا. قال ميدوب فيما قاله: إن الطفلة قد تحولت إلي امرأة وسرعان ما لقفته بجناحيها وطارت به في باطن الأرض عبر ثقب كبير تحت الشجرة الخالدة ونفذت به إلى أقطارها السحيقة حيث وجد عددا كبيرا من الملوك والملكات في حفل ضخم وعظيم. ملوك طوال القامة، أقصرهم طوله يقارب خمسة أمتار، ونساء وفتيات فارعات في الطول وجميلات. ما رأيت أجمل منهن. وفي ذلك اليوم تحرك الملك العظيم من أريكته الذهبية وصعد المسرح لابسا نياشينه المزركشة وقال لي أشياء لم أفهمها في ذلك الوقت، مثل: ربيعة الكاهلية بنتنا، إنها ليست كاهلية كما تظنون وإنما روح كنداكة نوبية قد سكنتْ جسدها وقال: إياك والقدح المسحور، لا تحك أسراره لأحد وقال لي الملك المعظم: يا ميدوب إنك من سلالة ملكية. هاجر آباؤك إلى غرب إفريقيا وها نحن عجلنا بعودتك إلي تلك الأراضي وعليك الاهتمام بالأرض الكوشية وموروثاتها، وسأهديك خاتمي الذهبي، البسه في يدك وعند الملمات اضغط عليه وستجد المفر من أية مشكلة تقع فيها. ألبسني الملك خاتمه وكان مرسوما فيه شيء يشبه الثقب. بارك البعضُ كلامَ الملك العظيم وأحنى الملك رأسه قليلا ونظر يمينا ثم يسارا وقال: باركوه وردد الكل باركنا كلامك نحن جميعا نحن أبناء مملكتك العظيمة أيها الملك المبجل وصادقنا على أوامرك. قال الحضور، تابع الملك كلامه وهو ينظر إلي: ميدوب ابننا من اليوم وسفيرنا إلى الأحفاد ورثة العرش الكوشي.
قال ميدوب: وكأنني مولود نزل من بطن أمه للتو، عدت إلى الأرض كيف؟؟ لا أدري، وبأية وسيلة أتيت؟؟ وكم وقت استغرقت رحلة العودة؟ لا أدري أيضا، لكنني عدت وكفى. وجدت المرأة أمامي قد عادت لهيئتها الصغيرة كما كانت تماما وحين دعتني قالت لي الصغيرة: سأظهر لهم ولك تارة بوجه أماني ريناس وأحياناً بوجه نفرتيتي وأحياناً بوجه كليوباترا وأحياناً كما رأيتموني عند الجبل. هذه كلمات روح الملكة التي طارت بي وعادت لي قال ميدوب للبنتين واختفي، يقول من حضروا بعد ذلك إنهم وجدوا البنتين في حالة إعياء شديدة ولقد تم نقلهما إلى مستشفى المدينة وتمت إفاقتهما هناك، وبعد أن رجعتا حكتا للناس ما حصل لهما. بعدها بأيام كان ميدوب يتكلم وسط الناس وبدا واضحا أنه سارح بذهنه إلى مكان ما وكان يحكي عن التاريخ، قلت له: كفاك خزعبلات أنت الآخر. أعتقد أن الشياطين وحدها تحرك الحياة في هذا البلد، وفي لحظه اقترابي منه اختفى ميدوب ثانية ولم أجد من الناس بجانبي ربما إلى مرقده الأبدي، وربما من نراه ليس هو إنما توأمه الآخر والذي تحدث عنه هو شخصيا، لا أعرف أين هي الحقيقة. مستحيل أن ميدوب هذا الذي رأيته هو الذي مات وأكد وفاته الكثير من أهل البلد، إن فرضية أن يكون توأمه كانت تدور في خلدي.
وفي المساء بينما كنت نائما، رأيت حلما غريبا! ثمة دخان كان يخرج من نخلة بعينها ويمتد إلى السماء، إنها هي النخلة الخالدة التي فوق الثقب، كان عمر هذه النخلة أكثر من ثلاثة آلاف سنة كما تقول بعض الروايات، ثم إنها منتصبة نحو السماء ولا تشبه باقي النخلات في أي شيء، يقال: إن ميدوب كان لا ينام إلا تحت ظلالها. يحكى أنه في حياته كان يملأ جيبه من تمرها ويقول: كلوا من هذه الشجرة الطيبة إن أصلها مغروس في التربة الطيبة وفروعها ممتدة إلى أعلى وكان ينظر إلى السماء، وبعد أن مات ميدوب كان الناس يرددون دائما أنهم رأوه هناك، في ذاك المكان الذي كان ينام فيه دائما، وفي يوم من الأيام كنت مارا بجانب تلك الشجرة ورأيت على جذعها وجه ميدوب واضحا، وخلفه تماما كانت تقف بنت جميلة بملامح أجنبية، وهي فتاة طويلة مثل نخلات بلادي، شقراء في وجهها فتنة ظاهرة مع شفتين مكتنزتين وعينين خضراوين كبيرتين بحاجبين هلاليين. كانت تقف ملتصقة به وتلوح لي قائلة: دورك سيأتي يا فتى أنا وهيبة. تذّكر اسمي يا صديقي المستقبلي، لقد رأيتني مع حسن ربما ذات يوم، هل صحيح ما أقول، قالت لي وهيبة، لكنني لم أرد عليها وواصلت كلامها وهي تنظر إلي ستأكل يوما من تمرات هذه النخلة وستعيش ردحا من الزمان هنا، وستحب أجمل بنات النيل. كانت تنظر إلي بتحد واضح كأنها تعرفني منذ زمن طويل أو لها ثأر قديم معي. قلت في نفسي والسر أمان في مثل هذه المواقف: اللعنة! من أين أتيت إلى هنا؟ من أي القرى أنت سألتها؟ قالت مبتسمة: ستروي لك الأيام كل الحكاية وكانت تقول: بيني وبينك والأيام قصة شد وجذب، حب وكره. سكتت برهة وقالت: مع السلامة. واختفت بسرعة عن الأنظار كما اختفى ميدوب.
لم أخف هذه المرة؛ لأن حياتنا كلها تحولت إلى مجموعة من غزوات ميدوب وانقلاباته الممتدة في كل تفاصيل حياتنا. أرجو أن تكون هذه النقطة ماثلة في أذهانكم. احتارت القرية لهذه الخوارق العجيبة بدءا بموت ميدوب وأحداث الصخرة الكبيرة ثم ظهوره بعد كل هذا العدد من السنين مرات ومرات.
كان أهلي يعملون بالزراعة في تلك الساقية التي ورثوها أباً عن جد، لم يكن لسكان تلك الأرياف خيار آخر غير الزراعة والرعي. كان هناك نحو سبعين بيتا في جوارنا: بيوت أعمامي، أخوالي، عمّاتي وأنسبائي، مع نفر قليل من عائلات أخر، وكان صديقي حسن يسكن مع والدته في أقصى طرف القرية في بيت قديم يخص أخا لجدي مات منذ سنوات، ولم يترك من يرثونه من نسله بينما كنا نسبح في النيل معا قال لي حسن صديقي أريد أن تتعرف أكثر بصديقتي الجميلة وقد تكون قابلتها مرة واحدة أو كثيرا فهي تسكن ليس بعيدا من هنا والمهم يا عبد المعين أن تبحث لنفسك عن فتاة تحبها مثلي تماما فأنت رجل جميل وتستحق أجمل فتاة في المنطقة كلها تستحق حورية نيلية تماما . سألته ما اسم حبيبتك كأنني لا أعرفها ؟ رد علي اسمها وهيبة وحينها أغمضت عيني كأنني أتذكرها وقلت في نفسي من منا لا يعرف هذه الفتاة الفاتنة التي قابلتها وعرفتني باسمها حين كانت خلف ميدوب ولكني لشيء لا أعلمه لم أقل لحسن إني قابلتها وأعرفها وقلت في نفسي دع الأيام تخبره بمعرفتي بها.
تلقيت تعليمي الأول بمدرسة القرية. كنا حوالي ثلاثين شابا وشابة ندرس في مدرسة مولن إيركي الابتدائية، ولكن أقربهم إلى قلبي وأكثرهم التصاقا بي كان حسن جمعة، كنت على علاقة طيبة مع الجميع، لكن ثمة شيء مشترك جمعني بالذات كما قلت بصديقي حسن جمعة، ألا وهو حبُّ الشعر ونظمه. كنا نتسابق دائما في تأليف القصائد وحبّ العذارى. مفتاح دخولنا إلى قلوبهن تلك الذخيرة الشعرية الباذخة، قبل أن تفصلنا المرحلة الثانوية كانت لنا حكايات في نادي القرية، حيث كانت تقام احتفالات سنوية في مناسبات عدة أهمها: حفل نهاية السنة الدراسية والحفل السنوي في عيد الفطر المبارك. كنا نتسابق في كتابة المنلوجات والمسرحيات والقيام بأدوار البطولة والتمثيل في الحفلات. سافرت إلى مروي والتحقت بمدرستها النموذجية في المرحلة الثانوية، أثناء دراستي الثانوية كنا نعود مرتين أو ثلاث في إجازات قصيرة لزيارة أهلنا في القرية.
في يوم من أيام الدميرة عدت إلى القرية لسبب لا أذكره. كان الناس مشغولين بجمع التمر وتلك الفترة بالذات تسبق عندنا موسم الحصاد. كنت أتجول تحت نخلات أبي وجدي وفي يوم من الأيام وجدت هناك فتاتين من بنات العرب على ما اعتقدت للوهلة الأولى ولكني حين اقتربت منهما عرفت بعد أن الفتاة الثانية هي وهيبة حبيبة صديقي حسن، هؤلاء الأعراب غالبا ما يحضرون أيام –الدميرة- ويختفون بعدها. إنّه موسم الحصاد موسم حصاد التمر، نعم نعم، إنه عيد سنوي يعم فيه الفرح كل قرانا، ويتغير فيه شكل الحياة في القرية رأسا على عقب. الكثير من الرجال والنساء، الشباب والشابات يأتون من البندر، كذلك الأعراب من منطقة أرقو ووادي السليم وكرمة البلد وقرى المحس الجنوبية وواحة سليمة.
ربيعة الكاهلية فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، أو تزيد قليلا، إنها تنتمي إلى العرب النوبيين، وهم خليط من العرب والنوبة. جاءت من وادي السليم مع أهلها واستقرت في طرف القرية وغالبا ما يمكث مثل هؤلاء القادمين في موسم الحصاد فترة الحصاد ويعودون بعدها كما أتوا إلى قراهم، جاء معهم هذه السنة بالذات شاب طويل في مثل عمري تقريبا أبيض البشرة وجميل المحيا ذو صوت جهوري ويبدو من ملامحه ونزوله معهم في نفس البيت أنه من أهل ربيعة ولقد عرفت فيما بعد أنه ابن عمها.
كانت ربيعة فريدة عصرها وجميلة جميلات ذلك الموسم الاستثنائي بالنسبة لي. كان الناس يتحدثون عن جمالها الفتّان وأنوثتها الصارخة وجاذبيتها الفريدة وشعرها الفاحم المسترسل حد الركبة. إن الطول الفارع والقوام الممشوق والعيون الواسعة السود وتناسق ساقيها وألق وجنتيها قد ألهمت الكثير من الشباب، لذا كانت هدفا للكثير من الفنانين والشعراء، حيث إنّها كانت ملهمتهم في الأغنيات، سأقول لكم كلمة قيلت في ربيعة كانت ماركة من ماركات ذلك العام، كان صوت الكاسيت لأغنية نوبية يأتيني بقوة، وقفت واستمتعت بتلك الأغنية حتى النهاية، بينما أتأملها تماما كم كانت تلائم وضعي، كأنّها فصلت لهذه اللحظة. قديما قال العرب: ربّ صدفة خير من ألف ميعاد، هأنذا أواصل مرحي وأنا أتخيل ربيعة الغرام من بعيد وأغني لها بكلّ ترف بدفع من شاعريتي البكرة أغنية كتبت كلماتها منذ سنتين لأحد الفنانين وهي أكثر كمالا، من تلك التي سمعتها قبلا، ولقد كنت أغني بصوت جهور كأني أراقصها.
يا قمر الزمان من وين جيتي أنتي
يا مرح الليالي
أشتاق لقربك وللروح الجميلة والطلة البهية
لدلع الليالي
في اليوم الجميل شفناك يا حلو
كل الحلة ترقص لوجيت مبتسم
النخلات تنادي يا نيل يا سمح
الأطفال تغني بطعم العسل
يا قمر الزمان ارجع لينا تاني
أنتي في قلوبنا شيدت الأمل
الغربة العجيبة لا لون لا طعم
العيش الجميل بدونك عدم
يا جنة بلدنا
يا زهرة قلوبنا
ارجعي لينا تاني
جيتي ياحلوة تاني نورتي البلد
شلناك في المآقي والكلّ مبتسم
جيتي يا حلوة تاني نوّرتي البلد
حقا أغنية رائعة وكأنها فصّلت لها، قلت بصوت عال، لقد كانت ربيعة الكاهلية آية من آيات الجمال كما قلت لكم، كان صوت ضحكتها يجلل في أطراف القرية ويزيد بهاءها رونقا وسحرا، وكانت الجميلة تخلق نوعا من الفرح المستدام طوال اليوم ولا حديث للشباب سوى سيرتها وألق مشيتها ورقصة الخصل الولهانة متدلية على كتفيها، قيل إنّها تحبّ الغناء وتكتب الشعر وتلحن الأغاني، إنّها مزيج من بهجة الروح وسمو العاطفة وطغيان الجسد، إنّها حقا ثورة انسيابية ودلع يمشي على الأرض، كل الأوصاف لا تعطيها حقها في الوصف، ولقد سمعت أنّ أحد ظرفاء القرية قد قال عنها: إنها تشبه كليوباترا وكليوباترا هذه ملكة عظيمة حكمت مصر الفرعونية، وكانت ربيعة مرتّبة مثل الملكات، وكان لجمالها صولجان ولمشيتها ألق ولرموشها ظلال ولاسمها صيت، بيد أنها ليست لعوبا كسيدة الاسم. كل هذه الظروف قد ألهبت في دواخلي مشاعر مختلطة مما شجعتني أن أقوم بدور البطولة وأتقدّم الصفوف، وذاك طبعي لن أغيره، أحبّ الصف الأول من كل مهرجان وكلّ سباق، ولقد كان مجيئها حدثا كبيرا للشباب. عزمت أمري لمطاردتها والالتقاء بها ثانية وثالثة ولكي أتفرد بحبها إلى الأبد ولقد كانت لي أسلحتي الخاصّة من كلّ هؤلاء الشباب الذين تراصوا للظفر بها، قلت لكم إنني كنت أتجول وسط النخيل وفجأة لمحت تلك الغزالة التي طالما أرقت مضجعي ثانية، نعم وجدتها بعد أن كانت قد غابت لبعض الوقت عن ناظري وسرعان ما اقتربت منهما وسلمت عليهما وقلت مخاطبا وهيبة من أين تعرفي ربيعة، قالت لي أنا الذي مفروض أن أسالك هذا السؤال ولست أنت .
كانت الفتاتان منهمكتين في جمع التمر، اقتربت منهما وقلت ونظري مركز إلى سلطانة الموسم وقلت لها، أهلا بك أميرة النيل وفاكهة الدميرة وأهملت وهيبة تماما، لكن يبدو أن وهيبة فتاة طيبة كحبيبها حسن لا تعرف الغيرة إلى قلبها سبيلا، وخجولة جدا كما توقعت. التفتتْ إلي فاكهة العين، ربيعة الكاهلية وابتسمت في وجهي وقالت لي وهي تتدلل في كلامها. ماذا تريد مني أيها الشاب؟ يبدو أنك أخطأت العنوان، فأنا لا أعرفك بتاتا، ولم التق بك قبلا، لماذا هذا اليوم تتبعني أنت أينما ذهبت، ولكن لا بأس. قد يكون فيك من الخير الكثير ربما أرسلك الله لي وبدأت تبتسم، وأردفت تقول يبدو أنك ولد شجاع، وربما طينتك تختلف عن سائر الشباب في الأمصار النوبية. قديما سمعنا أن فارسا كوشيا عبر النيل سباحة سبع مرات تواليا لكي يكسب وُدَّ كنداكة كوشية اشتهرت بالجمال. ما رأيك فيه خاطبتني قائلة، وقعت كلماتها كلّها وقعا خاصا في نفسي لقد أفرحتني بمعرفتها بهذه الحقيقة، لأنّها تكلمت عن جدي (لقد كان هذا جدي ولكني لم أرغب أن أعلمها من أنا) لم تدع فكري يستريح، لقد كانت هذه الحورية تدغدغ مشاعري بقوة مفرطة، وها هي تواصل غرس البذور الطيبة في خيالي تواصل كلامها: إن أولاد القرى غالبا لا يجيدون انتقاء الكلمات التي تلامس قلوب العذارى. أنت من طينة أخرى وكانت تنظر إلى بتحد واضح، من أين لك كل هذه الجرأة لتغازل فتاة مجهولة؟ وبدتْ تدندن وتغني بصوت عذب أغنية جميلة لكنّي بفراسة شاعر يمكنني أن أؤكد لكم أن ربيعة هذه مغنية قديرة وها هي تغني بصوت عذب كلمات أغنية جميلة كتبت كلماتها منذ سنتين وغنّاها فنّان مبتدئ، آه لجمال صوتها، إنه معجون من السحر الذي خلّد النيل وكلمات الأغنية هي:
يا سمحة يا بت الجروف
الساكنة في القلب الولوف
بغناك لوّنتي الحروف
ومشيتي في الدرب المعرّش بالورود
عينيك آه. معجونة من سحر الغروب
وسلاسل الشعر المذهبة المسافرة في الغيوم
ونضارة الأنثى الوديعة في تلافيف السكون
والشوق قد يدمنك يا بدر البدور
آه منك آه
من سحرك آه
من دلعك آه
يا بخت روحي بطلّة القمر المنير
يا عشق عيني بهمسة الضحك الولوف
يا نسمة الفجر المباح
سافرت في السحر الودود
و على ضفاف خديك يا بدر البدور
أقمت ناصية الهوى
أنتي المنى الشاتلة شوقي في تباريح النوى
الراسمة اسمك في الرمال
وفي الخلاء وفي السماء الشاردة
حتى ارتوت همسا وردده الصدى
والنيل فاض مع الدموع وما ارتوى
إني عشقتك يا وريفة مثل حلم غردا
إني زرعتك مثل أسرار الهوى
وكسيت بالشوق مدارات الصبابة والجوى
يا همسة القلب العذوب
يا طلّة الوجه الطروب
قيسك عذبه الهوى
أسفا لحبّ ما روى قلبي
وأتعبني
ومزّقني
وما بلغ المدى
كنت مشدودا جدا إلى أنغام صوتها الملائكي، هذه الفتاة الموسومة بالدهشة قد عذبتني من اللحظة الأولى. هي تريد أن أجري خلفها ربما واعتقد إنها لم تخطئ وهأنذا أرقص كالمخمور تاركا الخجل والدهشة الأولى لمعرفة فتاة جميلة مثلها، تمالكت نفسي واستجمعت قواي وأخذت نفسا عميقا، وسألت صاحبتها وهيبة التي أعرفها منذ أن رأيتها خلف ميدوب وهي حبيبة صديقي حسن جمعة: لماذا لا تغنين معها؟ قالت لي وهي تضحك: إنها مجنونة، وأنا لست كذلك ولكن صديقتي عندما يأتيها جني الموسيقى تغني هكذا، لجدما أبهرني أداؤها المتقن للأغنية، لكنى على أية حال حددت هدفي وكان هو الظفر بربيعة بأي ثمن، وقلت لها: لا لا تستاهلين كل شيء يا ربيعة، إنك أحلى من هذه الكلمات وأطول قامة من كلّ الألحان وارتجلت لها، مركّزا كلامي ونظري إلى عيني فاكهة الخيال ربيعة الكاهلية.
بل أنتي للنيل قرين
وكلّ همس منك ترفد في شواطئه عيون
خلطة سحرية وقوى تهبنا الجمال
ومنذ ذلك اليوم الجميل كنا نلتقي يوميا تحت ظلال النخيل أنا وربيعة وصديقتها وهيبة ووعدت نفسي عن أعوضهما عن كامل الوقت المستقطع للحبّ تمرا.
من غابر الأزمان، فإنّ مسار النيل وسيمفونية تداخل الأمواج مع نسائم الصباح وإشراقات الشمس وأشعتها التي ترسم لوحة زاهية على الشطآن، مع إطلالة هذه الفتنة الكونية بكلّ ما فيها من مرح، جعلتني في دهشة دائمة، وإلى إشراقات قلبي وفورة روحي بلقاء هذه النيلية الممتعة، إنّما بلغت مبلغا عظيما من تجويد اللحن وتلطيف النغمة.


الساعة الآن 12:26 PM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir