منتديات قصيمي نت

منتديات قصيمي نت (http://www.qassimy.com/vb/index.php)
-   المنتدى الإسلامي (http://www.qassimy.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   10 رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية (http://www.qassimy.com/vb/showthread.php?t=12929)

سقراط 17-07-04 10:24 PM

10 رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية
 
الأربعين التي رواها شيخ الإسلام بالسند

شبكة مشكاة الإسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن أخبرنا الزين أبو محمد عبد الرحمن بن العماد أبي بكر ابن زريق الحنبلي في كتابه إلي غير مرة أخبرنا أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن أحمد ابن عبد الحميد المقدسي سماعا في يوم السبت 24 صفر سنة 797 ( ح وكتب إلي الأشياخ الثلاثة : أبو إسحاق الحرملي وأبو محمد البقري وأبو العباس الرسلاني قالوا : أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي إذنا مطلقا قالا : أخبرنا الشيخ الإمام العالم العلامة البارع الأوحد القدوة الحافظ أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية قال الذهبي : بقراءتي عليه في جمادى الآخرة سنة 721 . قال : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له . ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما .

الحديث الأول
أخبرنا الإمام زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعمة ابن أحمد المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع سنة 667 أخبرنا أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب بن سعد بن كليب قراءة عليه أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن بيان الرزاز قراءة عليه أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد بن محمد [ بن إبراهيم ] بن مخلد البزاز أخبرنا أبو علي إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار حدثنا الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي حدثني أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء ابن عازب قال : { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرمنا بالحج . قال : فلما قدمنا مكة قال : اجعلوا حجكم عمرة قال : فقال الناس : يا رسول الله قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة ؟ . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انظروا الذي آمركم به فافعلوا قال : فردوا عليه القول فغضب ثم انطلق حتى دخل على عائشة رضي الله عنها غضبان فرأت الغضب في وجهه فقالت : من أغضبك أغضبه الله قال : ومالي لا أغضب وأنا آمر بالأمر ولا أتبع } . رواه النسائي وابن ماجه من حديث أبي بكر ابن عياش مولده في صفر سنة 575 . وتوفي يوم الاثنين ثامن رجب سنة 668 .

الحديث الثاني
أخبرنا الشيخ المسند كمال الدين أبو نصر عبد العزيز بن عبد المنعم ابن الخضر بن شبل بن عبد الحارثي قراءة عليه وأنا أسمع في يوم الجمعة سادس شعبان سنة 669 بجامع دمشق أخبرنا الحافظ أبو محمد القاسم بن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر قراءة عليه في ربيع الآخر سنة 596 أخبرنا أبو الفضائل ناصر بن محمود ابن علي القدسي الصائغ وأبو القاسم نصر بن أحمد بن مقاتل السوسي ؛ قراءة عليهما قالا : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن زهير المالكي حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن شجاع الربعي المالكي أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله القطان حدثنا خيثمة حدثنا العباس بن الوليد حدثنا عقبة بن علقمة حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فنظرت فإذا هو نور ساطع عمد به إلى الشام ألا إن الإيمان - إذا وقعت الفتن - بالشام } . مولده سنة 589 . وتوفي في شعبان سنة 672 .


الحديث الثالث
أخبرنا الإمام تقي الدين أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر التنوخي قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 669 أخبرنا أبو طاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي قراءة عليه أخبرنا أبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي أخبرنا أبو الحسين طاهر بن أحمد بن علي بن محمود المحمودي العاني أخبرنا أبو الفضل منصور بن نصر بن عبد الرحيم بن بنت الكاغدي حدثنا أبو عمرو الحسن بن علي بن الحسن العطار حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير بن الحارث القيسي حدثنا وكيع ابن الجراح بن مليح الرواسي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد [ الخدري ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم ؟ فيقولون : ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال لنوح : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته } فذلك قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } . قال : الوسط العدل " . مولده سنة 589 . توفي في صفر سنة 672 .

الحديث الرابع
أخبرنا الفقيه سيف الدين أبو زكريا يحيى بن عبد الرحمن بن نجم ابن عبد الوهاب الحنبلي قراءة عليه وأنا أسمع في يوم الجمعة عاشر شوال سنة 669 وأبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن القواس والمؤمل بن محمد البالسي وأبو عبد الله محمد بن أبي بكر العامري في التاريخ وأبو العباس أحمد بن شيبان وأبو بكر بن محمد الهروي وأبو زكريا يحيى ابن أبي منصور بن الصيرفي وأبو الفرج عبد الرحمن بن سليمان البغدادي والشمس بن الزين والكمال عبد الرحيم وابن العسقلاني وزينب بنت مكي وست العرب . قال الأول وابن شيبان وزينب : أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد ابن طبرزذ . وقال الباقون وابن شيبان : أخبرنا زيد بن الحسن الكندي زاد ابن الصيرفي فقال : وأبو محمد عبد العزيز بن معالي بن غنيمة بن منينا قراءة عليه قالوا : أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله الأنصاري أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي أخبرنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ماسي حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني حميد عن { أنس : أن الربيع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت سنها فعرضوا عليهم الأرش فأبوا فطلبوا العفو فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله انكسر سن الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر سنها - قال : - يا أنس كتاب الله القصاص فعفا القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره . } . أخرجه البخاري عن الأنصاري . مولده سنة 592 . وتوفي في شوال سنة 672 .

الحديث الخامس
أخبرنا الحاج المسند أبو محمد أبو بكر ابن محمد بن أبي بكر بن عبد الواسع الهروي في رابع ربيع الأول سنة 668 والمذكورون بسندهم إلى الأنصاري قال حدثني حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { انصر أخاك ظالما أو مظلوما قال : قلت : يا رسول الله أنصره مظلوما فكيف أنصره . ظالما ؟ قال : تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه } . أخرجه البخاري عن عثمان بن أبي شيبة عن هشيم . وأخرجه الترمذي عن محمد بن حاتم عن الأنصاري - كما أخرجناه - وقال : حسن صحيح . وأخبرنا به الشيخ شمس الدين بن أبي عمر قراءة عليه أخبرنا أبو اليمن الكندي ( فذكره . مولده سنة 594 . وتوفي في رجب سنة 673 .

الحديث السادس
أخبرنا الشيخ المسند زين الدين أبو العباس المؤمل بن محمد بن علي ابن محمد بن علي بن منصور بن المؤمل البالسي قراءة عليه وأنا أسمع سنة 669 والمذكورون بسندهم إلى الأنصاري قال : حدثني سليمان التيمي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار . } . رواه البخاري ومسلم بمعناه من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس . مولده سنة 602 وقيل ثلاث . وتوفي في رجب سنة 677 .

الحديث السابع
أخبرنا الشيخ العدل رشيد الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر محمد بن محمد بن سليمان العامري قراءة عليه وأنا أسمع سنة 669 والمذكورون بسندهم إلى الأنصاري حدثني التيمي حدثنا أنس بن مالك قال : { عطس عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلان فشمت - أو فشمت - أحدهما ولم يشمت الآخر - أو فشمته ولم يشمت الآخر - فقيل : يا رسول الله عطس عندك رجلان فشمت أحدهما ولم تشمت الآخر - أو فشمته ولم تشمت الآخر - فقال : إن هذا حمد الله فشمته وأن هذا لم يحمد الله فلم أشمته . } . رواه البخاري عن محمد بن كثير عن سفيان الثوري . ورواه مسلم عن محمد بن عبد الله بن نمير عن حفص بن غياث . كلاهما عن التيمي . توفي في ذي الحجة سنة 682 .

الحديث الثامن
أخبرنا الإمام العالم الزاهد كمال الدين أبو زكريا يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح بن رافع بن علي الحراني ابن الصيرفي قراءة عليه في شوال سنة 668 أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى بن بركة ابن الديبقي قراءة عليه وأنا أسمع أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد بن الحسن القزاز قراءة عليه في حادي عشرين جمادى الأولى سنة 534 أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن عمر ابن المسلم المعدل إملاء من لفظه باستملاء شيخنا أبي بكر الخطيب في صفر سنة 463 أخبرنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض الفريابي حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { آية المنافق ثلاثة : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان } .

الحديث التاسع
أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام العالم البارع جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن سليمان بن سعيد بن سليمان البغدادي قراءة عليه وأنا أسمع سنة 668 أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زبد الكندي قراءة عليه أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن أحمد بن المقري أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن النقور أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص سنة 390 حدثنا يحيى حدثنا يونس حدثنا أبو الأحوص عن أشعث بن أبي الشعثاء عن محمد بن عمير عن أبي هريرة قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين وعن لبستين : أن يلبس الرجل الثوب الواحد ويشتمل به ويطرح أحد جانبيه على منكبه ويحتبي في الثوب الواحد . وأن يقول : انبذ إلي ثوبك وأنبذ إليك ثوبي من غير أن يقلبا } . مولده سنة 585 بحران . وتوفي في شعبان سنة 670 بدمشق .

الحديث العاشر
أخبرنا شرف الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن غدير بن القواس الطائي قراءة عليه وأنا أسمع سنة 675 وأبو الحسن ابن البخاري قالا : أخبرنا أبو العباس الخضر بن كامل ابن سالم السروجي قراءة عليه أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن أحمد المقري . وقال الفخر البخاري : أخبرنا أبو اليمن الكندي أيضا أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي قالا : أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن النقور أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن هارون ابن أخي ميميي الدقاق حدثنا عبد الله حدثنا داود حدثنا الوليد بن مسلم عن أبي غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن علي بن الحسين عن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أعتق رقبة أعتق الله عز وجل بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى فرجه بفرجه } رواه البخاري عن محمد بن عبد الرحيم عن داود بن رشيد ورواه مسلم عن داود نفسه . ورواه الترمذي عن قتيبة عن الليث عن ابن الهاد عن عمر بن علي بن الحسين عن سعيد بن مرجانة . ولد سنة 602 وتوفي في ربيع الآخر سنة 682 .

الحديث الحادي عشر
أخبرنا المشايخ الصلحاء المسندون أبو عبد الله محمد بن بدر بن محمد بن يعيش الجزري وأبو العباس أحمد بن شيبان وأبو الفضل إسماعيل بن أبي عبد الله بن العسقلاني وزينب بنت أحمد بن كامل قراءة عليهم وأنا أسمع في شعبان سنة 675 بقاسيون قالوا : أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ البغدادي قراءة عليه ونحن نسمع أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن عبد القادر بن يوسف وأبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز وأبو الفتح عبد الله بن محمد بن محمد البيضاوي ؛ قراءة عليهم وأنا أسمع قالوا : أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن محمد بن المسلم المعدل أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد ابن عبد العزيز البغوي حدثني عبد الله بن مطيع حدثنا إسماعيل ابن جعفر . قال البغوي : وحدثني صالح بن مالك حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال البغوي : وحدثني جدي حدثنا يزيد بن هارون . كلهم عن حميد . عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب فقلت : لمن هذا القصر ؟ فقالوا : لشاب من قريش فظننت أني أنا هو فقلت : ومن هو ؟ قالوا : عمر بن الخطاب } . واللفظ لابن مطيع . توفي في شعبان سنة 675 .

الحديث الثاني عشر
أخبرنا الفقيه الإمام العالم العامل زين الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن أبي الفرج بن أبي طاهر بن محمد بن نصر عرف بابن السديد الأنصاري الحنفي قراءة عليه في رجب سنة 675 أخبرنا أبو اليمن زيد ابن الحسن بن زيد الكندي قراءة عليه وأخبرتنا زينب بنت مكي قالت : أخبرنا أبو حفص ابن طبرزذ . قالا : أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد بن الأنصاري أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عيسى الباقلاني حدثنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي حدثنا محمد بن موسى القرشي حدثنا عون بن عمارة حدثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار } . توفي في جمادى الأولى سنة 677 وله ثلاث وسبعون سنة

الحديث الثالث عشر
أخبرنا الشيخ الإمام المقرئ الرئيس الفاضل كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن فارس التميمي السعدي قراءة عليه وأنا أسمع في رمضان سنة 674 أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن حسنون النرسي سنة 455 أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي حدثنا شريح بن يونس ومحمد بن يزيد الآدمي وابن البزار وهارون بن عبد الله قالوا : حدثنا معن عن معاوية بن صالح عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { المسر بالقرآن كالمسر بالصدقة والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة } . أخبرناه عاليا بدرجة ويوافقه أحمد بن عبد الدائم أخبرنا ابن كليب أخبرنا ابن بيان حدثنا ابن مخلد أخبرنا الصفار حدثنا ابن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن بحير ( فذكره . مولده سنة 596 . وتوفي في صفر سنة 676 .

الحديث الرابع عشر
أخبرنا الإمام المسند زين الدين أبو العباس أحمد بن أبي الخير سلامة بن إبراهيم بن سلامة بن الحداد الدمشقي بقراءتي عليه وأنا أسمع في ربيع الأول سنة 675 قلت له : أخبرك أبو سعيد خليل ابن أبي الرجاء بن أبي الفتح الراراني إجازة وقرئ على والدي وأنا أسمع بحران سنة 666 أخبرك يوسف بن خليل أخبرنا الراراني أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الحافظ أخبرنا أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا عبد الله بن بكر حدثنا حميد عن أنس قال : { رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حبلا ممدودا بين ساريتين من سواري المسجد . قال : ما هذا الحبل ؟ قالوا : يا رسول الله فلانة تصلي ما عقلت ؛ فإذا غلبت أخذت به قال : فلتصل ما عقلت ؛ فإذا غلبت فلتنم } . مولده في ربيع الأول سنة 609 وتوفي في يوم عاشوراء سنة 678

الحديث الخامس عشر
أخبرنا العدل المسند أمين الدين أبو محمد القاسم بن أبي بكر ابن قاسم بن غنيمة الإربلي وأبو بكر ابن عمر بن يونس المزي الحنفي وأبو عبد الله محمد بن محمد بن سليمان العامري ؛ قراءة عليهم وأنا أسمع سنة 677 . قال الأول : أخبرنا أبو الحسن المؤيد عن محمد بن الفضل بن أحمد الفراوي . وقال الآخران : أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن الحرستاني قراءة عليه أخبرنا الفراوي إجازة أخبرنا أبو الحسين عبد الغافر ابن محمد بن عبد الغافر الفارسي أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى ابن عمرويه الجلودي أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج القشيري حدثنا خلف بن هشام وأبو الربيع الزهراني وقتيبة بن سعيد كلهم عن حماد . قال خلف : حدثنا حماد بن زيد عن محمد بن زياد حدثنا أبو هريرة قال : قال محمد صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم { أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار } ولد الإربلي في سنة 595 أو قبلها بإربل وتوفي في جمادى الأولى سنة 680 وولد المزي سنة 593 وتوفي في شعبان سنة 680 .

الحديث السادس عشر
أخبرنا الشيخ الإمام العالم قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عطاء بن حسن الحنفي قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 667 وأبو العباس ابن علان وأبو العباس ابن شيبان قالوا : أخبرنا أبو علي حنبل بن عبد الله بن الفرج الرصافي قراءة عليه أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن الحصين الشيباني أخبرنا أبو علي الحسن بن علي بن محمد بن المذهب التميمي أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه حدثني أبي أحمد بن محمد حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار سمعت عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من اقتنى كلبا - إلا كلب ماشية أو كلب قنص - نقص من أجره كل يوم قيراطان } . مولده سنة 595 . وتوفي في جمادى الأولى سنة 673 .

الحديث السابع عشر
أخبرنا الشيخ الإمام العالم العلامة الزاهد قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي قراءة عليه وأنا أسمع في شعبان سنة 667 بقاسيون وابن شيبان وابن العسقلاني وابن الحموي قالوا : أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد ابن الحصين أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي حدثنا محمد بن سلمة الواسطي حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن { أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان القوم يصعدون عقبة أو ثنية فإذا صعد الرجل قال : لا إله إلا الله والله أكبر - قال : أحسبه قال بأعلى صوته - ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته يعرضها في الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا موسى إنكم لا تنادون أصم ولا غائبا . ثم قال : يا عبد الله بن قيس - أو يا أبا موسى - ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة . قال قلت : بلى يا رسول الله قال : قل : لا حول ولا قوة إلا بالله } مولده سنة 597 . وتوفي في سنة 682 .

الحديث الثامن عشر
أخبرنا المسند الأصيل العدل مجد الدين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن عثمان بن المظفر بن هبة الله بن عساكر الدمشقي قراءة عليه وأنا أسمع في شعبان سنة 667 أخبرنا الحافظ أبو محمد القاسم بن علي ابن الحسن بن هبة الله بن عساكر قراءة عليه أخبرنا أبو الدر ياقوت ابن عبد الله الرومي التاجر مولى ابن البخاري قراءة عليه . وأخبرتنا زينب بنت مكي وإسماعيل بن العسقلاني قالا : أخبرنا ابن طبرزذ أخبرنا القاضي أبو بكر الأنصاري وأبو بكر أحمد بن الأشقر الدلال وأبو غالب محمد بن أحمد بن قريش وأبو بكر أحمد بن دحروج . قالوا جميعهم : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الله بن هزار مرد الصريفيني قراءة عليه حدثنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص إملاء في شعبان سنة 393 حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن البغوي حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا مبارك ابن فضالة حدثنا الحسن عن أنس قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إلى جانب خشبة مسندا ظهره إليها . فلما كثر الناس قال : ابنوا لي منبرا له عتبتان فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أنس : وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تحن حنين الواله فما زالت تحن حتى نزل إليها فاحتضنها فسكتت وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال : يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله شوقا إليه لمكانه من الله عز وجل فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه } . مولده سنة 587 . وتوفي في ذي القعدة سنة 699 .

الحديث التاسع عشر
أخبرنا الشيخ الإمام الصدر الرئيس شمس الدين أبو الغنائم المسلم ابن محمد بن المسلم بن علان القيسي قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 680 وأبو الحسن بن البخاري قالا : أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي قراءة عليه أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري حدثنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن الحسن الجوهري إملاء أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي حدثنا بشر بن موسى حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قال الله عز وجل : الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي والصوم جنة وللصائم فرحتان : فرحة حين يفطر وفرحة حين يلقى الله عز وجل ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك } . ولد سنة 594 . وتوفي في سادس ذي الحجة سنة 680 .

الحديث العشرون
أخبرنا الرئيس عماد الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أبي الصعر بن السيد بن الصانع الأنصاري قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 676 وأبو العز يوسف بن يعقوب بن المجاور والمسلم بن علان قالوا : أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي قراءة عليه أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن زريق القزاز الشيباني قراءة عليه أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي حدثنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي حدثنا أبو موسى محمد بن المثنى حدثنا ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها } . رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي موسى . توفي في رمضان سنة 679 .

الحديث الحادي والعشرون
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن علوي بن الحسين الدرجي القرشي قراءة عليه وأنا أسمع في رجب سنة 680 أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر بن أبي الفتح الصيدلاني إجازة أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الحافظ أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال سمعت سفيان بن عيينة يقول : [ حدثنا ] عاصم عن { زر قال : أتيت صفوان بن عسال المرادي فقال لي : ما جاء بك ؟ قلت : جئت ابتغاء العلم . قال : فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب . قلت : حك في نفسي - أو صدري - المسح على الخفين بعد الغائط والبول فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا ؟ قال : نعم كان يأمرنا إذا كنا سفرا - أو مسافرين - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ؛ ولكن من غائط أو بول أو نوم . قلت : هل سمعته يذكر الهدى ؟ قال : نعم بينا نحن معه في مسير إذ ناداه أعرابي بصوت له جهوري فقال : يا محمد فأجابه على نحو من كلامه : هاؤم قال : أرأيت رجلا يحب قوما ولم يلحق بهم ؟ قال : المرء مع من أحب . ثم لم يزل يحدثنا أن من قبل المغرب بابا يفتح الله عز وجل للتوبة مسيرة عرضه أربعون سنة ولا يغلق حتى تطلع الشمس من قبله وذلك قول الله : { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها } } . . الآية . ولد سنة 599 . وتوفي في صفر سنة 671 .

الحديث الثاني والعشرون
أخبرنا نجيب الدين أبو المرهف المقداد بن أبي القاسم هبة الله ابن المقداد بن علي القيسي قراءة عليه وأنا أسمع أخبرنا أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك بن الأخضر قراءة عليه أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري أخبرنا أبو إسحاق البرمكي أخبرنا أبو محمد بن ماسي حدثنا أبو مسلم الكجي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني سليمان التيمي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا هجرة بين المسلمين فوق ثلاثة أيام - أو قال ثلاث ليال } - .

الحديث الثالث والعشرون
أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن عامر بن أبي بكر الغسولي بقراءتي عليه في سنة 682 أخبرنا أبو البركات داود بن أحمد بن محمد بن ملاعب قراءة عليه أخبرنا أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي قراءة عليه أخبرنا أبو الغنائم عبد الصمد بن علي بن محمد بن المأمون أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الدارقطني حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا صالح بن حاتم بن وردان حدثنا المعتمر بن سليمان حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن { عامر بن سعد عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ومنعت فلانا وهو مؤمن . قال : أو مسلم } . توفي في جمادى الآخرة سنة 684 وقد قارب الثمانين .

الحديث الرابع والعشرون
أخبرنا الشيخ فخر الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور بن البخاري المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع سنة 681 والشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر سنة 667 أخبرنا أبو المحاسن محمد بن كامل بن أحمد التنوخي قراءة عليه أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل بن بشر الإسفراييني أخبرنا أبو القاسم الحسين بن الحسن بن محمد بن إبراهيم الحنائي حدثنا أبو الحسن عبد الوهاب بن الوليد بن موسى بن راشد بن خالد بن يزيد بن عبد الله الكلابي من لفظه أخبرنا أبو بكر محمد بن خريم بن مروان العقيلي قراءة عليه وأنا أسمع أخبرنا أبو الوليد هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة السلمي حدثنا مالك بن أنس حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة } . رواه البخاري عن القعنبي عن مالك . ولد في سلخ سنة 595 . وتوفي في ربيع الآخر سنة 690 .

الحديث الخامس والعشرون
أخبرنا أبو العباس أحمد بن شيبان بن تغلب بن حيدرة الشيباني قراءة عليه وأنا أسمع سنة 684 أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ البغدادي قراءة عليه أخبرنا أبو غالب أحمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء قراءة عليه ونحن نسمع أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله الجوهري قراءة عليه في رمضان سنة 452 أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي قراءة عليه وأنا حاضر أسمع حدثنا أبو علي بشر بن موسى بن صالح الأسدي حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن شقيق بن سلمة قال : قال { عبد الله رضي الله عنه كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا : السلام على الله دون عباد الله السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وعلى فلان . فالتفت إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل : التحيات لله والصلوات والطيبات . السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله } . أخرجه البخاري وأخرجه مسلم عن ابن المثنى عن غندر عن شعبة عن منصور كلاهما عن شقيق . مولده سنة 599 . وتوفي في صفر سنة 685 .

الحديث السادس والعشرون
أخبرنا أبو يحيى إسماعيل بن أبي عبد الله بن حماد بن عبد الكريم العسقلاني بقراءتي عليه في سنة 681 وأبو العباس بن شيبان والجمال أحمد بن أبي بكر الحموي وأبو الحسن بن البخاري وعلي بن محمود بن شهاب قالوا : أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ البغدادي قراءة عليه أخبرنا هبة الله بن محمد بن الحصين الشيباني أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزار أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن بن عبدويه الجرار حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا حميد عن أنس قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق ومعه أناس من أصحابه فعرضت له امرأة فقالت : يا رسول الله لي إليك حاجة فقال : يا أم فلان ؛ اجلسي في أدنى نواحي السكك حتى أجلس إليك ففعلت ؛ فجلس إليها حتى قصت حاجتها } . رواه أحمد عن عبد الله بن بكر . سمع ابن العسقلاني في الرابعة سنة 599 . وتوفي في رمضان سنة 682 ومولد ابن شهاب في سنة 595 وتوفي في رمضان سنة 680 .

الحديث السابع والعشرون
أخبرنا الشيخ الجليل الصالح كمال الدين أبو محمد عبد الرحيم بن عبد الملك بن يوسف بن قدامة المقدسي قراءة عليه وأنا أسمع في صفر سنة 680 وأبو العباس بن شيبان أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ البغدادي قراءة عليه أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزار وأبو المواهب أحمد [ بن محمد ] بن عبد الملك بن ملوك الوراق قالا : أخبرنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري أخبرنا محمد بن أحمد بن الغطريف حدثنا أبو خليفة حدثنا مسلم بن إبراهيم عن هشام وشعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { العائد في هبته كالعائد في قيئه } متفق عليه . ولد في حدود سنة 598 . وتوفي في جمادى الأولى سنة 680 .

الحديث الثامن والعشرون
أخبرنا الشيخ الثقة زين الدين أبو بكر محمد بن أبي طاهر إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن الأنماطي قراءة عليه وأنا أسمع في رجب سنة 668 وأبو حامد ابن الصابوني والرشيد محمد بن محمد العامري قالوا أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل بن بشر الإسفراييني أخبرنا أبو الحسين محمد بن بكر بن عثمان الأزدي أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن زريق بانتقاء خلف الحافظ حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين المهدي قراءة عليه حدثنا أبو عمرو الحارث بن مسكين حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر . فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبل } . وكان ابن عمر يقتل كل حية فرآه أبو لبابة - أو زيد بن الخطاب - وهو يطارد حية فقال له : قد نهي عن دواب البيوت . أخبرنا به هبة الله بن محمد الحارثي والشيخ شمس الدين بن أبي عمر وأحمد بن شيبان قالوا : أخبرنا ابن ملاعب أخبرنا الأرموي أخبرنا أبو القاسم بن البسري أخبرنا أبو أحمد الفرضي حدثنا أبو بكر المطيري أخبرنا بشر بن مطر حدثنا سفيان ( فذكره . ولد سنة 609 وتوفي في ذي الحجة سنة 684 بالقاهرة .

الحديث التاسع والعشرون
أخبرنا الإمام شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الملك بن عثمان بن عبد الله بن سعد المقدسي سنة 681 وأبو العباس بن شيبان وإسماعيل بن العسقلاني قال الأولان : أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي وقال الآخران : أخبرنا أبو حفص ابن طبرزذ . قالا : أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد الأنصاري أخبرنا أبو القاسم عمر بن الحسين بن إبراهيم بن محمد الخفاف قراءة عليه وأنا أسمع سنة 447 أخبرنا أبو الفضل عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري قراءة عليه في سنة 373 حدثنا محمد بن هارون حدثنا محمد بن سليمان بن حبيب حدثنا سعيد بن راشد عن عطاء عن ابن عمر : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا يقيم إلا من أذن } . مولده سنة 606 . وتوفي في ذي القعدة سنة 689 .

الحديث الثلاثون
أخبرنا الأصيل المسند نجم الدين أبو العز يوسف بن يعقوب بن محمد بن علي المجاور الشيباني قراءة عليه وأنا أسمع في المحرم سنة 680 والمسلم بن علان قالا : أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي قراءة عليه أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن زريق القزاز الشيباني أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن المؤدب حدثني علي بن الحسن بن المثنى العنبري بأستراباد حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر بن سعيد الجوهري البغدادي بأرجان حدثنا الحسن بن عرفة . قال الخطيب . وأخبرنا أبو عمر بن مهدي وجماعة قالوا : أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن } . لفظ حديث الجوهري رواه الترمذي عن ابن عرفة وابن حجر . ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار . كلهم عن إسماعيل . وأخبرنا عاليا أحمد بن عبد الدائم قراءة عليه أخبرنا [ أبو ] الفرج بن كليب أخبرنا أبو القاسم بن بيان أخبرنا أبو الحسن بن مخلد أخبرنا الصفار ( فذكره . مولده في سنة 601 . وتوفي في ذي القعدة سنة 690

الحديث الحادي والثلاثون
أخبرنا الشيخ الإمام الحافظ جمال الدين أبو حامد محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن علي بن الصابوني قراءة عليه وأنا أسمع في رمضان سنة 668 أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني قراءة عليه أخبرنا جمال الإسلام أبو الحسن علي بن المسلم بن محمد بن علي بن الفتح السلمي سنة 526 أخبرنا أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن أبي الحديد أخبرنا أبو الحسن علي بن موسى بن الحسين أخبرنا أبو القاسم علي بن يعقوب بن إبراهيم بن أبي الصعب حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان البصري حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال : سألت الزهري عن التي استعاذت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أخبرني عروة عن عائشة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى بابنة الجون فدنا منها قالت : أعوذ بالله منك قال : الحقي بأهلك تطليقة } . قال أبو زرعة : لم يروه من الأئمة في الحديث غير الأوزاعي . مولده سنة 604 . وتوفي في ذي القعدة سنة 680 .

الحديث الثاني والثلاثون
أخبرنا الجمال أحمد بن أبي بكر بن سليمان الواعظ بن الحموي بقراءتي عليه وأنا أسمع في رجب سنة 680 وقراءة عليه في سنة 681 أيضا أخبرنا أبو محمد عبد الجليل بن أبي غالب بن أبي المعالي بن مندويه قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 610 أخبرنا أبو المحاسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن النقور البزار قراءة عليه أخبرنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن حبابة حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي في سنة 315 حدثنا أبو عثمان طالوت بن عباد الصيرفي من كتابه حدثنا فضال بن جبير سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة : إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا اؤتمن فلا يخن وإذا وعد فلا يخلف . غضوا أبصاركم وكفوا أيديكم واحفظوا فروجكم } . ولد في حدود سنة ستمائة وتوفي في ذي الحجة سنة 687 .

الحديث الثالث والثلاثون
أخبرنا الشيخ الأمين الصدوق شمس الدين أبو غالب المظفر بن عبد الصمد بن خليل الأنصاري قراءة عليه وأنا أسمع في جمادى الآخرة سنة 684 وأبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن عباس الفاقوسي وأبو عبد الله [ محمد ] بن محمد بن سليمان العامري أخبرنا القاضي أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل ابن الحرستاني أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل بن بشر بن أحمد الإسفراييني أخبرنا أبو الحسين محمد بن مكي بن عثمان بن عبد الله الأزدي المصري حدثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن العباس الأخميمي بانتقاء عبد الغني بن سعيد حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا عبد الله بن وهب حدثني طلحة بن أبي سعيد أن سعيدا المقبري حدثه عن أبي هريرة : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من احتبس فرسا في سبيل الله عز وجل إيمانا بالله وتصديق موعود الله كان شبعه وريه وروثه وبوله حسنات في ميزانه يوم القيامة } . توفي في جمادى الأولى سنة 688 وعمره اثنان وثمانون سنة . وتوفي الفاقوسي في شعبان سنة 682 وله خمس وسبعون سنة .

الحديث الرابع والثلاثون
أخبرنا الشيخ الإمام محيي الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي عصرون التميمي بقراءتي عليه وأنا أسمع سنة 682 وأبو حامد الصابوني . قالا : أخبرنا أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني أخبرنا أبو محمد طاهر بن سهل الإسفراييني أخبرنا أبو الحسين محمد بن مكي الأزدي أخبرنا القاضي أبو الحسين علي بن محمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي سنة 390 حدثنا أبو القاسم عبد الصمد بن سعيد القاضي حدثنا عبد الرحمن بن جابر الكلاعي حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي حدثنا العلاء بن سليمان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلماء . فإذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلو } وأخبرناه عاليا أبو الحسن بن البخاري أخبرنا ابن طبرزذ أخبرنا القاضي أبو بكر أخبرنا علي بن إبراهيم الباقلاني حدثنا محمد بن إسماعيل الوراق إملاء حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن سليمان الواسطي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا مالك بن أنس وحفص بن ميسرة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو ( فذكره . أخرجه البخاري ومسلم من حديث هشام . مولده سنة 599 . وتوفي في ثالث ذي القعدة سنة 682 .

الحديث الخامس والثلاثون
أخبرنا أقضى القضاة نفيس الدين أبو القاسم هبة الله بن محمد بن علي بن جرير الحارثي الشافعي قراءة عليه وأنا أسمع في سنة 679 والشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر وأحمد بن شيبان . قالوا : أخبرنا أبو البركات داود بن أحمد بن ملاعب البغدادي قراءة عليه أخبرنا الإمام أبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي قراءة عليه وأنا أسمع سنة 546 أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد بن البسري سنة 465 أخبرنا أبو أحمد عبيد الله بن محمد بن أحمد بن أبي مسلم الفرضي حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر بن أحمد المطيري سنة 333 أخبرنا أبو أحمد بشر بن مطر الواسطي بسر من رأى حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار في حقه } . توفي في صفر سنة 680 وله ثلاث وسبعون سنة .

الحديث السادس والثلاثون
أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الكمال عبد الرحيم بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن وشمس الدين عبد الرحمن بن الزين أحمد بن عبد الملك المقدسيان ؛ قراءة عليهما وأنا أسمع في سنة 681 . قالا : أخبرنا الشريف أبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد بن عمرون البكري قراءة عليه أخبرنا أبو الأسعد هبة الرحمن بن عبد الواحد بن أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أخبرنا جدي أخبرنا أبو الحسين الخفاف أخبرنا أبو العباس السراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله } . ولد في سنة 607 . وتوفي في جمادى الأولى سنة 688 .

الحديث السابع والثلاثون
أخبرتنا الشيخة الصالحة أم الخير ست العرب بنت يحيى بن قايماز بن عبد الله التاجية الكندية قراءة عليها وأنا أسمع في رمضان سنة 681 وأبو العباس بن شيبان وابن العسقلاني وأبو الحسن بن البخاري . قالوا : أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ قراءة عليه ونحن نسمع أخبرنا أبو غالب أحمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء قراءة عليه وأنا أسمع سنة 524 أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن الحسن الجوهري قراءة عليه أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي حدثنا محمد بن يونس بن موسى حدثنا أبو عاصم النبيل عن حنظلة بن أبي سفيان عن القاسم عن عائشة : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من جنابة فيأخذ حفنة لشق رأسه الأيمن ثم يأخذ حفنة لشق رأسه الأيسر } . أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي موسى الزمن عن أبي عاصم . ولدت في سنة 599 . وتوفيت سنة 684 .

الحديث الثامن والثلاثون
أخبرتنا الشيخة الجليلة الأصيلة أم العرب فاطمة بنت أبي القاسم علي بن أبي محمد القاسم بن أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين بن عساكر قراءة عليها وأنا أسمع في رمضان سنة 681 وأبو العباس بن شيبان وست العرب بنت يحيى بن قايماز . قالوا : أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ قراءة عليه ونحن نسمع أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن الحصين الشيباني قراءة عليه أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان قراءة عليه أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي النيسابوري قراءة عليه في سنة 354 أخبرنا أبو القاسم محمد بن إسحاق حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن { أنس قال : مطرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسر عن رأسه حتى أصابه المطر فقلت له : لم صنعت هذا يا رسول الله ؟ قال : إنه حديث عهد بربه عز وجل } ولدت سنة 598 . وتوفيت في شعبان سنة 683 .

الحديث التاسع والثلاثون
أخبرتنا الصالحة العابدة المجتهدة أم أحمد زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني وأحمد بن شيبان وإسماعيل بن العسقلاني وفاطمة بنت علي بن عساكر ؛ قراءة عليهم . قالوا : أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد بن طبرزذ البغدادي أخبرنا أبو غالب أحمد بن الحسن بن أحمد بن البناء أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعي قراءة عليه حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله بن مسلم البصري حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت سمعت { البراء قال : لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له موضع في الجنة } . رواه البخاري عن سلمان بن حرب . ولدت في سنة 598 . وتوفيت في شوال سنة 688 .

الحديث الأربعون
أخبرتنا الشيخة الصالحة أم محمد زينب بنت أحمد بن عمر بن كامل المقدسية قراءة عليها وأنا أسمع سنة 684 وأبو عبد الله بن بدر وأبو العباس بن شيبان وابن العسقلاني . قالوا أخبرنا ابن طبرزذ أخبرنا ابن البيضاوي والقزاز وابن يوسف قالوا أخبرنا ابن المسلمة أخبرنا المخلص أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد حدثنا الحسن بن إسرائيل النهرتيرى حدثنا عيسى بن يونس عن أسامة بن زيد عن سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام ثم يتم صومه } . ولدت سنة 601 وتوفيت في شوال سنة 687 .

والله أعلم
تم نسخه عن طريق موقع الإسلام
شبكة مشكاة الإسلامية
....يتبع

سقراط 17-07-04 10:25 PM

الإكليل في المتشابه والتأويل
شيخ الإسلام ابن تيمية

مكتبة مشكاة الإسلامية

وقال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني الدمشقي الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم فصل قوله تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } إلى قوله : { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } .
جعل الله القلوب ثلاثة أقسام : قاسية وذات مرض ومؤمنة مخبتة ؛ وذلك لأنها إما أن تكون يابسة جامدة لا تلين للحق اعترافا وإذعانا أو لا تكون يابسة جامدة .
ف " الأول " هو القاسي وهو الجامد اليابس بمنزلة الحجر لا ينطبع ولا يكتب فيه الإيمان ولا يرتسم فيه العلم ؛ لأن ذلك يستدعي محلا لينا قابلا .
و " الثاني " لا يخلو إما أن يكون الحق ثابتا فيه لا يزول عنه لقوته مع لينه أو يكون لينه مع ضعف وانحلال . فالثاني هو الذي فيه مرض والأول هو القوي اللين . وذلك أن القلب بمنزلة أعضاء الجسد كاليد مثلا فإما أن تكون جامدة يابسة لا تلتوي ولا تبطش أو تبطش بعنف فذلك مثل القلب القاسي أو تكون ضعيفة مريضة عاجزة لضعفها ومرضها فذلك مثل الذي فيه مرض أو تكون باطشة بقوة ولين فهو مثل القلب العليم الرحيم فبالرحمة خرج عن القسوة وبالعلم خرج عن المرض ؛ فإن المرض من الشكوك والشبهات . ولهذا وصف من عدا هؤلاء بالعلم والإيمان والإخبات . وفي قوله : { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم } دليل على أن العلم يدل على الإيمان ليس أن أهل العلم ارتفعوا عن درجة الإيمان - كما يتوهمه طائفة من المتكلمة - بل معهم العلم والإيمان كما قال تعالى : { لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } وقال تعالى : { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله } الآية . وعلى هذا فقوله : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } نظير هذه الآية فإنه أخبر هنا أن الذين أوتوا العلم يعلمون أنه الحق من ربهم وأخبر هناك أنهم يقولون في المتشابه : { آمنا به كل من عند ربنا } وكلا الموضعين موضع ريب وشبهة لغيرهم ؛ فإن الكلام هناك في المتشابه وهنا فيما يلقي الشيطان مما ينسخه الله ثم يحكم الله آياته وجعل المحكم هنا ضد الذي نسخه الله مما ألقاه الشيطان ؛
ولهذا قال طائفة من المفسرين المتقدمين : إن " المحكم " هو الناسخ و " المتشابه " المنسوخ . أرادوا والله أعلم قوله : { فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته } . والنسخ هنا رفع ما ألقاه الشيطان لا رفع ما شرعه الله .
وقد أشرت إلى وجه ذلك فيما بعد وهو : أن الله جعل المحكم مقابل المتشابه تارة ومقابل المنسوخ أخرى . والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السلف - العام - كل ظاهر ترك ظاهره لمعارض راجح كتخصيص العام وتقييد المطلق فإن هذا متشابه لأنه يحتمل معنيين ويدخل فيه المجمل فإنه متشابه وإحكامه رفع ما يتوهم فيه من المعنى الذي ليس بمراد وكذلك ما رفع حكمه فإن في ذلك جميعه نسخا لما يلقيه الشيطان في معاني القرآن ؛ ولهذا كانوا يقولون : هل عرفت الناسخ من المنسوخ ؟ فإذا عرف الناسخ عرف المحكم . وعلى هذا فيصح أن يقال : المحكم والمنسوخ كما يقال المحكم والمتشابه . وقوله بعد ذلك { ثم يحكم الله آياته } جعل جميع الآيات محكمة محكمها ومتشابهها كما قال : { الر } { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت } وقال : { تلك آيات الكتاب الحكيم } على أحد القولين . وهنالك جعل الآيات قسمين : محكما ومتشابها كما قال : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } . وهذه المتشابهات مما أنزله الرحمن لا مما ألقاه الشيطان ونسخه الله .
فصار المحكم في القرآن تارة يقابل بالمتشابه والجميع من آيات الله وتارة يقابل بما نسخه الله مما ألقاه الشيطان . ومن الناس من يجعله مقابلا لما نسخه الله مطلقا حتى يقول : هذه الآية محكمة ليست منسوخة ويجعل المنسوخ ليس محكما وإن كان الله أنزله أولا اتباعا لظاهر قوله : { فينسخ الله } و { يحكم الله آياته } . فهذه ثلاث معان تقابل المحكم ينبغي التفطن لها . وجماع ذلك أن " الإحكام " تارة يكون في التنزيل فيكون في مقابلته ما يلقيه الشيطان فالمحكم المنزل من عند الله أحكمه الله أي فصله من الاشتباه بغيره وفصل منه ما ليس منه ؛ فإن الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه ؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد فالمنع جزء معناه لا جميع معناه . وتارة يكون " الإحكام " في إبقاء التنزيل عند من قابله بالنسخ الذي هو رفع ما شرع وهو اصطلاحي أو يقال - وهو أشبه بقول السلف - كانوا يسمون كل رفع نسخا سواء كان رفع حكم أو رفع دلالة ظاهرة .
وإلقاء الشيطان في أمنيته قد يكون في نفس لفظ المبلغ وقد يكون في سمع المبلغ وقد يكون في فهمه كما قال : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } الآية .
ومعلوم أن من سمع النص الذي قد رفع حكمه أو دلالة له فإنه يلقي الشيطان في تلك التلاوة اتباع ذلك المنسوخ فيحكم الله آياته بالناسخ الذي به يحصل رفع الحكم وبيان المراد . وعلى هذا التقدير فيصح أن يقال : المتشابه المنسوخ بهذا الاعتبار والله أعلم .
وتارة يكون " الإحكام " في التأويل والمعنى وهو تمييز الحقيقة المقصودة من غيرها حتى لا تشتبه بغيرها . وفي مقابلة المحكمات الآيات المتشابهات التي تشبه هذا وتشبه هذا فتكون محتملة للمعنيين . قال أحمد بن حنبل " المحكم " الذي ليس فيه اختلاف والمتشابه الذي يكون في موضع كذا وفي موضع كذا . ولم يقل في المتشابه لا يعلم تفسيره ومعناه إلا الله وإنما قال : { وما يعلم تأويله إلا الله } وهذا هو فصل الخطاب بين المتنازعين في هذا الموضع فإن الله أخبر أنه لا يعلم تأويله إلا هو .
والوقف هنا على ما دل عليه أدلة كثيرة وعليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمهور التابعين وجماهير الأمة . ولكن لم ينف علمهم بمعناه وتفسيره بل قال : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات وما لا يعقل له معنى لا يتدبر : وقال : { أفلا يتدبرون القرآن } ولم يستثن شيئا منه نهى عن تدبره .
والله ورسوله إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره الله وطلب فهمه ومعرفة معناه فلم يذمه الله بل أمر بذلك ومدح عليه . يبين ذلك أن التأويل قد روى أن من اليهود الذين كانوا بالمدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كحيي بن أخطب وغيره من طلب من حروف الهجاء التي في أوائل السور تأويل بقاء هذه الأمة كما سلك ذلك طائفة من المتأخرين موافقة للصابئة المنجمين وزعموا أنه ستمائة وثلاثة وتسعون عاما لأن ذلك هو عدد ما للحروف في حساب الجمل بعد إسقاط المكرر وهذا من نوع تأويل الحوادث التي أخبر بها القرآن في اليوم الآخر . وروي أن من النصارى الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نجران من تأول ( إنا و ( نحن على أن الآلهة ثلاثة لأن هذا ضمير جمع . وهذا تأويل في الإيمان بالله فأولئك تأولوا في اليوم الآخر وهؤلاء تأولوا في الله . ومعلوم أن : ( إنا و ( نحن من المتشابه فإنه يراد بها الواحد الذي معه غيره من جنسه ويراد بها الواحد الذي معه أعوانه وإن لم يكونوا من جنسه ويراد بها الواحد المعظم نفسه الذي يقوم مقام من معه غيره لتنوع أسمائه التي كل اسم منها يقوم مقام مسمى فصار هذا متشابها لأن اللفظ واحد والمعنى متنوع .
و " الأسماء المشتركة في اللفظ " هي من المتشابه وبعض " المتواطئة " أيضا من المتشابه ويسميها أهل التفسير " الوجوه والنظائر " وصنفوا " كتب الوجوه والنظائر " فالوجوه في الأسماء المشتركة والنظائر في الأسماء المتواطئة . وقد ظن بعض أصحابنا المصنفين في ذلك أن الوجوه والنظائر جميعا في الأسماء المشتركة فهي نظائر باعتبار اللفظ ووجوه باعتبار المعنى وليس الأمر على ما قاله بل كلامهم صريح فيما قلناه لمن تأمله . والذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل { وإلهكم إله واحد } { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } { ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها .
وذلك أن " الكلام نوعان " : إنشاء فيه الأمر وإخبار فتأويل الأمر هو نفس الفعل المأمور به كما قال من قال من السلف إن السنة هي تأويل الأمر . { قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن } تعني قوله : { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } .
وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع ليس تأويله فهم معناه . وقد جاء اسم " التأويل " في القرآن في غير موضع وهذا معناه قال الله تعالى : { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق } فقد أخبر أنه فصل الكتاب وتفصيله بيانه وتمييزه بحيث لا يشتبه ثم قال : { هل ينظرون } أي ينتظرون { إلا تأويله يوم يأتي تأويله } إلى آخر الآية . وإنما ذلك مجيء ما أخبر القرآن بوقوعه من القيامة وأشراطها : كالدابة ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ومجيء ربك والملك صفا صفا وما في الآخرة من الصحف والموازين والجنة والنار وأنواع النعيم والعذاب وغير ذلك فحينئذ يقولون : { قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل } وهذا القدر الذي أخبر به القرآن من هذه الأمور لا يعلم وقته وقدره وصفته إلا الله ؛ فإن الله يقول : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ويقول : { أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر } وقال ابن عباس : ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ؛ فإن الله قد أخبر أن في الجنة خمرا ولبنا وماء وحريرا وذهبا وفضة وغير ذلك ونحن نعلم قطعا أن تلك الحقيقة ليست مماثلة لهذه بل بينهما تباين عظيم مع التشابه كما في قوله : { وأتوا به متشابها } على أحد القولين أنه يشبه ما في الدنيا وليس مثله فأشبه اسم تلك الحقائق أسماء هذه الحقائق كما أشبهت الحقائق الحقائق من بعض الوجوه .
فنحن نعلمها إذا خوطبنا بتلك الأسماء من جهة القدر المشترك بينهما ولكن لتلك الحقائق خاصية لا ندركها في الدنيا ولا سبيل إلى إدراكنا لها لعدم إدراك عينها أو نظيرها من كل وجه . وتلك الحقائق على ما هي عليه هي تأويل ما أخبر الله به . وهذا فيه رد على اليهود والنصارى والصابئين من المتفلسفة وغيرهم فإنهم ينكرون أن يكون في الجنة أكل وشرب ولباس ونكاح ويمنعون وجود ما أخبر به القرآن .
ومن دخل في الإسلام ونافق المؤمنين تأول ذلك على أن هذه أمثال مضروبة لتفهيم النعيم الروحاني إن كان من المتفلسفة الصابئة المنكرة لحشر الأجساد . وإن كان من منافقة الملتين المقرين بحشر الأجساد تأول ذلك على تفهيم النعيم الذي في الجنة من الروحاني والسماع الطيب والروائح العطرة . فكل ضال يحرف الكلم عن مواضعه إلى ما اعتقد ثبوته . وكان في هذا أيضا متبعا للمتشابه إذ الأسماء تشبه الأسماء والمسميات تشبه المسميات ولكن تخالفها أكثر مما تشابهها . فهؤلاء يتبعون هذا المتشابه { ابتغاء الفتنة } بما يوردونه من الشبهات على امتناع أن تكون في الجنة هذه الحقائق { وابتغاء تأويله } ليردوه إلى المعهود الذي يعلمونه في الدنيا . قال الله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } فإن تلك الحقائق قال الله فيها : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } لا ملك مقرب ولا نبي مرسل . وقوله : { وما يعلم تأويله } إما أن يكون الضمير عائدا على الكتاب أو على المتشابه ؛
فإن كان عائدا على الكتاب كقوله ( منه و ( منه { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } فهذا يصح ؛ فإن جميع آيات الكتاب المحكمة والمتشابهة التي فيها إخبار عن الغيب الذي أمرنا أن نؤمن به لا يعلم حقيقة ذلك الغيب ومتى يقع إلا الله . وقد يستدل لهذا أن الله جعل التأويل للكتاب كله مع إخباره أنه مفصل بقوله { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون } { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } فجعل التأويل الجائي للكتاب المفصل . وقد بينا أن ذلك التأويل لا يعلمه وقتا وقدرا ونوعا وحقيقة إلا الله وإنما نعلم نحن بعض صفاته بمبلغ علمنا لعدم نظيره عندنا وكذلك قوله : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } وإذا كان التأويل للكتاب كله والمراد به ذلك ارتفعت الشبهة وصار هذا بمنزلة قوله : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض } إلى قوله : { إنما علمها عند الله } وكذلك قوله : { يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا }
فأخبر أنه ليس علمها إلا عند الله وإنما هو علم وقتها المعين وحقيقتها وإلا فنحن قد علمنا من صفاتها ما أخبرنا به . فعلم تأويله كعلم الساعة والساعة من تأويله وهذا واضح بين .
ولا ينافي كون علم الساعة عند الله أن نعلم من صفاتها وأحوالها ما علمناه وأن نفسر النصوص المبينة لأحوالها فهذا هذا . وإن كان الضمير عائدا إلى ما تشابه كما يقوله كثير من الناس فلأن المخبر به من الوعد والوعيد متشابه بخلاف الأمر والنهي ولهذا في الآثار : " العمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه " لأن المقصود في الخبر الإيمان وذلك لأن المخبر به من الوعد والوعيد فيه من التشابه ما ذكرناه بخلاف الأمر والنهي ؛ ولهذا قال بعض [ العلماء ] : " المتشابه " الأمثال والوعد [ والوعيد ] و " المحكم " الأمر والنهي فإنه متميز غير مشتبه بغيره فإنه أمور نفعلها قد علمناها بالوقوع وأمور نتركها لا بد أن نتصورها .
ومما جاء من لفظ " التأويل " في القرآن قوله تعالى { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } والكناية عائدة على القرآن أو على ما لم يحيطوا بعلمه وهو يعود إلى القرآن . قال تعالى : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين } { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } { ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين } . فأخبر سبحانه أن هذا القرآن ما كان ليفترى من دون الله وهذه الصيغة تدل على امتناع المنفي كقوله : { وما كان ربك ليهلك القرى بظلم } وقوله : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } لأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله كما تحداهم وطالبهم لما قال : { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } فهذا تعجيز لجميع المخلوقين . قال تعالى : { ولكن تصديق الذي بين يديه } أي مصدق الذي بين يديه { وتفصيل الكتاب } أي مفصل الكتاب فأخبر أنه مصدق الذي بين يديه ومفصل الكتاب والكتاب اسم جنس وتحدى القائلين : ( افتراه ودل على أنهم هم المفترون قال : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } أي كذبوا بالقرآن الذي لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله . ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله . فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتهم تأويله وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله .
و " نكتة ذلك " أن الخبر لمعناه صورة علمية وجودها في نفس العالم كذهن الإنسان مثلا ولذلك المعنى حقيقة ثابتة في الخارج عن العلم واللفظ إنما يدل ابتداء على المعنى الذهني ثم تتوسط ذلك أو تدل على الحقيقة الخارجة فالتأويل هو الحقيقة الخارجة وأما معرفة تفسيره ومعناه فهو معرفة الصورة العلمية . وهذا هو الذي بيناه فيما تقدم أن الله إنما أنزل القرآن ليعلم ويفهم ويفقه ويتدبر ويتفكر فيه محكمه ومتشابهه وإن لم يعلم تأويله . ويبين ذلك أن الله يقول عن الكفار : { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } فقد أخبر - ذما للمشركين - أنه إذا قرئ عليهم القرآن حجب بين أبصارهم وبين الرسول بحجاب مستور وجعل على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا . فلو كان أهل العلم والإيمان على قلوبهم أكنة أن يفقهوا بعضه لشاركوهم في ذلك . وقوله : { أن يفقهوه } يعود إلى القرآن كله . فعلم أن الله يحب أن يفقه ؛ ولهذا قال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا أنزلت وماذا عنى بها وما استثنى من ذلك لا متشابها ولا غيره . وقال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره مرات أقف عند كل آية وأسأله عنها .
فهذا ابن عباس حبر الأمة وهو أحد من كان يقول : لا يعلم تأويله إلا الله يجيب مجاهدا عن كل آية في القرآن . وهذا هو الذي حمل مجاهدا ومن وافقه كابن قتيبة على أن جعلوا الوقف عند قوله { والراسخون في العلم } فجعلوا الراسخين يعلمون التأويل لأن مجاهدا تعلم من ابن عباس تفسير القرآن كله وبيان معانيه فظن أن هذا هو التأويل المنفي عن غير الله .
وأصل ذلك أن لفظ " التأويل " فيه اشتراك بين ما عناه الله في القرآن وبين ما كان يطلقه طوائف من السلف وبين اصطلاح طوائف من المتأخرين فبسبب الاشتراك في لفظ التأويل اعتقد كل من فهم منه معنى بلغته أن ذلك هو المذكور في القرآن . ومجاهد إمام التفسير . قال الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به . وأما التأويل فشأن آخر .
ويبين ذلك أن الصحابة والتابعين لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب الله ولا قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين : إن في القرآن آيات لا يعلم معناها ولا يفهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أهل العلم والإيمان جميعهم وإنما قد ينفون علم بعض ذلك عن بعض الناس وهذا لا ريب فيه . وإنما وضع هذه المسألة المتأخرون من الطوائف بسبب الكلام في آيات الصفات وآيات القدر وغير ذلك . فلقبوها : " هل يجوز أن يشتمل القرآن على ما لا يعلم معناه " . وما " تعبدنا بتلاوة حروفه بلا فهم " فجوز ذلك طوائف متمسكين بظاهر من هذه الآية وبأن الله يمتحن عباده بما شاء ومنعها طوائف ليتوصلوا بذلك إلى تأويلاتهم الفاسدة التي هي تحريف الكلم عن مواضعه . والغالب على كلا الطائفتين الخطأ أولئك يقصرون في فهم القرآن بمنزلة من قيل فيه : { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } وهؤلاء معتدون بمنزلة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه .

ومن المتأخرين من وضع المسألة بلقب شنيع فقال : " لا يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعني به شيئا خلافا للحشوية " .
وهذا لم يقله مسلم إن الله يتكلم بما لا معنى له . وإنما النزاع هل يتكلم بما لا يفهم معناه ؟ وبين نفي المعنى عند المتكلم ونفي الفهم عند المخاطب بون عظيم . ثم احتج بما لا يجري على أصله فقال : هذا عبث والعبث على الله محال . وعنده أن الله لا يقبح منه شيء أصلا بل يجوز أن يفعل كل شيء وليس له أن يقول : العبث صفة نقص فهو منتف عنه ؛ لأن النزاع في الحروف وهي عنده مخلوقة من جملة الأفعال ويجوز أن يشتمل الفعل عنده على كل صفة فلا نقل صحيح ولا عقل صريح . ومثار الفتنة بين الطائفتين ومحار عقولهم : أن مدعي التأويل أخطئوا في زعمهم أن العلماء يعلمون التأويل وفي دعواهم أن التأويل هو تأويلهم الذي هو تحريف الكلم عن مواضعه ؛ فإن الأولين لعلمهم بالقرآن والسنن وصحة عقولهم وعلمهم بكلام السلف وكلام العرب علموا يقينا أن التأويل الذي يدعيه هؤلاء ليس هو معنى القرآن ؛ فإنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وصاروا مراتب ما بين قرامطة وباطنية يتأولون الأخبار والأوامر وما بين صابئة فلاسفة يتأولون عامة الأخبار عن الله وعن اليوم الآخر حتى عن أكثر أحوال الأنبياء وما بين جهمية ومعتزلة يتأولون بعض ما جاء في اليوم الآخر وفي آيات القدر ويتأولون آيات الصفات وقد وافقهم بعض متأخري الأشعرية على ما جاء في بعض الصفات وبعضهم في بعض ما جاء في اليوم الآخر وآخرون من أصناف الأمة وإن كان تغلب عليهم السنة فقد يتأولون أيضا مواضع يكون تأويلهم من تحريف الكلم عن مواضعه .
والذين ادعوا العلم بالتأويل مثل طائفة من السلف وأهل السنة وأكثر أهل الكلام والبدع رأوا أيضا أن النصوص دلت على معرفة معاني القرآن ورأوا عجزا وعيبا وقبيحا أن يخاطب الله عباده بكلام يقرءونه ويتلونه وهم لا يفهمونه وهم مصيبون فيما استدلوا به من سمع وعقل ؛ لكن أخطئوا في معنى التأويل الذي نفاه الله وفي التأويل الذي أثبتوه وتسلق بذلك مبتدعتهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه وصار الأولون أقرب إلى السكوت والسلامة بنوع من الجهل وصار الآخرون أكثر كلاما وجدالا ولكن بفرية على الله وقول عليه ما لا يعلمونه وإلحاد في أسمائه وآياته . فهذا هذا . ومنشأ الشبهة الاشتراك في لفظ التأويل .
فإن " التأويل " في عرف المتأخرين من المتفقهة والمتكلمة والمحدثة والمتصوفة ونحوهم هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف . فإذا قال أحدهم : هذا الحديث أو هذا النص مؤول أو هو محمول على كذا قال الآخر : هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل .
والمتأول عليه وظيفتان : بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر وهذا هو التأويل الذي يتنازعون فيه في مسائل الصفات إذا صنف بعضهم في إبطال التأويل أو ذم التأويل أو قال بعضهم آيات الصفات لا تؤول وقال الآخر : بل يجب تأويلها وقال الثالث : بل التأويل جائز يفعل عند المصلحة ويترك عند المصلحة أو يصلح للعلماء دون غيرهم إلى غير ذلك من المقالات والتنازع . وأما " التأويل " في لفظ السلف فله معنيان :
" أحدهما " تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا وهذا - والله أعلم - هو الذي عناه مجاهد أن العلماء يعلمون تأويله ومحمد بن جرير الطبري يقول في تفسيره : القول في تأويل قوله كذا وكذا واختلف أهل التأويل في هذه الآية ونحو ذلك ومراده التفسير .
و " المعنى الثاني " في لفظ السلف - وهو الثالث من مسمى التأويل مطلقا - : هو نفس المراد بالكلام فإن الكلام إن كان طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشيء المخبر به .
وبين هذا المعنى والذي قبله بون ؛ فإن الذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام كالتفسير والشرح والإيضاح ويكون وجود التأويل في القلب واللسان له الوجود الذهني واللفظي والرسمي .
وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج سواء كانت ماضية أو مستقبلة .
فإذا قيل : طلعت الشمس فتأويل هذا نفس طلوعها . ويكون " التأويل " من باب الوجود العيني الخارجي فتأويل الكلام هو الحقائق الثابتة في الخارج بما هي عليه من صفاتها وشؤونها وأحوالها وتلك الحقائق لا تعرف على ما هي عليه بمجرد الكلام والإخبار إلا أن يكون المستمع قد تصورها أو تصور نظيرها بغير كلام وإخبار ؛ لكن يعرف من صفاتها وأحوالها قدر ما أفهمه المخاطب : إما بضرب المثل وإما بالتقريب وإما بالقدر المشترك بينها وبين غيرها وإما بغير ذلك .
وهذا الوضع والعرف الثالث هو لغة القرآن التي نزل بها . وقد قدمنا التبيين في ذلك . ومن ذلك قول يعقوب عليه السلام ليوسف : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك } وقوله : { ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين } { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } وقول الملأ : { أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلوني } وقول يوسف لما دخل عليه أهله مصر { آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } { ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } . فتأويل الأحاديث التي هي رؤيا المنام هي نفس مدلولها التي تؤول إليه كما قال يوسف : { هذا تأويل رؤياي من قبل } والعالم بتأويلها : الذي يخبر به . كما قال يوسف : { لا يأتيكما طعام ترزقانه } أي في المنام { إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما } أي قبل أن يأتيكما التأويل .
وقال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } قالوا : أحسن عاقبة ومصيرا . فالتأويل هنا تأويل فعلهم الذي هو الرد إلى الكتاب والسنة . والتأويل في سورة يوسف تأويل أحاديث الرؤيا . والتأويل في الأعراف ويونس تأويل القرآن وكذلك في سورة آل عمران . وقال تعالى في قصة موسى والعالم : { قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } إلى قوله : { وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا } فالتأويل هنا تأويل الأفعال التي فعلها العالم من خرق السفينة بغير إذن صاحبها ومن قتل الغلام ومن إقامة الجدار فهو تأويل عمل لا تأويل قول . وإنما كان كذلك لأن التأويل مصدر أوله يؤوله تأويلا مثل حول تحويلا وعول تعويلا
وأول يؤول تعديه آل يئول أولا مثل حال يحول حولا . وقولهم : آل يئول أي عاد إلى كذا ورجع إليه ومنه " المآل " وهو ما يئول إليه الشيء ويشاركه في الاشتقاق الأكبر " الموئل " فإنه من وأل وهذا من أول . والموئل المرجع قال تعالى : { لن يجدوا من دونه موئلا } . ومما يوافقه في اشتقاقه الأصغر " الآل " فإن آل الشخص من يئول إليه ؛ ولهذا لا يستعمل إلا في عظيم بحيث يكون المضاف إليه أعظم من المضاف يصلح أن يئول إليه الآل كآل إبراهيم وآل لوط وآل فرعون بخلاف الأهل والأول أفعل لأنهم قالوا في تأنيثه أولى كما قالوا جمادى الأولى . وفي القصص : { له الحمد في الأولى والآخرة }
ومن الناس من يقول : فوعل ويقول : أولة . إلا أن هذا يحتاج إلى شاهد من كلام العرب ؛ بل عدم صرفه يدل على أنه أفعل لا فوعل فإن فوعل مثل كوثر وجوهر مصروف ، سمي المتقدم أول - والله أعلم - لأن ما بعده يئول إليه ويبنى عليه فهو أس لما بعده وقاعدة له . والصيغة صيغة تفضيل لا صفة مثل أكبر وكبرى وأصغر وصغرى لا من باب أحمر وحمراء ؛ ولهذا يقولون : جئته من أول أمس وقال : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } { وأنا أول المسلمين } { ولا تكونوا أول كافر به } فإذا قيل هذا أول هؤلاء فهو الذي فضل عليهم في الأول لأن كل واحد يرجع إلى ما قبله فيعتمد عليه وهذا السابق كلهم يئول إليه فإن من تقدم في فعل فاستن به من بعده كان السابق الذي يئول الكل إليه فالأول له وصف السؤدد والاتباع . ولفظ " الأول " مشعر بالرجوع والعود و " الأول " مشعر بالابتداء والمبتدأ ؛ خلاف العائد لأنه إنما كان أولا لما بعده فإنه يقال : أول المسلمين و أول يوم فما فيه من معنى الرجوع والعود هو للمضاف إليه لا للمضاف .
وإذا قلنا : آل فلان فالعود إلى المضاف ؛ لأن ذلك صيغة تفضيل في كونه مآلا ومرجعا لغيره لأن كونه مفضلا دل على أنه مآل ومرجع لا آيل راجع ؛ إذ لا فضل في كون الشيء راجعا إلى غيره آيلا إليه وإنما الفضل في كونه هو الذي يرجع إليه ويؤال إليه . فلما كانت الصيغة صيغة تفضيل أشعرت بأنه مفضل في كونه مآلا ومرجعا والتفضيل المطلق في ذلك يقتضي أن يكون هو السابق المبتدئ والله أعلم . فتأويل الكلام ما أوله إليه المتكلم أو ما يؤول إليه الكلام أو ما تأوله المتكلم ؛ فإن التفعيل يجري على غير فعل كقول : { وتبتل إليه تبتيلا } فيجوز أن يقال تأول الكلام إلى هذا المعنى تأويلا وتأولت الكلام تأويلا وأولت الكلام تأويلا . والمصدر واقع موقع الصفة إذ قد يحصل المصدر صفة بمعنى الفاعل كعدل وصوم وفطر وبمعنى المفعول كدرهم ضرب الأمير وهذا خلق الله . فالتأويل : هو ما أول إليه الكلام أو يؤول إليه أو تأول هو إليه . والكلام إنما يرجع ويعود ويستقر ويئول ويؤول إلى حقيقته التي هي عين المقصود به كما قال بعض السلف في قوله { لكل نبإ مستقر } قال حقيقة فإنه إن كان خبرا فإلى الحقيقة المخبر بها يئول ويرجع وإلا لم تكن له حقيقة ولا مآل ولا مرجع بل كان كذبا وإن كان طلبا فإلى الحقيقة المطلوبة يئول ويرجع وإن لم يكن مقصوده موجودا ولا حاصلا . ومتى كان الخبر وعدا أو وعيدا فإلى الحقيقة المطلوبة المنتظرة يئول كما { روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا } قال إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد } وعن عبد الله قال : خمس قد مضين البطشة واللزام والدخان والقمر والروم .

فصل :
وأما إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله . أو اعتقاد أن ذلك هو المتشابه الذي استأثر الله بعلم تأويله كما يقول كل واحد من القولين طوائف من أصحابنا وغيرهم . فإنهم وإن أصابوا في كثير مما يقولونه ونجوا من بدع وقع فيها غيرهم فالكلام على هذا من وجهين :
الأول :
من قال : إن هذا من المتشابه وأنه لا يفهم معناه فنقول أما الدليل على [ بطلان ] ذلك فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية ونفى أن يعلم أحد معناه . وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم ولا قالوا : إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة . قالوا في أحاديث الصفات : تمر كما جاءت . ونهوا عن تأويلات الجهمية وردوها وأبطلوها التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه .
ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها ويفهمون منها بعض ما دلت عليه كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك . وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات : تمر كما جاءت وفي أحاديث الوعيد مثل قوله : { من غشنا فليس منا } وأحاديث الفضائل ومقصوده بذلك أن الحديث لا يحرف كلمه عن مواضعه كما يفعله من يحرفه ويسمى تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر . فتأويل هؤلاء المتأخرين عند الأئمة تحريف باطل وكذلك نص أحمد في كتاب " الرد على الزنادقة والجهمية " أنهم تمسكوا بمتشابه القرآن وتكلم أحمد على ذلك المتشابه وبين معناه وتفسيره بما يخالف تأويل الجهمية وجرى في ذلك على سنن الأئمة قبله . فهذا اتفاق من الأئمة على أنهم يعلمون معنى هذا المتشابه وأنه لا يسكت عن بيانه وتفسيره بل يبين ويفسر باتفاق الأئمة من غير تحريف له عن مواضعه أو إلحاد في أسماء الله وآياته . ومما يوضح لك ما وقع هنا من الاضطراب أن أهل السنة متفقون على إبطال تأويلات الجهمية ونحوهم من المنحرفين الملحدين . و " التأويل المردود " هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره . فلو قيل إن هذا هو التأويل المذكور في الآية وأنه لا يعلمه إلا الله لكان في هذا تسليم للجهمية أن للآية تأويلا يخالف دلالتها لكن ذلك لا يعلمه إلا الله وليس هذا مذهب السلف والأئمة وإنما مذهبهم نفي هذه التأويلات وردها ؛ لا التوقف فيها وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف ولا يلحد فيها . والدليل على أن هذا ليس بمتشابه لا يعلم معناه أن نقول : لا ريب أن الله سمى نفسه في القرآن بأسماء مثل الرحمن والودود والعزيز والجبار والعليم والقدير والرءوف ونحو ذلك ووصف نفسه بصفات مثل " سورة الإخلاص " و " آية الكرسي " وأول " الحديد " وآخر " الحشر " وقوله : { إن الله بكل شيء عليم } و { على كل شيء قدير } وأنه { يحب المتقين } و { المقسطين } و { المحسنين } وأنه يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات { فلما آسفونا انتقمنا منهم } { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } { ولكن كره الله انبعاثهم } { الرحمن على العرش استوى } { ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم } { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم } { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } { إنني معكما أسمع وأرى } . { وهو الله في السماوات وفي الأرض } { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } . { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } . { يريدون وجهه } { ولتصنع على عيني } - إلى أمثال ذلك . فيقال لمن ادعى في هذا أنه متشابه لا يعلم معناه : أتقول هذا في جميع ما سمى الله ووصف به نفسه أم في البعض ؟ فإن قلت : هذا في الجميع كان هذا عنادا ظاهرا وجحدا لما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام بل كفر صريح . فإنا نفهم من قوله : { إن الله بكل شيء عليم } معنى ونفهم من قوله : { إن الله على كل شيء قدير } معنى ليس هو الأول ونفهم من قوله : { ورحمتي وسعت كل شيء } معنى ونفهم من قوله : { إن الله عزيز ذو انتقام } معنى . وصبيان المسلمين بل وكل عاقل يفهم هذا . وقد رأيت بعض من ابتدع وجحد من أهل المغرب - مع انتسابه إلى الحديث لكن أثرت فيه الفلسفة الفاسدة - من يقول : إنا نسمي الله الرحمن العليم القدير علما محضا من غير أن نفهم منه معنى يدل على شيء قط وكذلك في قوله : { ولا يحيطون بشيء من علمه } يطلق هذا اللفظ من غير أن نقول له علم . وهذا الغلو في الظاهر من جنس غلو القرامطة في الباطن لكن هذا أيبس وذاك أكفر . ثم يقال لهذا المعاند : فهل هذه الأسماء دالة على الإله المعبود وعلى حق موجود أم لا ؟ فإن قال : لا كان معطلا محضا وما أعلم مسلما يقول هذا . وإن قال : نعم قيل له : فلم فهمت منها دلالتها على نفس الرب ولم تفهم دلالتها على ما فيها من المعاني من الرحمة والعلم وكلاهما في الدلالة سواء ؟ فلا بد أن يقول : نعم ؛ لأن ثبوت الصفات محال في العقل لأنه يلزم منه التركيب أو الحدوث بخلاف الذات . فيخاطب حينئذ بما يخاطب به الفريق الثاني كما سنذكره وهو من أقر بفهم بعض معنى هذه الأسماء والصفات دون بعض . فيقال له : ما الفرق بين ما أثبته وبين ما نفيته أو سكت عن إثباته ونفيه فإن الفرق إما أن يكون من جهة السمع لأن أحد النصين دال دلالة قطعية أو ظاهرة بخلاف الآخر أو من جهة العقل بأن أحد المعنيين يجوز أو يجب إثباته دون الآخر وكلا الوجهين باطل في أكثر المواضع ؟ . أما " الأول " فدلالة القرآن على أنه رحمن رحيم ودود سميع بصير علي عظيم كدلالته على أنه عليم قدير ليس بينهما فرق من جهة النص وكذلك ذكره لرحمته ومحبته وعلوه مثل ذكره لمشيئته وإرادته .
وأما " الثاني "
فيقال لمن أثبت شيئا ونفى آخر : لم نفيت مثلا حقيقة رحمته ومحبته وأعدت ذلك إلى إرادته ؟ فإن قال : لأن المعنى المفهوم من الرحمة في حقنا هي رقة تمتنع على الله قيل له : والمعنى المفهوم من الإرادة في حقنا هي ميل يمتنع على الله .
فإن قال : إرادته ليست من جنس إرادة خلقه قيل له : ورحمته ليست من جنس رحمة خلقه وكذلك محبته . وإن قال - وهو حقيقة قوله - : لم أثبت الإرادة وغيرها بالسمع وإنما أثبت العلم والقدرة والإرادة بالعقل وكذلك السمع والبصر والكلام على إحدى الطريقتين لأن الفعل دل على القدرة والإحكام دل على العلم والتخصيص دل على الإرادة قيل له الجواب من ثلاثة أوجه :
أحدها :
أن الإنعام والإحسان وكشف الضر دل أيضا على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة . والتقريب والإدناء وأنواع التخصيص التي لا تكون إلا من المحب تدل على المحبة أو مطلق التخصيص يدل على الإرادة . وأما التخصيص بالإنعام فتخصيص خاص . والتخصيص بالتقريب والاصطفاء تقريب خاص . وما سلكه في مسلك الإرادة يسلك في مثل هذا .
الثاني :
يقال له : هب أن العقل لا يدل على هذا فإنه لا ينفيه إلا بمثل ما ينفي به الإرادة ، والسمع دليل مستقل بنفسه بل الطمأنينة إليه في هذه المضايق أعظم ودلالته أتم فلأي شيء نفيت مدلوله أو توقفت وأعدت هذه الصفات كلها إلى الإرادة مع أن النصوص [ لم ] تفرق ؟ فلا يذكر حجة إلا عورض بمثلها في إثباته الإرادة زيادة على الفعل .
" الثالث "
يقال له : إذا قال لك الجهمي الإرادة لا معنى لها إلا عدم الإكراه أو نفس الفعل والأمر به وزعم أن إثبات إرادة تقتضي محذورا إن قال بقدمها ومحذورا إن قال بحدوثها . وهنا اضطربت المعتزلة فإنهم لا يقولون بإرادة قديمة لامتناع صفة قديمة عندهم ولا يقولون بتجدد صفة له لامتناع حلول الحوادث عند أكثرهم مع تناقضهم . فصاروا حزبين : البغداديون وهم أشد غلوا في البدعة في الصفات وفي القدر نفوا حقيقة الإرادة . وقال الجاحظ لا معنى لها إلا عدم الإكراه .
وقال الكعبي لا معنى لها إلا نفس الفعل إذا تعلقت بفعله ونفس الأمر إذا تعلقت بطاعة عباده . والبصريون كأبي علي وأبي هاشم قالوا : تحدث إرادة لا في محل فلا إرادة فالتزموا حدوث حادث غير مراد وقيام صفة بغير محل وكلاهما عند العقلاء معلوم الفساد بالبديهة . كان جوابه أن ما ادعى إحالته من ثبوت الصفات ليس بمحال والنص قد دل عليها والعقل أيضا فإذا أخذ الخصم ينازع في دلالة النص أو العقل جعله مسفسطا أو مقرمطا وهذا بعينه موجود في الرحمة والمحبة فإن خصومه ينازعونه في دلالة السمع والعقل عليها على الوجه القطعي . ثم يقال لخصومه : بم أثبتم أنه عليم قدير ؟ فما أثبتوه به من سمع وعقل فبعينه تثبت الإرادة وما عارضوا به من الشبه عورضوا بمثله في العليم والقدير .
وإذا انتهى الأمر إلى ثبوت المعاني وأنها تستلزم الحدوث أو التركيب والافتقار كان الجواب ما قررناه في غير هذا الموضع ؛ فإن ذلك لا يستلزم حدوثا ولا تركيبا مقتضيا حاجة إلى غيره . ويعارضون أيضا بما ينفي به أهل التعطيل الذات من الشبه الفاسدة ويلزمون بوجود الرب الخالق المعلوم بالفطرة الخلقية والضرورة العقلية والقواطع العقلية واتفاق الأمم وغير ذلك من الدلائل ثم يطالبون بوجود من جنس ما نعهده أو بوجود يعلمون كيفيته فلا بد أن يفروا إلى إثبات ما لا تشبه حقيقته الحقائق .
فالقول في سائر ما سمى ووصف به نفسه كالقول في نفسه سبحانه وتعالى . و " نكتة هذا الكلام " أن غالب من نفى وأثبت شيئا مما دل عليه الكتاب والسنة لا بد أن يثبت الشيء لقيام المقتضي وانتفاء المانع وينفي الشيء لوجود المانع أو لعدم المقتضي أو يتوقف إذا لم يكن له عنده مقتض ولا مانع فيبين له أن المقتضي فيما نفاه قائم ؛ كما أنه فيما أثبته قائم إما من كل وجه أو من وجه يجب به الإثبات .
فإن كان المقتضي هناك حقا فكذلك هنا وإلا فدرء ذاك المقتضي من جنس درء هذا . وأما المانع فيبين أن المانع الذي تخيله فيما نفاه من جنس المانع الذي تخيله فيما أثبته فإذا كان ذلك المانع المستحيل موجودا على التقديرين لم ينج من محذوره بإثبات أحدهما ونفي الآخر فإنه إن كان حقا نفاهما وإن كان باطلا لم ينف واحدا منهما فعليه أن يسوي بين الأمرين في الإثبات والنفي ولا سبيل إلى النفي فتعين الإثبات .
فهذه نكتة الإلزام لمن أثبت شيئا . وما من أحد إلا ولا بد أن يثبت شيئا أو يجب عليه إثباته . فهذا يعطيك من حيث الجملة أن اللوازم التي يدعي أنها موجبة النفي خيالات غير صحيحة وإن لم يعرف فسادها على التفصيل وأما من حيث التفصيل فيبين فساد المانع وقيام المقتضي كما قرر هذا غير مرة . فإن قال من أثبت هذه الصفات التي هي فينا أعراض كالحياة والعلم والقدرة ولم يثبت ما هو فينا أبعاض كاليد والقدم : هذه أجزاء وأبعاض تستلزم التركيب والتجسيم . قيل له : وتلك أعراض تستلزم التجسيم والتركيب العقلي كما استلزمت هذه عندك التركيب الحسي فإن أثبت تلك على وجه لا تكون أعراضا أو تسميتها أعراضا لا يمنع ثبوتها قيل له : وأثبت هذه على وجه لا تكون تركيبا وأبعاضا أو تسميتها تركيبا وأبعاضا لا يمنع ثبوتها .
فإن قيل : هذه لا يعقل منها إلا الأجزاء قيل له : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض فإن قال : العرض ما لا يبقى وصفات الرب باقية . قيل : والبعض ما جاز انفصاله عن الجملة وذلك في حق الله محال فمفارقة الصفات القديمة مستحيلة في حق الله تعالى مطلقا والمخلوق يجوز أن تفارقه أعراضه وأبعاضه . فإن قال ذلك تجسيم والتجسيم منتف قيل : وهذا تجسيم والتجسيم منتف . فإن قال : أنا أعقل صفة ليست عرضا بغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير قيل له : فاعقل صفة هي لنا بعض لغير متحيز وإن لم يكن له في الشاهد نظير فإن نفي عقل هذا نفي عقل ذاك وإن كان بينهما نوع فرق لكنه فرق غير مؤثر في موضع النزاع ؛ ولهذا كانت المعطلة الجهمية تنفي الجميع لكن ذاك أيضا مستلزم لنفي الذات ومن أثبت هذه الصفات الخبرية من نظير هؤلاء صرح بأنها صفة قائمة به كالعلم والقدرة وهذا أيضا ليس هو معقول النص ولا مدلول العقل وإنما الضرورة ألجأتهم إلى هذه المضايق . وأصل ذلك : أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة وهي ألفاظ جملة مثل : " متحيز " و " محدود " و " جسم " و " مركب " ونحو ذلك ونفوا مدلولها وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ومدلولا عليها بنوع قياس وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث والإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ؛ إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح فرأوا ذلك يعكر عليهم من جهة النصوص ومن جهة العقل من ناحية أخرى فصاروا أحزابا . تارة يغلبون القياس الأول ويدفعون ما عارضه وهم المعتزلة وتارة يغلبون القياس الثاني ويدفعون الأول كهشام بن الحكم الرافضي فإنه قد قيل : أول ما تكلم في الجسم نفيا وإثباتا من زمن هشام بن الحكم وأبي الهذيل العلاف فإن أبا الهذيل ونحوه من قدماء المعتزلة نفوا الجسم لما سلكوا من القياس فعارضهم هشام وأثبت الجسم لما سلكوه من القياس واعتقد الأولون إحالة ثبوته واعتقد هذا إحالة نفيه وتارة يجمعون بين النصوص والقياس بجمع يظهر فيه الإحالة والتناقض . فما أعلم أحدا من الخارجين عن الكتاب والسنة من جميع فرسان الكلام والفلسفة إلا ولا بد أن يتناقض فيحيل ما أوجب نظيره ويوجب ما أحال نظيره إذ كلامهم من عند غير الله وقد قال الله تعالى : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } . والصواب ما عليه أئمة الهدى وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث
ويتبع في ذلك سبيل السلف الماضين أهل العلم والإيمان والمعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فتكون من باب تحريف الكلم عن مواضعه ولا يعرض عنها فيكون من باب الذين إذا ذكروا بآيات ربهم يخرون عليها صما وعميانا ولا يترك تدبر القرآن فيكون من باب الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني . فهذا أحد الوجهين وهو منع أن تكون هذه من المتشابه .
الوجه الثاني : أنه إذا قيل :
هذه من المتشابه أو كان فيها ما هو من المتشابه كما نقل عن بعض الأئمة أنه سمى بعض ما استدل به الجهمية متشابها فيقال : الذي في القرآن أنه لا يعلم تأويله إلا الله إما المتشابه وإما الكتاب كله كما تقدم ونفي علم تأويله ليس نفي علم معناه كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة وهذا الوجه قوي إن ثبت حديث ابن إسحاق في وفد نجران أنهم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنا و ( نحن ونحو ذلك ويؤيده أيضا أنه قد ثبت أن في القرآن متشابها وهو ما يحتمل معنيين وفي مسائل الصفات ما هو من هذا الباب كما أن ذلك في مسائل المعاد وأولى فإن نفي المشابهة بين الله وبين خلقه أعظم من نفي المشابهة بين موعود الجنة وموجود الدنيا . وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا أن نفي علم التأويل ليس نفيا لعلم المعنى ونزيده تقريرا أن الله سبحانه يقول : { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون } { قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون } وقال تعالى : { الر تلك آيات الكتاب المبين } { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } فأخبر أنه أنزله ليعقلوه وأنه
وقال أيضا : { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } فحض على تدبره وفقهه وعقله والتذكر به والتفكر فيه ولم يستثن من ذلك شيئا ؛ بل نصوص متعددة تصرح بالعموم فيه مثل قوله { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } وقوله { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ومعلوم أن نفي الاختلاف عنه لا يكون إلا بتدبره كله وإلا فتدبر بعضه لا يوجب الحكم بنفي مخالفه ما لم يتدبر لما تدبر . وقال علي رضي الله عنه لما قيل له : هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ؟ فقال : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه وما في هذه الصحيفة . فأخبر أن الفهم فيه مختلف في الأمة والفهم أخص من العلم والحكم قال الله تعالى : { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } وقال النبي صلى الله عليه وسلم { رب مبلغ أوعى من سامع } وقال { بلغوا عني ولو آية } . وأيضا فالسلف من الصحابة والتابعين وسائر الأمة قد تكلموا في جميع نصوص القرآن آيات الصفات وغيرها وفسروها بما يوافق دلالتها وبيانها ورووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة توافق القرآن وأئمة الصحابة في هذا أعظم من غيرهم مثل عبد الله بن مسعود الذي كان يقول :
لو أعلم أعلم بكتاب الله مني تبلغه آباط الإبل لأتيته .
وعبد الله بن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وهو حبر الأمة وترجمان القرآن كانا هما وأصحابهما من أعظم الصحابة والتابعين إثباتا للصفات ورواية لها عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن له خبرة بالحديث والتفسير يعرف هذا وما في التابعين أجل من أصحاب هذين السيدين بل وثالثهما في علية التابعين من جنسهم أو قريب منهم ومثلهما في جلالته جلالة أصحاب زيد بن ثابت ؛ لكن أصحابه مع جلالتهم ليسوا مختصين به بل أخذوا عن غيره مثل عمر وابن عمر وابن عباس . ولو كان معاني هذه الآيات منفيا أو مسكوتا عنه لم يكن ربانيو الصحابة أهل العلم بالكتاب والسنة أكثر كلاما فيه . ثم إن الصحابة نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يتعلمون منه التفسير مع التلاوة ولم يذكر أحد منهم عنه قط أنه امتنع من تفسير آية .

قال أبو عبد الرحمن السلمي :
حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل .
وكذلك الأئمة كانوا إذا سئلوا عن شيء من ذلك لم ينفوا معناه بل يثبتون المعنى وينفون الكيفية كقول مالك بن أنس لما سئل عن قوله تعالى : { الرحمن على العرش استوى } كيف استوى فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وكذلك ربيعة قبله .
وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول فليس في أهل السنة من ينكره . وقد بين أن الاستواء معلوم كما أن سائر ما أخبر به معلوم ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها لا يقال كيف استوى . ولم يقل مالك الكيف معدوم وإنما قال الكيف مجهول . وهذا فيه نزاع بين أصحابنا وغيرهم من أهل السنة غير أن أكثرهم يقولون لا تخطر كيفيته ببال ولا تجري ماهيته في مقال ومنهم من يقول : ليس له كيفية ولا ماهية . فإن قيل : معنى قوله : " الاستواء معلوم " أن ورود هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قاله بعض أصحابنا الذين يجعلون معرفة معانيها من التأويل الذي استأثر الله بعلمه . قيل : هذا ضعيف ؛ فإن هذا من باب تحصيل الحاصل فإن السائل قد علم أن هذا موجود في القرآن وقد تلا الآية . وأيضا فلم يقل : ذكر الاستواء في القرآن ولا إخبار الله بالاستواء ؛ وإنما قال : الاستواء معلوم . فأخبر عن الاسم المفرد أنه معلوم لم يخبر عن الجملة . وأيضا فإنه قال : " والكيف مجهول " ولو أراد ذلك لقال معنى الاستواء مجهول أو تفسير الاستواء مجهول أو بيان الاستواء غير معلوم فلم ينف إلا العلم بكيفية الاستواء لا العلم بنفس الاستواء .
وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه لو قال في قوله : { إنني معكما أسمع وأرى } كيف يسمع وكيف يرى ؟ لقلنا : السمع والرؤيا معلوم والكيف مجهول ولو قال : كيف كلم موسى تكليما ؟ لقلنا : التكليم معلوم والكيف غير معلوم . وأيضا فإن من قال هذا من أصحابنا وغيرهم من أهل السنة : يقرون بأن الله فوق العرش حقيقة وأن ذاته فوق ذات العرش لا ينكرون معنى الاستواء ولا يرون هذا من المتشابه الذي لا يعلم معناه بالكلية . ثم السلف متفقون على تفسيره بما هو مذهب أهل السنة . قال بعضهم : ارتفع على العرش علا على العرش . وقال بعضهم عبارات أخرى وهذه ثابتة عن السلف قد ذكر البخاري في صحيحه بعضها في آخر كتاب " الرد على الجهمية " . وأما التأويلات المحرفة مثل استولى وغير ذلك فهي من التأويلات المبتدعة لما ظهرت الجهمية . وأيضا قد ثبت أن اتباع المتشابه ليس في خصوص الصفات ؛ بل في صحيح البخاري { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة يا عائشة إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذريهم } وهذا عام . وقصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب من أشهر القضايا فإنه بلغه أنه يسأل عن متشابه القرآن حتى رآه عمر فسأل عمر عن { والذاريات ذروا } فقال : ما اسمك ؟ قال : عبد الله صبيغ فقال : وأنا عبد الله عمر وضربه الضرب الشديد .
وكان ابن عباس إذا ألح عليه رجل في مسألة من هذا الجنس يقول ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بصبيغ . وهذا لأنهم رأوا أن غرض السائل ابتغاء الفتنة لا الاسترشاد والاستفهام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام { إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه } وكما قال تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } فعاقبوهم على هذا القصد الفاسد كالذي يعارض بين آيات القرآن وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال : { لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض } فإن ذلك يوقع الشك في قلوبهم . ومع ابتغاء الفتنة ابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله فكان مقصودهم مذموما ومطلوبهم متعذرا مثل أغلوطات المسائل التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها .
ومما يبين الفرق بين " المعنى " و " التأويل " أن صبيغا سأل عمر عن ( الذاريات وليست من الصفات وقد تكلم الصحابة في تفسيرها مثل علي بن أبي طالب مع ابن الكواء لما سأله عنها كره سؤاله لما رآه من قصده ؛ لكن علي كانت رعيته ملتوية عليه لم يكن مطاعا فيهم طاعة عمر حتى يؤدبه . و ( الذاريات و ( الحاملات و ( الجاريات و ( المقسمات فيها اشتباه لأن اللفظ يحتمل الرياح والسحاب والنجوم والملائكة ويحتمل غير ذلك إذ ليس في اللفظ ذكر الموصوف . والتأويل الذي لا يعلمه إلا الله هو أعيان الرياح ومقاديرها وصفاتها ومتى تهب وأعيان السحاب وما تحمله من الأمطار ومتى ينزل المطر وكذلك في ( الجاريات و ( المقسمات فهذا لا يعلمه إلا الله . وكذلك في قوله : ( إنا و ( نحن ونحوهما من أسماء الله التي فيها معنى الجمع كما اتبعه النصارى ؛ فإن معناه معلوم وهو الله سبحانه
لكن اسم الجمع يدل على تعدد المعاني ؛ بمنزلة الأسماء المتعددة : مثل العليم والقدير والسميع والبصير فإن المسمى واحد ومعاني الأسماء متعددة فهكذا الاسم الذي لفظه الجمع . وأما التأويل الذي اختص الله به فحقيقة ذاته وصفاته كما قال مالك . والكيف مجهول . فإذا قالوا ما حقيقة علمه وقدرته وسمعه وبصره قيل هذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . وما أحسن ما يعاد التأويل إلى القرآن كله . فإن قيل : فقد { قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل } قيل : أما تأويل الأمر والنهي فذاك يعلمه واللام هنا للتأويل المعهود لم يقل : تأويل كل القرآن فالتأويل المنفي هو تأويل الأخبار التي لا يعلم حقيقة مخبرها إلا الله والتأويل المعلوم هو الأمر الذي يعلم العباد تأويله وهذا كقوله : { هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله } وقوله : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله } فإن المراد تأويل الخبر الذي أخبر فيه عن المستقبل فإنه هو الذي " ينتظر " " ويأتي " و " لما يأتهم " . وأما تأويل الأمر والنهي فذاك في الأمر . وتأويل الخبر عن الله وعمن مضى إن أدخل في التأويل لا ينتظر .
والله سبحانه أعلم وبه التوفيق ؟

شبكة مشكاة الإسلامية
نقلا عن موقع الإسلام
....يتبع

سقراط 17-07-04 10:27 PM

التبيان في نزول القرآن

شيخ الإسلام ابن تيمية


مكتبة مشكاة الإسلامية



وقال الإمام العلامة المحقق أبو العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى ورضي عنه –
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين . أما بعد
فهذا " فصل في نزول القرآن " ولفظ " النزول " :
حيث ذكر في كتاب الله تعالى فإن كثيرا من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف لاشتباه المعنى في تلك المواضع وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع . فمن الجهمية من يقول : أنزل بمعنى خلق كقوله تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد } أو يقول : خلقه في مكان عال ثم أنزله من ذلك المكان .
ومن الكلابية من يقول نزوله بمعنى الإعلام به وإفهامه للملك أو نزول الملك بما فهمه . وهذا الذي قالوه باطل في اللغة والشرع والعقل . و " المقصود هنا " ذكر النزول . فنقول وبالله التوفيق : النزول في كتاب الله عز وجل " ثلاثة أنواع " :
نزول مقيد بأنه منه
ونزول مقيد بأنه من السماء
ونزول غير مقيد لا بهذا ولا بهذا .
فالأول لم يرد إلا في القرآن كما قال تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وقال تعالى { نزله روح القدس من ربك بالحق }
وقال تعالى : { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وفيها قولان :
" أحدهما " لا حذف في الكلام بل قوله : { تنزيل الكتاب } مبتدأ وخبره { من الله العزيز الحكيم }
و " الثاني " أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا { تنزيل الكتاب } وعلى كلا القولين فقد ثبت أنه منزل منه وكذلك قوله : { حم } { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وكذلك { حم } { تنزيل من الرحمن الرحيم } { حم } { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } والتنزيل بمعنى المنزل تسمية للمفعول باسم المصدر وهو كثير ؛ ولهذا قال السلف : القرآن كلام الله ليس بمخلوق منه بدأ .
قال أحمد وغيره : وإليه يعود أي : هو المتكلم به . وقال كلام الله من الله ليس ببائن منه أي لم يخلقه في غيره فيكون مبتدأ منزلا من ذلك المخلوق ؛ بل هو منزل من الله كما أخبر به ومن الله بدأ لا من مخلوق فهو الذي تكلم به لخلقه .
وأما النزول " المقيد " بالسماء فقوله : { وأنزلنا من السماء } والسماء اسم جنس لكل ما علا فإذا قيد بشيء معين [ تقيد به ] فقوله في غير موضع من السماء مطلق أي في العلو ؛ ثم قد بينه في موضع آخر بقوله { أأنتم أنزلتموه من المزن } وقوله { فترى الودق يخرج من خلاله } أي أنه منزل من السحاب ومما يشبه نزول القرآن قوله : { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } فنزول الملائكة هو نزولهم بالوحي من أمره الذي هو كلامه وكذلك قوله : { تنزل الملائكة والروح فيها } يناسب قوله : { فيها يفرق كل أمر حكيم } { أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين } فهذا شبيه بقوله : { قل نزله روح القدس }
وأما " المطلق " ففي مواضع . منها : ما ذكره من إنزال السكينة ؛ بقوله : { فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } وقوله : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } إلى غير ذلك . ومن ذلك " إنزال الميزان " ذكره مع الكتاب في موضعين وجمهور المفسرين على أن المراد به العدل وعن مجاهد - رحمه الله - هو ما يوزن به ولا منافاة بين القولين .
وكذلك العدل وما يعرف به العدل منزل في القلوب والملائكة قد تنزل على قلوب المؤمنين ؛ كقوله : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا } فذلك الثبات نزل في القلوب بواسطة الملائكة وهو السكينة . قال النبي صلى الله عليه وسلم { من طلب القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يطلب القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } فالله ينزل عليه ملكا وذلك الملك يلهمه السداد وهو ينزل في قلبه .
ومنه حديث حذيفة رضي الله عنه الذي في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله أنزل الأمانة في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن وعلموا من السنة } والأمانة هي الإيمان أنزلها في أصل قلوب الرجال وهو كإنزال الميزان والسكينة وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله } الحديث إلى آخره فذكر أربعة غشيان الرحمة وهي أن تغشاهم كما يغشى اللباس لابسه وكما يغشى الرجل المرأة والليل النهار . ثم قال : { ونزلت عليهم السكينة } وهو إنزالها في قلوبهم { وحفتهم الملائكة } أي جلست حولهم { وذكرهم الله فيمن عنده } من الملائكة . وذكر الله الغشيان في مواضع مثل قوله تعالى { يغشي الليل النهار } وقوله : { فلما تغشاها حملت حملا خفيفا } وقوله : { والمؤتفكة أهوى } { فغشاها ما غشى }
وقوله : { ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون } هذا كله فيه إحاطة من كل وجه . وذكر تعالى إنزال النعاس في قوله : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم } هذا يوم أحد .
وقال في يوم بدر : { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } والنعاس ينزل في الرأس بسبب نزول الأبخرة التي تدخل في الدماغ فتنعقد فيحصل منها النعاس .
وطائفة من أهل الكلام - منهم أبو الحسن الأشعري ومن اتبعه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد - جعلوا النزول والإتيان والمجيء حدثا يحدثه منفصلا عنه فذاك هو إتيانه واستواؤه على العرش فقالوا استواؤه فعل يفعله في العرش يصير به مستويا عليه من غير فعل يقوم بالرب لكن أكثر الناس خالفوهم .
وقالوا : المعروف أنه لا يجيء شيء من الصفات والأعراض إلا بمجيء شيء فإذا قالوا : جاء البرد أو جاء الحر فقد جاء الهواء الذي يحمل الحر والبرد وهو عين قائمة بنفسها . وإذا قالوا : جاءت الحمى فالحمى حر أو برد تقوم بعين قائمة بسبب أخلاط تتحرك وتتحول من حال إلى حال فيحدث الحر والبرد بذلك وهذا بخلاف العرض الذي يحدث بلا تحول من حامل مثل لون الفاكهة فإنه لا يقال في هذا : جاءت الحمرة والصفرة والخضرة بل يقال : أحمر وأصفر وأخضر .
وإذا كان كذلك فإنزاله تعالى العدل والسكينة والنعاس والأمانة - وهذه صفات تقوم بالعباد - إنما تكون إذا أفضى بها إليهم فالأعيان القائمة توصف بالنزول كما توصف الملائكة بالنزول بالوحي والقرآن فإذا نزل بها الملائكة قيل إنها نزلت . وكذلك لو نزل غير الملائكة كالهواء الذي نزل بالأسباب فيحدث الله منه البخار الذي يكون منه النعاس فكان قد أنزل النعاس سبحانه بإنزال ما يحمله .
وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد والحديد يخلق في المعادن . وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد السندان والكلبتان والمنقعة والمطرقة والإبرة فهو كذب لا يثبت مثله .
وكذلك الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض فأنزل الحديد والماء والنار والملح } حديث موضوع مكذوب في إسناده سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري رحمه الله وهو من الكذابين المعروفين بالكذب .
قال ابن الجوزي : هو سيف بن محمد ابن أخت سفيان الثوري يروي عن الثوري وعاصم الأحول والأعمش قال أحمد رحمه الله هو كذاب يضع الحديث وقال مرة : ليس بشيء وقال يحيى : كان كذابا خبيثا وقال مرة ليس بثقة وقال أبو داود كذاب وقال زكريا الساجي يضع الحديث وقال النسائي : ليس بثقة ولا مأمون وقال الدارقطني ضعيف متروك .
والناس يشهدون أن هذه الآلات تصنع من حديد المعادن .
فإن قيل : إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات فهذه مكابرة للعيان .
وإن قيل بل نزل معه آلة واحدة وتلك لا تعرف فأي فائدة في هذا لسائر الناس ثم ما يصنع بهذه الآلات إذا لم يكن ثم حديد موجود يطرق بهذه الآلات وإذا خلق الله الحديد صنعت منه هذه الآلات مع أن المأثور : { أن أول من خط وخاط إدريس عليه السلام } وآدم عليه السلام لم يخط ثوبا فما يصنع بالإبرة .
ثم أخبر أنه أنزل الحديد فكان المقصود الأكبر بذكر الحديد هو اتخاذ آلات الجهاد منه كالسيف والسنان والنصل وما أشبه ذلك الذي به ينصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهذه لم تنزل من السماء .
فإن قيل نزلت الآلة التي يطبع بها قيل فالله أخبر أنه أنزل الحديد لهذه المعاني المتقدمة والآلة وحدها لا تكفي بل لا بد من مادة يصنع بها آلات الجهاد ؛ لكن لفظ النزول أشكل على كثير من الناس حتى قال قطرب رحمه الله معناه جعله نزلا كما يقال أنزل الأمر على فلان نزلا حسنا أي جعله نزلا .
قال ومثله قوله تعالى { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } وهذا ضعيف ؛ فإن النزل إنما يطلق على ما يؤكل لا على ما يقاتل به قال الله تعالى { فنزل من حميم } والضيافة سميت نزلا لأن العادة أن الضيف يكون راكبا فينزل في مكان يؤتى إليه بضيافته فيه فسميت نزلا لأجل نزوله ونزل ببني فلان ضيف ؛
ولهذا قال نوح عليه السلام { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } لأنه كان راكبا في السفينة وسميت المواضع التي ينزل بها المسافرون منازل لأنهم يكونون ركبانا فينزلون والمشاة تبع للركبان وتسمى المساكن منازل .
وجعل بعضهم نزول الحديد بمعنى الخلق لأنه أخرجه من المعادن وعلمهم صنعته فإن الحديد إنما يخلق في المعادن والمعادن إنما تكون في الجبال فالحديد ينزله الله من معادنه التي في الجبال لينتفع به بنو آدم وقال تعالى : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } . وهذا مما أشكل أيضا .
فمنهم من قال : جعل ومنهم من قال : خلق لكونها تخلق من الماء فإن به يكون النبات الذي ينزل أصله من السماء وهو الماء وقال قطرب : جعلناه نزلا . ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن معناه المعروف لغة ؛ فإن الأنعام تنزل من بطون أمهاتها ومن أصلاب آبائها تأتي بطون أمهاتها ويقال للرجل : قد أنزل الماء وإذا أنزل وجب عليه الغسل مع أن الرجل غالب إنزاله وهو على جنب إما وقت الجماع وإما بالاحتلام فكيف بالأنعام التي غالب إنزالها مع قيامها على رجليها وارتفاعها على ظهور الإناث ومما يبين هذا أنه لم يستعمل النزول فيما خلق من السفليات فلم يقل أنزل النبات ولا أنزل المرعى وإنما استعمل فيما يخلق في محل عال وأنزله الله من ذلك المحل كالحديد والأنعام .
وقال تعالى { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا } الآية وفيها قراءتان إحداهما بالنصب فيكون لباس التقوى أيضا منزلا .
وإما على قراءة الرفع فلا وكلاهما حق وقد قيل فيه خلقناه وقيل أنزلنا أسبابه وقيل ألهمناهم كيفية صنعته وهذه الأقوال ضعيفة ؛ فإن النبات الذي ذكروا لم يجئ فيه لفظ أنزلنا ولم يستعمل في كل ما يصنع أنزلنا فلم يقل : أنزلنا الدور وأنزلنا الطبخ ونحو ذلك وهو لم يقل إنا أنزلنا كل لباس ورياش وقد قيل : إن الريش والرياش المراد به اللباس الفاخر كلاهما بمعنى واحد مثل اللبس واللباس وقد قيل : هما المال والخصب والمعاش وارتاش فلان حسنت حالته .
والصحيح أن " الريش " هو الأثاث والمتاع قال أبو عمر والعرب تقول : أعطاني فلان ريشه أي كسوته وجهازه . وقال غيره : الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من المتاع والثياب والفرش ونحوها وبعض المفسرين أطلق عليه لفظ المال والمراد به مال مخصوص قال ابن زيد : جمالا ؛ وهذا لأنه مأخوذ من ريش الطائر وهو ما يروش به ويدفع عنه الحر والبرد وجمال الطائر ريشه وكذلك ما يبيت فيه الإنسان من الفرش وما يبسطه تحته ونحو ذلك والقرآن مقصوده جنس اللباس الذي يلبس على البدن وفي البيوت كما قال تعالى { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } الآية
فامتن سبحانه عليهم بما ينتفعون به من الأنعام في اللباس والأثاث وهذا - والله أعلم - معنى إنزاله ؛ فإنه ينزله من ظهور الأنعام وهو كسوة الأنعام من الأصواف والأوبار والأشعار وينتفع به بنو آدم من اللباس والرياش . فقد أنزلها عليهم وأكثر أهل الأرض كسوتهم من جلود الدواب فهي لدفع الحر والبرد وأعظم مما يصنع من القطن والكتان والله تعالى ذكر في سورة النحل إنعامه على عباده فذكر في أول السورة أصول النعم التي لا يعيش بنو آدم إلا بها وذكر في أثنائها تمام النعم التي لا يطيب عيشهم إلا بها فذكر في أولها الرزق الذي لا بد لهم منه وذكر ما يدفع البرد من الكسوة بقوله : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون }

ثم في أثناء السورة ذكر لهم المساكن والمنافع التي يسكنونها : مساكن الحاضرة والبادية ومساكن المسافرين فقال تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } الآية ثم ذكر إنعامه بالظلال التي تقيهم الحر والبأس فقال : { والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا } إلى قوله : { كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون } . ولم يذكر هنا ما يقي من البرد لأنه قد ذكره في أول السورة وذلك في أصول النعم ؛ لأن البرد يقتل فلا يقدر أحد أن يعيش في البلاد الباردة بلا دفء بخلاف الحر فإنه أذى لكنه لا يقتل كما يقتل البرد فإن الحر قد يتقى بالظلال واللباس وغيرهما وأهله أيضا لا يحتاجون إلى وقاية كما يحتاج إليه البرد ؛ بل أدنى وقاية تكفيهم وهم في الليل وطرفي النهار لا يتأذون به تأذيا كثيرا ؛ بل لا يحتاجون إليه أحيانا حاجة قوية فجمع بينهما في قوله { سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم } .
ولا حذف في اللفظ ولا قصور في المعنى كما يظنه من لم يحسن حقائق معاني القرآن ؛ بل لفظه أتم لفظ ومعناه أكمل المعاني ؛ فإذا كان اللباس والرياش ينزل من ظهور الأنعام وكسوة الأنعام منزلة من الأصلاب والبطون كما تقدم فهو منزل من الجهتين فإنه على ظهور الأنعام لا ينتفع به بنو آدم حتى ينزل . فقد تبين أنه ليس في القرآن ولا في السنة لفظ نزول إلا وفيه معنى النزول المعروف وهذا هو اللائق بالقرآن فإنه نزل بلغة العرب ولا تعرف العرب نزولا إلا بهذا المعنى ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطابا بغير لغتها ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى في معنى آخر بلا بيان وهذا لا يجوز بما ذكرنا ؛ وبهذا يحصل مقصود القرآن واللغة الذي أخبر الله تعالى أنه بينه وجعله هدى للناس وليكن هذا آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا .


مكتبة مشكاة الإسلامية
نقلاً عن موقع الإسلام

.....يتبع

سقراط 17-07-04 10:30 PM

الرسالة الأكملية
شيخ الإسلام ابن تيمية

مكتبة مشكاة الإسلامية

سئل شيخ الإسلام : - قدس الله روحه
قال السائل : المسئول من علماء الإسلام والسادة الأعلام - أحسن الله ثوابهم وأكرم نزلهم ومآبهم - أن يرفعوا حجاب الإجمال ويكشفوا قناع الإشكال عن " مقدمة " جميع أرباب الملل والنحل متفقون عليها ومستندون في آرائهم إليها ؛ حاشا مكابرا منهم معاندا وكافرا بربوبية الله جاحدا . وهي أن يقال : " هذه صفة كمال فيجب لله إثباتها وهذه صفة نقص فيتعين انتفاؤها " لكنهم في تحقيق مناطها في أفراد الصفات متنازعون وفي تعيين الصفات لأجل القسمين مختلفون . " فأهل السنة " يقولون : إثبات السمع والبصر والحياة والقدرة والعلم والكلام وغيرها من " الصفات الخبرية " كالوجه واليدين والعينين والغضب والرضا و " الصفات الفعلية " - كالضحك والنزول والاستواء - صفات كمال وأضدادها صفات نقصان . " والفلاسفة " تقول : اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره فيكون ناقصا بذاته وإن أوجب له نقصا لم يجز اتصافه بها . " والمعتزلة " يقولون : لو قامت بذاته صفات وجودية لكان مفتقرا إليها وهي مفتقرة إليه فيكون الرب مفتقرا إلى غيره ؛ ولأنها أعراض لا تقوم إلا بجسم . والجسم مركب والمركب ممكن محتاج وذلك عين النقص . ويقولون أيضا : لو قدر على العباد أعمالهم وعاقبهم عليها : كان ظالما وذلك نقص . وخصومهم يقولون : لو كان في ملكه ما لا يريده لكان ناقصا . " والكلابية ومن تبعهم " ينفون صفات أفعاله ويقولون : لو قامت به لكان محلا للحوادث . والحادث إن أوجب له كمالا فقد عدمه قبله وهو نقص وإن لم يوجب له كمالا لم يجز وصفه به . " وطائفة منهم " ينفون صفاته الخبرية لاستلزامها التركيب المستلزم للحاجة والافتقار . وهكذا نفيهم أيضا لمحبته لأنها مناسبة بين المحب والمحبوب ومناسبة الرب للخلق نقص : وكذا رحمته لأن الرحمة رقة تكون في الراحم وهي ضعف وخور في الطبيعة وتألم على المرحوم وهو نقص . وكذا غضبه لأن الغضب غليان دم القلب طلبا للانتقام . وكذا نفيهم لضحكه وتعجبه لأن الضحك خفة روح تكون لتجدد ما يسر واندفاع ما يضر . والتعجب استعظام للمتعجب منه . و " منكرو النبوات " يقولون : ليس الخلق بمنزلة أن يرسل إليهم رسولا كما أن أطراف الناس ليسوا أهلا أن يرسل السلطان إليهم رسولا . و " المشركون " يقولون : عظمة الرب وجلاله يقتضي أن لا يتقرب إليه إلا بواسطة وحجاب فالتقرب إليه ابتداء من غير شفاء ووسائط غض من جنابه الرفيع . هذا وإن القائلين بهذه " المقدمة " لا يقولون بمقتضاها ولا يطردونها فلو قيل لهم : أيما أكمل ؟ ذات توصف بسائر أنواع الإدراكات : من الشم والذوق واللمس أم ذات لا توصف بها كلها ؟ لقالوا الأولى أكمل ولم يصفوا بها كلها الخالق . و ( بالجملة فالكمال والنقص من الأمور النسبية والمعاني الإضافية فقد تكون الصفة كمالا لذات ونقصا لأخرى وهذا نحو الأكل والشرب والنكاح : كمال للمخلوق نقص للخالق وكذا التعاظم والتكبر والثناء على النفس : كمال للخالق نقص للمخلوق وإذا كان الأمر كذلك فلعل ما تذكرونه من صفات الكمال إنما يكون كمالا بالنسبة إلى الشاهد ولا يلزم أن يكون كمالا للغائب كما بين ؛ لا سيما مع تباين الذاتين . وإن قلتم : نحن نقطع النظر عن متعلق الصفة وننظر فيها هل هي كمال أو نقص ؟ فلذلك نحيل الحكم عليها بأحدهما لأنها قد تكون كمالا لذات نقصا لأخرى على ما ذكر . وهذا من العجب أن " مقدمة " وقع عليها الإجماع هي منشأ الاختلاف والنزاع فرضي الله عمن بين لنا بيانا يشفي العليل ويجمع بين معرفة الحكم وإيضاح الدليل إنه تعالى سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
فأجاب رضي الله عنه الحمد لله . الجواب عن هذا السؤال مبني على " مقدمتين " . ( إحداهما أن يعلم أن الكمال ثابت لله بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابت للرب تعالى يستحقه بنفسه المقدسة وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه ؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية مع دلالة السمع على ذلك . ودلالة القرآن على الأمور ( نوعان : ( أحدهما خبر الله الصادق فما أخبر الله ورسوله به فهو حق كما أخبر الله به . و ( الثاني دلالة القرآن بضرب الأمثال وبيان الأدلة العقلية الدالة على المطلوب . فهذه دلالة شرعية عقلية فهي " شرعية " لأن الشرع دل عليها وأرشد إليها ؛ و " عقلية " لأنها تعلم صحتها بالعقل . ولا يقال : إنها لم تعلم إلا بمجرد الخبر . وإذا أخبر الله بالشيء ودل عليه بالدلالات العقلية : صار مدلولا عليه بخبره . ومدلولا عليه بدليله العقلي الذي يعلم به فيصير ثابتا بالسمع والعقل وكلاهما داخل في دلالة القرآن التي تسمى " الدلالة الشرعية " . وثبوت " معنى الكمال " قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة دالة على معاني متضمنة لهذا المعنى . فما في القرآن من إثبات الحمد له وتفصيل محامده وأن له المثل الأعلى وإثبات معاني أسمائه ونحو ذلك : كله دال على هذا المعنى . وقد ثبت لفظ " الكامل " فيما رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } أن " الصمد " هو المستحق للكمال وهو السيد الذي كمل في سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته والحكم الذي قد كمل في حكمه والغني الذي قد كمل في غناه والجبار الذي قد كمل في جبروته والعالم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الشريف الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله سبحانه وتعالى . وهذه صفة لا تنبغي إلا له ليس له كفؤ ولا كمثله شيء . وهكذا سائر صفات الكمال ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى ؛ بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس ؛ بل هم مفطورون عليه فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق ؛ فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء . وقد بينا في غير هذا الموضع أن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطريا ضروريا في حق من سلمت فطرته وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها . وأما لفظ " الكامل " : فقد نقل الأشعري عن الجبائي أنه كان يمنع أن يسمى الله كاملا ويقول : الكامل الذي له أبعاض مجتمعة . وهذا النزاع إن كان في المعنى فهو باطل ؛ وإن كان في اللفظ فهو نزاع لفظي . و ( المقصود هنا أن ثبوت الكمال له ونفي النقائص عنه مما يعلم بالعقل . وزعمت " طائفة من أهل الكلام " كأبي المعالي والرازي والآمدي وغيرهم : أن ذلك لا يعلم إلا بالسمع الذي هو " الإجماع " وأن نفي الآفات والنقائص عنه لم يعلم إلا بالإجماع وجعلوا الطريق التي بها نفوا عنه ما نفوه إنما هو نفي مسمى الجسم ونحو ذلك ؛ وخالفوا ما كان عليه شيوخ متكلمة الصفاتية ؛ كالأشعري والقاضي وأبي بكر وأبي إسحاق ومن قبلهم من السلف والأئمة في إثبات السمع والبصر والكلام له بالأدلة العقلية وتنزيهه عن النقائص بالأدلة العقلية . ولهذا صار هؤلاء يعتمدون في إثبات هذه الصفات على مجرد السمع ويقولون : إذا كنا نثبت هذه الصفات بناء على نفي الآفات ونفي الآفات إنما يكون بالإجماع الذي هو دليل سمعي والإجماع إنما يثبت بأدلة سمعية من الكتاب والسنة قالوا : والنصوص المثبتة للسمع والبصر والكلام : أعظم من الآيات الدالة على كون الإجماع حجة فالاعتماد في إثباتها ابتداء على الدليل السمعي الذي هو القرآن أولى وأحرى . والذي اعتمدوا عليه في النفي من نفي مسمى التحيز ونحوه - مع أنه بدعة في الشرع لم يأت به كتاب ولا سنة ؛ ولا أثر عن أحد من الصحابة والتابعين - هو متناقض في العقل لا يستقيم في العقل ؛ فإنه ما من أحد ينفي شيئا خوفا من كون ذلك يستلزم أن يكون الموصوف به جسما إلا قيل له فيما أثبته نظير ما قاله فيما نفاه ؛ وقيل له فيما نفاه نظير ما يقوله فيما أثبته ؛ كالمعتزلة لما أثبتوا أنه حي عليم قدير ؛ وقالوا : إنه لا يوصف بالحياة والعلم والقدرة والصفات ؛ لأن هذه أعراض لا يوصف بها إلا ما هو جسم ؛ ولا يعقل موصوف إلا جسم . فقيل لهم : فأنتم وصفتموه بأنه حي عليم قدير ولا يوصف شيء بأنه عليم حي قدير إلا ما هو جسم ولا يعقل موصوف بهذه الصفات إلا ما هو جسم فما كان جوابكم عن الأسماء كان جوابنا عن الصفات فإن جاز أن يقال بل يسمى بهذه الأسماء ما ليس بجسم جاز أن يقال : فكذلك يوصف بهذه الصفات ما ليس بجسم وأن يقال : هذه الصفات ليست أعراضا وإن قيل : لفظ الجسم " مجمل " أو " مشترك " وأن المسمى بهذه الأسماء لا يجب أن يماثله غيره ولا أن يثبت له خصائص غيره ؛ جاز أن يقال : الموصوف بهذه الصفات لا يجب أن يماثله غيره ولا أن يثبت له خصائص غيره . وكذلك إذا قال نفاة الصفات المعلومة بالشرع أو بالعقل مع الشرع كالرضا والغضب والحب والفرح ونحو ذلك : هذه الصفات لا تعقل إلا لجسم . قيل لهم هذه بمنزلة الإرادة والسمع : والبصر والكلام فما لزم في أحدهما لزم في الآخر مثله . وهكذا نفاة الصفات من الفلاسفة ونحوهم إذا قالوا ثبوت هذه الصفات يستلزم كثرة المعاني فيه وذلك يستلزم كونه جسما أو مركبا قيل لهم : هذا كما أثبتم أنه موجود واجب قائم بنفسه وأنه عاقل ومعقول وعقل ولذيذ وملتذ ولذة وعاشق ومعشوق وعشق ونحو ذلك . فإن قالوا : هذه ترجع إلى معنى واحد قيل لهم : إن كان هذا ممتنعا بطل الفرق وإن كان ممكنا أمكن أن يقال في تلك مثل هذه فلا فرق بين صفة وصفة . والكلام على ثبوت الصفات وبطلان أقوال النفاة مبسوط في غير هذا الموضع . والمقصود هنا : أن نبين أن ثبوت الكمال لله معلوم بالعقل وأن نقيض ذلك منتف عنه فإن الاعتماد في الإثبات والنفي على هذه الطريق مستقيم في العقل والشرع ؛ دون تلك خلاف ما قاله هؤلاء المتكلمون . وجمهور أهل الفلسفة والكلام : يوافقون على أن الكمال لله ثابت بالعقل والفلاسفة تسميه التمام وبيان ذلك من وجوه : - ( منها أن يقال : قد ثبت أن الله قديم بنفسه واجب الوجود بنفسه قيوم بنفسه خالق بنفسه إلى غير ذلك من خصائصه . والطريقة المعروفة في وجوب الوجود تقال في جميع هذه المعاني . فإذا قيل : الوجود إما واجب وإما ممكن والممكن لا بد له من واجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين فهو مثل أن يقال : الموجود إما قديم وإما حادث والحادث لا بد له من قديم فيلزم ثبوت القديم على التقديرين والموجود إما غني وإما فقير والفقير لا بد له من الغني فلزم وجود الغني على التقديرين . والموجود إما قيوم بنفسه وإما غير قيوم وغير القيوم لا بد له من القيوم ؛ فلزم ثبوت القيوم على التقديرين . والموجود إما مخلوق وإما غير مخلوق والمخلوق لا بد له من خالق غير مخلوق ؛ فلزم ثبوت الخالق غير المخلوق على التقديرين ونظائر ذلك متعددة . ثم يقال : هذا الواجب القديم الخالق إما أن يكون ثبوت الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود ممكنا له وإما أن لا يكون . والثاني ممتنع ؛ لأن هذا ممكن للموجود المحدث الفقير الممكن ؛ فلأن يمكن للواجب الغني القديم بطريق الأولى والأحرى ؛ فإن كلاهما موجود . والكلام في الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه . فإذا كان الكمال الممكن الوجود ممكنا للمفضول فلأن يمكن للفاضل بطريق الأولى ؛ لأن ما كان ممكنا لما هو في وجوده ناقص فلأن يمكن لما هو في وجوده أكمل منه بطريق الأولى لا سيما وذلك أفضل من كل وجه فيمتنع اختصاص المفضول من كل وجه بكمال لا يثبت للأفضل من كل وجه بل ما قد ثبت من ذلك للمفضول فالفاضل أحق به ؛ فلأن يثبت للفاضل بطريق الأولى . ولأن ذلك الكمال إنما استفاده المخلوق من الخالق والذي جعل غيره كاملا هو أحق بالكمال منه ؛ فالذي جعل غيره قادرا أولى بالقدرة والذي علم غيره أولى بالعلم والذي أحيا غيره أولى بالحياة . والفلاسفة توافق على هذا ويقولون : كل كمال للمعلول فهو من آثار العلة والعلة أولى به . وإذا ثبت إمكان ذلك له ؛ فما جاز له من ذلك الكمال الممكن الوجود فإنه واجب له لا يتوقف على غيره فإنه لو توقف على غيره لم يكن موجودا له إلا بذلك الغير وذلك الغير إن كان مخلوقا له لزم " الدور القبلي " الممتنع ؛ فإن ما في ذلك الغير من الأمور الوجودية فهي منه ويمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلا للآخر وهذا هو " الدور القبلي " فإن الشيء يمتنع أن يكون فاعلا لنفسه فلأن يمتنع أن يكون فاعلا لفاعله بطريق الأولى والأحرى . وكذلك يمتنع أن يكون كل من الشيئين فاعلا لما به يصير الآخر فاعلا ويمتنع أن يكون كل من الشيئين معطيا للآخر كماله ؛ فإن معطي الكمال أحق بالكمال ؛ فيلزم أن يكون كل منهما أكمل من الآخر وهذا ممتنع لذاته فإن كون هذا أكمل يقتضي أن هذا أفضل من هذا وهذا أفضل من هذا وفضل أحدهما يمنع مساواة الآخر له فلأن يمنع كون الآخر أفضل بطريق الأولى . وأيضا فلو كان كماله موقوفا على ذلك الغير : للزم أن يكون كماله موقوفا على فعله لذلك الغير وعلى معاونة ذلك الغير في كماله ومعاونة ذلك الغير في كماله موقوف عليه ؛ إذ فعل ذلك الغير وأفعاله موقوفة على فعل المبدع لا تفتقر إلى غيره فيلزم أن لا يكون كماله موقوفا على غيره . فإذا قيل : كماله موقوف على مخلوقه : لزم أن لا يتوقف على مخلوقه وما كان ثبوته مستلزما لعدمه كان باطلا من نفسه . وأيضا فذلك الغير كل كمال له فمنه وهو أحق بالكمال منه ولو قيل يتوقف كماله عليه لم يكن متوقفا إلا على ما هو من نفسه وذلك متوقف عليه لا على غيره . وإن قيل : ذلك الغير ليس مخلوقا بل واجبا آخر قديما بنفسه . فيقال : إن كان أحد هذين هو المعطي دون العكس فهو الرب والآخر عبده . وإن قيل : بل كل منهما يعطي للآخر الكمال : لزم " الدور في التأثير " وهو باطل وهو من " الدور القبلي " لا من " الدور المعي الاقتراني " فلا يكون هذا كاملا حتى يجعله الآخر كاملا والآخر لا يجعله كاملا حتى يكون في نفسه كاملا ؛ لأن جاعل الكامل كاملا أحق بالكمال ولا يكون الآخر كاملا حتى يجعله كاملا فلا يكون واحد منهما كاملا بالضرورة ؛ فإنه لو قيل لا يكون كاملا حتى يجعل نفسه كاملا ولا يجعل نفسه كاملا حتى يكون كاملا لكان ممتنعا ؛ فكيف إذا قيل حتى يجعل ما يجعله كاملا كاملا . وإن قيل : كل واحد له آخر يكمله إلى غير نهاية : لزم " التسلسل في المؤثرات " وهو باطل بالضرورة واتفاق العقلاء . فإن تقدير مؤثرات لا تتناهى : ليس فيها مؤثر بنفسه لا يقتضي وجود شيء منها ولا وجود جميعها ولا وجود اجتماعها والمبدع للموجودات لا بد أن يكون موجودا بالضرورة . فلو قدر أن هذا كامل فكماله ليس من نفسه بل من آخر وهلم جرا ؛ للزم أن لا يكون لشيء من هذه الأمور كمال ؛ ولو قدر أن الأول كامل لزم الجمع بين النقيضين وإذا كان كماله بنفسه لا يتوقف على غيره : كان الكمال له واجبا بنفسه وامتنع تخلف شيء من الكمال الممكن عنه ؛ بل ما جاز له من الكمال وجب له كما أقر بذلك الجمهور من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام والفلسفة وغيرهم ؛ بل هذا ثابت في مفعولاته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكان ممتنعا بنفسه أو ممتنعا لغيره ؛ فما ثم إلا موجود واجب إما بنفسه وإما بغيره أو معدوم إما لنفسه وإما لغيره والممكن إن حصل مقتضيه التام : وجب بغيره وإلا كان ممتنعا لغيره ؛ والممكن بنفسه : إما واجب لغيره وإما ممتنع لغيره . وقد بين الله سبحانه أنه أحق بالكمال من غيره وأن غيره لا يساويه في الكمال في مثل قوله تعالى { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } ؟ وقد بين أن الخلق صفة كمال وأن الذي يخلق أفضل من الذي لا يخلق وأن من عدل هذا بهذا فقد ظلم . وقال تعالى : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون } فبين أن كونه مملوكا عاجزا صفة نقص وأن القدرة والملك والإحسان صفة كمال وأنه ليس هذا مثل هذا وهذا لله و [ ذاك ] لما يعبد من دونه . وقال تعالى : { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } وهذا مثل آخر . فالأول مثل العاجز عن الكلام وعن الفعل الذي لا يقدر على شيء . والآخر المتكلم الآمر بالعدل الذي هو على صراط مستقيم فهو عادل في أمره مستقيم في فعله . فبين أن التفضيل بالكلام المتضمن للعدل والعمل المستقيم فإن مجرد الكلام والعمل قد يكون محمودا وقد يكون مذموما . فالمحمود هو الذي يستحق صاحبه الحمد فلا يستوي هذا والعاجز عن الكلام والفعل . وقال تعالى : { ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون } . يقول تعالى : إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك يشارك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم فكيف ترضون ذلك لي وأنا أحق بالكمال والغنى منكم ؟ . وهذا يبين أنه تعالى أحق بكل كمال من كل أحد وهذا كقوله : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم } { يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون } { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } { ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون } حيث كانوا يقولون : الملائكة بنات الله وهم يكرهون أن يكون لأحدهم بنت فيعدون هذا نقصا وعيبا . والرب تعالى أحق بتنزيهه عن كل عيب ونقص منكم ؛ فإن له " المثل الأعلى " فكل كمال ثبت للمخلوق : فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان مجردا عن النقص وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص وعيب : فالخالق أولى بتنزيهه عنه . وقال تعالى : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } وهذا يبين أن العالم أكمل ممن لا يعلم . وقال تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير } { ولا الظلمات ولا النور } { ولا الظل ولا الحرور } فبين أن البصير أكمل والنور أكمل والظل أكمل ؛ وحينئذ فالمتصف به أولى . { ولله المثل الأعلى } . وقال تعالى : { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } فدل ذلك على أن عدم التكلم والهداية نقص وأن الذي يتكلم ويهدي : أكمل ممن لا يتكلم ولا يهدي والرب أحق بالكمال . وقال تعالى : { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون } فبين سبحانه بما هو مستقر في الفطر أن الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع ممن لا يهتدي إلا أن يهديه غيره ؛ فلزم أن يكون الهادي بنفسه هو الكامل ؛ دون الذي لا يهتدي إلا بغيره . وإذا كان لا بد من وجود الهادي لغير المهتدي بنفسه فهو الأكمل وقال تعالى في الآية الأخرى : { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا } فدل على أن الذي يرجع إليه القول ويملك الضر والنفع : أكمل منه . وقال إبراهيم لأبيه : { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } فدل على أن السميع البصير الغني أكمل وأن المعبود يجب أن يكون كذلك . ومثل هذا في القرآن متعدد من وصف الأصنام بسلب " صفات الكمال " كعدم التكلم والفعل وعدم الحياة ونحو ذلك مما يبين أن المتصف بذلك منتقص معيب كسائر الجمادات وأن هذه الصفات لا تسلب إلا عن ناقص معيب . وأما " رب الخلق " الذي هو أكمل من كل موجود فهو أحق الموجودات بصفات الكمال وأنه لا يستوي المتصف بصفات الكمال والذي لا يتصف بها ؛ وهو يذكر أن الجمادات في العادة لا تقبل الاتصاف بهذه الصفات . فمن جعل الواجب الوجود لا يقبل الاتصاف : فقد جعله من جنس الأصنام الجامدة التي عابها الله تعالى وعاب عابديها . ولهذا كانت " القرامطة الباطنية " من أعظم الناس شركا وعبادة لغير الله ؛ إذ كانوا لا يعتقدون في إلههم أنه يسمع أو يبصر أو يغني عنهم شيئا . والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص لمجرد تقرير صفات الكمال له بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه فأفاد ( الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد : وهما إثبات صفات الكمال ردا على أهل التعطيل وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو ردا على المشركين . والشرك في العالم أكثر من التعطيل ؛ ولا يلزم من إثبات " التوحيد " المنافي للإشراك إبطال قول أهل التعطيل ؛ ولا يلزم من مجرد الإثبات المبطل لقول المعطلة الرد على المشركين إلا ببيان آخر . والقرآن يذكر فيه الرد على المعطلة تارة ؛ كالرد على فرعون وأمثاله ؛ ويذكر فيه الرد على المشركين وهذا أكثر لأن القرآن شفاء لما في الصدور . ومرض الإشراك أكثر في الناس من مرض التعطيل وأيضا فإن الله سبحانه أخبر أن له الحمد وأنه حميد مجيد وأن له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم ونحو ذلك من أنواع المحامد . و " الحمد نوعان " : حمد على إحسانه إلى عباده . وهو من الشكر ؛ وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال وهي أمور وجودية فإن الأمور العدمية المحضة لا حمد فيها ولا خير ولا كمال . ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ما له من صفات الكمال فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة وهو أحق من كل محمود بالحمد والكمال من كل كامل وهو المطلوب .

فصل : وأما " المقدمة الثانية " فنقول :
لا بد من اعتبار أمرين :
أحدهما : أن يكون الكمال ممكن الوجود . و
الثاني : أن يكون سليما عن النقص ؛ فإن النقص ممتنع على الله لكن بعض الناس قد يسمي ما ليس بنقص نقصا ؛ فهذا يقال له إنما الواجب إثبات ما أمكن ثبوته من الكمال السليم عن النقص فإذا سميت أنت هذا نقصا وقدر أن انتفاءه يمتنع لم يكن نقصه من الكمال الممكن ولم يكن هذا عند من سماه نقصا من النقص الممكن انتفاؤه . فإذا قيل : خلق المخلوقات في الأزل صفة كمال فيجب أن تثبت له قيل : وجود المخلوقات كلها أو واحد منها يستلزم الحوادث كلها ؛ أو واحد منها في الأزل ممتنع . ووجود الحوادث المتعاقبة كلها في آن واحد ممتنع سواء قدر ذلك الآن ماضيا أو مستقبلا ؛ فضلا عن أن يكون أزليا وما يستلزم الحوادث المتعاقبة يمتنع وجوده في آن واحد فضلا عن أن يكون أزليا فليس هذا ممكن الوجود فضلا عن أن يكون كمالا ؛ لكن فعل الحوادث شيئا بعد شيء أكمل من التعطيل عن فعلها بحيث لا يحدث شيئا بعد أن لم يكن ؛ فإن الفاعل القادر على الفعل أكمل من الفاعل العاجز عن الفعل . فإذا قيل : لا يمكنه إحداث الحوادث بل مفعوله لازم لذاته : كان هذا نقصا بالنسبة إلى القادر الذي يفعل شيئا بعد شيء وكذلك إذا قيل : جعل الشيء الواحد متحركا ساكنا موجودا معدوما صفة كمال قيل هذا ممتنع لذاته . وكذلك إذا قيل : إبداع قديم واجب بنفسه صفة كمال . قيل : هذا ممتنع لنفسه فإن كونه مبدعا يقتضي أن لا يكون واجبا بنفسه ؛ بل واجبا بغيره ؛ فإذا قيل هو واجب موجود بنفسه وهو لم يوجد إلا بغيره : كان هذا جمعا بين النقيضين . وكذلك إذا قيل : الأفعال القائمة والمفعولات المنفصلة عنه - إذا كان اتصافه بها صفة كمال فقد فاتته في الأزل ؛ وإن كان صفة نقص فقد لزم اتصافه بالنقائص . قيل : الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته يمتنع أن يكون كل منها أزليا . وأيضا : فلا يلزم أن يكون وجود هذه في الأزل صفة كمال ؛ بل الكمال أن توجد حيث اقتضت الحكمة وجودها . وأيضا : فلو كانت أزلية لم تكن موجودة شيئا بعد شيء . فقول القائل : فيما حقه أن يوجد شيئا بعد شيء فينبغي أن يكون في الأزل : جمع بين النقيضين . وأمثال هذا كثير . فلهذا قلنا الكمال الممكن الوجود ؛ فما هو ممتنع في نفسه فلا حقيقة له ؛ فضلا عن أن يقال : هو موجود . أو يقال : هو كمال للموجود . وأما الشرط الآخر وهو قولنا : الكمال الذي لا يتضمن نقصا - على التعبير بالعبارة السديدة - أو الكمال الذي لا يتضمن نقصا يمكن انتفاؤه - على عبارة من يجعل ما ليس بنقص نقصا . فاحترز عما هو لبعض المخلوقات كمال دون بعض وهو نقص بالإضافة إلى الخالق لاستلزامه نقصا - كالأكل والشرب مثلا . فإن الصحيح الذي يشتهي الأكل والشرب من الحيوان أكمل من المريض الذي لا يشتهي الأكل والشرب لأن قوامه بالأكل والشرب . فإذا قدر غير قابل له : كان ناقصا عن القابل لهذا الكمال ؛ لكن هذا يستلزم حاجة الآكل والشارب إلى غيره وهو ما يدخل فيه من الطعام والشراب وهو مستلزم لخروج شيء منه كالفضلات وما لا يحتاج إلى دخول شيء فيه أكمل ممن يحتاج إلى دخول شيء فيه وما يتوقف كماله على غيره أنقص مما لا يحتاج في كماله إلى غيره فإن الغني عن شيء أعلى من الغني به . والغني بنفسه أكمل من الغني بغيره . ولهذا كان من الكمالات ما هو كمال للمخلوق وهو نقص بالنسبة إلى الخالق وهو كل ما كان مستلزما لإمكان العدم عليه المنافي لوجوبه وقيوميته أو مستلزما للحدوث المنافي لقدمه أو مستلزما لفقره المنافي لغناه .

فصل : إذا تبين هذا :
تبين أن ما جاء به " الرسول " هو الحق الذي يدل عليه المعقول وأن أولى الناس بالحق أتبعهم له وأعظمهم له موافقة " وهم سلف الأمة وأئمتها " الذين أثبتوا ما دل عليه الكتاب والسنة من الصفات ونزهوه عن مماثلة المخلوقات . فإن الحياة والعلم والقدرة . والسمع والبصر والكلام : صفات كمال ممكنة بالضرورة ولا نقص فيها فإن من اتصف بهذه الصفات فهو أكمل ممن لا يتصف بها ؛ والنقص في انتفائها لا في ثبوتها ؛ والقابل للاتصاف بها كالحيوان أكمل ممن لا يقبل الاتصاف بها كالجمادات . وأهل الإثبات يقولون للنفاة : لو لم يتصف بهذه الصفات لاتصف بأضدادها من الجهل والبكم والعمى والصمم . فقال لهم النفاة : هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب والمتقابلان تقابل العدم والملكة إنما يلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر إذا كان المحل قابلا لهما كالحيوان الذي لا يخلو إما أن يكون أعمى وإما أن يكون بصيرا ؛ لأنه قابل لهما بخلاف الجماد فإنه لا يوصف لا بهذا ولا بهذا . فيقول لهم أهل الإثبات : هذا باطل من وجوه : ( أحدها أن يقال : الموجودات " نوعان " : نوع يقبل الاتصاف بالكمال كالحي . ونوع لا يقبله كالجماد . ومعلوم أن القابل للاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبل ذلك . وحينئذ : فالرب إن لم يقبل الاتصاف بصفات الكمال لزم انتفاء اتصافه بها وأن يكون القابل لها - وهو الحيوان الأعمى الأصم الذي لا يقبل السمع والبصر - أكمل منه فإن القابل للسمع والبصر - في حال عدم ذلك - أكمل ممن لا يقبل ذلك . فكيف المتصف بها فلزم من ذلك أن يكون مسلوبا لصفات الكمال - على قولهم - ممتنعا عليه صفات الكمال . فأنتم فررتم من تشبيهه بالأحياء : فشبهتموه بالجمادات وزعمتم أنكم تنزهونه عن النقائص : فوصفتموه بما هو أعظم النقص . ( الوجه الثاني أن يقال : هذا التفريق بين السلب والإيجاب وبين العدم والملكة : أمر اصطلاحي ؛ وإلا فكل ما ليس بحي فإنه يسمى ميتا كما قال تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } . ( الوجه الثالث أن يقال : نفس سلب هذه الصفات نقص وإن لم يقدر هناك ضد ثبوتي فنحن نعلم بالضرورة أن ما يكون حيا عليما قديرا متكلما سميعا بصيرا أكمل ممن لا يكون كذلك وأن ذلك لا يقال سميع ولا أصم كالجماد وإذا كان مجرد إثبات هذه الصفات من الكمال ومجرد سلبها من النقص : وجب ثبوتها لله تعالى ؛ لأنه كمال ممكن للموجود ولا نقص فيه بحال ؛ بل النقص في عدمه . وكذلك إذا قدرنا موصوفين بهذه الصفات . ( أحدهما يقدر على التصرف بنفسه ؛ فيأتي ويجيء وينزل ويصعد ونحو ذلك من أنواع الأفعال القائمة به ( والآخر يمتنع ذلك منه فلا يمكن أن يصدر منه شيء من هذه الأفعال : كان هذا القادر على الأفعال التي تصدر عنه أكمل ممن يمتنع صدورها عنه . وإذا قيل قيام هذه الأفعال يستلزم قيام الحوادث به : كان كما إذا قيل قيام الصفات به يستلزم قيام الأعراض به . ولفظ ( الأعراض والحوادث لفظان مجملان فإن أريد بذلك ما يعقله أهل اللغة من أن الأعراض والحوادث هي الأمراض والآفات كما يقال : فلان قد عرض له مرض شديد وفلان قد أحدث حدثا عظيما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } وقال : { لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا } وقال : { إذا أحدث أحدكم فلا يصلي حتى يتوضأ } . ويقول الفقهاء : الطهارة " نوعان " طهارة الحدث وطهارة الخبث . ويقول أهل الكلام : اختلف الناس في " أهل الأحداث " من أهل القبلة : كالربا والسرقة وشرب الخمر . ويقال فلان به عارض من الجن وفلان حدث له مرض . فهذه من النقائص التي ينزه الله عنها . وإن أريد بالأعراض والحوادث اصطلاح خاص فإنما أحدث ذلك الاصطلاح من أحدثه من أهل الكلام وليست هذه لغة العرب ولا لغة أحد من الأمم ؛ لا لغة القرآن ولا غيره ؛ ولا العرف العام ولا اصطلاح أكثر الخائضين في العلم ؛ بل مبتدعو هذا الاصطلاح : هم من أهل البدع المحدثين في الأمة الداخلين في ذم النبي صلى الله عليه وسلم . وبكل حال فمجرد هذا الاصطلاح وتسمية هذه أعراضا وحوادث : لا يخرجها عن أنها من الكمال الذي يكون المتصف به أكمل ممن لا يمكنه الاتصاف بها . أو يمكنه ذلك ولا يتصف به . و " أيضا " فإذا قدر اثنان أحدهما موصوف بصفات الكمال التي هي أعراض وحوادث على اصطلاحهم ؛ كالعلم والقدرة والفعل والبطش والآخر يمتنع أن يتصف بهذه الصفات التي هي أعراض وحوادث : كان الأول أكمل كما أن الحي المتصف بهذه الصفات : أكمل من الجمادات . وكذلك إذا قدر " اثنان " أحدهما يحب نعوت الكمال ويفرح بها ويرضاها والآخر لا فرق عنده بين صفات الكمال وصفات النقص ؛ فلا يحب لا هذا ولا هذا ولا يرضى لا هذا ولا هذا ولا يفرح لا بهذا ولا بهذا : كان الأول أكمل من الثاني . ومعلوم أن الله تبارك وتعالى يحب المحسنين والمتقين والصابرين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهذه كلها صفات كمال . وكذلك إذا قدر اثنان : أحدهما ببعض المتصف بضد الكمال كالظلم والجهل والكذب ويغضب على من يفعل ذلك والآخر لا فرق عنده بين الجاهل الكاذب الظالم وبين العالم الصادق العادل لا يبغض لا هذا ولا هذا ولا يغضب لا على هذا ولا على هذا : كان الأول أكمل . وكذلك إذا قدر اثنان أحدهما يقدر أن يفعل بيديه ويقبل بوجهه . والآخر لا يمكنه ذلك : إما لامتناع أن يكون له وجه ويدان وإما لامتناع الفعل والإقبال عليه باليدين والوجه : كان الأول أكمل . فالوجه واليدان : لا يعدان من صفات النقص في شيء مما يوصف بذلك ووجه كل شيء بحسب ما يضاف إليه وهو ممدوح به لا مذموم كوجه النهار ووجه الثوب ووجه القوم ووجه الخيل ووجه الرأي وغير ذلك ؛ وليس الوجه المضاف إلى غيره هو نفس المضاف إليه في شيء من موارد الاستعمال سواء قدر الاستعمال حقيقة أو مجازا . " فإن قيل " : من يمكنه الفعل بكلامه أو بقدرته بدون يديه أكمل ممن يفعل بيديه . قيل : من يمكنه الفعل بقدرته أو تكليمه إذا شاء وبيديه إذا شاء : هو أكمل ممن لا يمكنه الفعل إلا بقدرته أو تكليمه ولا يمكنه أن يفعل باليد . ولهذا كان " الإنسان " أكمل من الجمادات التي تفعل بقوى فيها كالنار والماء فإذا قدر اثنان أحدهما لا يمكنه الفعل إلا بقوة فيه والآخر يمكنه الفعل بقوة فيه وبكلامه فهذا أكمل . فإذا قدر آخر يفعل بقوة فيه وبكلامه وبيديه إذا شاء فهو أكمل وأكمل وأما صفات النقص فمثل النوم فإن الحي اليقظان أكمل من النائم والوسنان . والله لا تأخذه سنة ولا نوم وكذلك من يحفظ الشيء بلا اكتراث أكمل ممن يكرثه ذلك ؛ والله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما . وكذلك من يفعل ولا يتعب : أكمل ممن يتعب . والله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب . ولهذا وصف الرب بالعلم دون الجهل والقدرة دون العجز والحياة دون الموت والسمع والبصر والكلام دون الصمم والعمى والبكم والضحك دون البكاء والفرح دون الحزن . وأما الغضب مع الرضا والبغض مع الحب فهو أكمل ممن لا يكون منه إلا الرضا والحب دون البغض والغضب للأمور المذمومة التي تستحق أن تذم وتبغض . ولهذا كان اتصافه بأنه يعطي ويمنع ويخفض ويرفع ويعز ويذل : أكمل من اتصافه بمجرد الإعطاء والإعزاز والرفع ؛ لأن الفعل الآخر - حيث تقتضي الحكمة ذلك - أكمل مما لا يفعل إلا أحد النوعين ويخل بالآخر في المحل المناسب له ومن اعتبر هذا الباب وجده على قانون الصواب والله الهادي لأولي الألباب .

فصل :
وأما قول ملاحدة " المتفلسفة " وغيرهم : إن اتصافه بهذه الصفات إن أوجب له كمالا فقد استكمل بغيره فيكون ناقصا بذاته وإن أوجب له نقصا لم يجز اتصافه بها . فيقال : قد تقدم أن الكمال المعين هو الكمال الممكن الوجود الذي لا نقص فيه . وحينئذ فقول القائل يكون ناقصا بذاته إن أراد به أن يكون بدون هذه الصفات ناقصا فهذا حق ؛ لكن من هذا فررنا وقدرنا أنه لا بد من صفات الكمال وإلا كان ناقصا . وإن أراد به أنه إنما صار كاملا بالصفات التي اتصف بها فلا يكون كاملا بذاته المجردة عن هذه الصفات . فيقال أولا : هذا إنما يتوجه أنه لو أمكن وجود ذات مجردة عن هذه الصفات أو أمكن وجود ذات كاملة مجردة عن هذه الصفات فإذا كان أحد هذين ممتنعا امتنع كماله بدون هذه الصفات فكيف إذا كان كلاهما ممتنعا ؟ فإن وجود ذات كاملة بدون هذه الصفات ممتنع فإنا نعلم بالضرورة أن " الذات " التي لا تكون حية عليمة قديرة سميعة بصيرة متكلمة : ليست أكمل من الذات التي لا تكون حية عليمة سميعة بصيرة متكلمة . وإذا كان صريح العقل يقضي بأن الذات المسلوبة هذه الصفات ليست مثل الذات المتصفة ؛ فضلا عن أن تكون أكمل منها ويقضي بأن الذات المتصفة بها أكمل علم بالضرورة امتناع كمال الذات بدون هذه الصفات فإن قيل بعد ذلك لا تكون ذاته ناقصة مسلوبة الكمال إلا بهذه الصفات . قيل : الكمال بدون هذه الصفات ممتنع وعدم الممتنع ليس نقصا وإنما النقص عدم ما يمكن . وأيضا فإذا ثبت أنه يمكن اتصافه بالكمال وما اتصف به وجب له وامتنع تجرد ذاته عن هذه الصفات ؛ فكان تقدير ذاته منفكة عن هذه الصفات تقديرا ممتنعا . وإذا قدر للذات تقدير ممتنع وقيل إنها ناقصة بدونه : كان ذلك مما يدل على امتناع ذلك التقدير ؛ لا على امتناع نقيضه كما لو قيل : إذا مات كان ناقصا فهذا يقتضي وجوب كونه حيا كذلك إذا كان تقدير ذاته خالية عن هذه الصفات يوجب أن تكون ناقصة : كان ذلك مما يستلزم أن يوصف بهذه الصفات . وأيضا فقول القائل : اكتمل بغيره ممنوع ؛ فإنا لا نطلق على صفاته أنها غيره ولا أنها ليست غيره ؛ على ما عليه " أئمة السلف " كالإمام أحمد بن حنبل وغيره وهو اختيار حذاق المثبتة ؛ كابن كلاب وغيره . ومنهم من يقول : أنا لا أطلق عليها أنها ليست هي هو ولا أطلق عليها أنها ليست غيره ولا أجمع بين السلبين فأقول لا هي هو ولا هي غيره . وهو اختيار طائفة من المثبتة كالأشعري ؛ وأظن أن قول أبي الحسن التميمي هو هذا أو ما يشبه هذا . ومنهم من يجوز إطلاق هذا السلب وهذا السلب : في إطلاقهما جميعا كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى . ومنشأ هذا أن لفظ " الغير " يراد به المغاير للشيء ويراد به ما ليس هو إياه وكان في إطلاق الألفاظ المجملة إيهام لمعاني فاسدة . ونحن نجيب بجواب علمي فنقول : قول القائل : يتكمل بغيره . أيريد به بشيء منفصل عنه أم يريد بصفة لوازم ذاته ؟ أما الأول فممتنع . وأما الثاني فهو حق ولوازم ذاته لا يمكن وجود ذاته بدونها ؛ كما لا يمكن وجودها بدونه وهذا كمال بنفسه لا بشيء مباين لنفسه . وقد نص الأئمة - كأحمد بن حنبل وغيره - وأئمة المثبتة كأبي محمد بن كلاب وغيره على أن القائل إذا قال : الحمد لله . أو قال : دعوت الله وعبدته . أو قال : بالله . فاسم الله متناول لذاته المتصفة بصفاته ؛ وليست صفاته زائدة على مسمى أسمائه الحسنى . وإذا قيل : هل صفاته زائدة على الذات أم لا ؟ قيل : إن أريد بالذات المجردة التي يقر بها نفاة الصفات فالصفات زائدة عليها وإن أريد بالذات الذات الموجودة في الخارج فتلك لا تكون موجودة إلا بصفاتها اللازمة . والصفات ليست زائدة على الذات المتصفة بالصفات وإن كانت زائدة على الذات التي يقدر تجردها عن الصفات .

فصل :
وأما قول القائل : لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها وهي مفتقرة إليه فيكون الرب مفتقرا إلى غيره فهو من جنس السؤال الأول . فيقال أولا : قول القائل : " لو قامت به صفات وجودية لكان مفتقرا إليها " يقتضي إمكان جوهر تقوم به الصفات ؛ وإمكان ذات لا تقوم بها الصفات ؛ فلو كان أحدهما ممتنعا لبطل هذا الكلام فكيف إذا كان كلاهما ممتنعا ؟ فإن تقدير ذات مجردة عن جميع الصفات إنما يمكن في الذهن لا في الخارج كتقدير وجود مطلق لا يتعين في الخارج . ولفظ " ذات " تأنيث ذو وذلك لا يستعمل إلا فيما كان مضافا إلى غيره فهم يقولون : فلان ذو علم وقدرة ونفس ذات علم وقدرة . وحيث جاء في القرآن أو لغة العرب لفظ " ذو " ولفظ " ذات " لم يجئ إلا مقرونا بالإضافة كقوله { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } وقوله : { عليم بذات الصدور } . وقول خبيب رضي الله عنه - وذلك في ذات الإله . . . ونحو ذلك . لكن لما صار النظار يتكلمون في هذا الباب قالوا : إنه يقال إنها ذات علم وقدرة ثم إنهم قطعوا هذا اللفظ عن الإضافة وعرفوه ؛ فقالوا : " الذات " وهي لفظ مولد ليس من لفظ العرب العرباء ولهذا أنكره طائفة من أهل العلم ؛ كأبي الفتح بن برهان وابن الدهان وغيرهما وقالوا : ليست هذه اللفظة عربية ورد عليهم آخرون كالقاضي وابن عقيل وغيرهما . ( وفصل الخطاب : أنها ليست من العربية العرباء بل من المولدة كلفظ الموجود ولفظ الماهية والكيفية ونحو ذلك فهذا اللفظ يقتضي وجود صفات تضاف الذات إليها فيقال : ذات علم وذات قدرة وذات كلام والمعنى كذلك فإنه لا يمكن وجود شيء قائم بنفسه في الخارج لا يتصف بصفة ثبوتية أصلا ؛ بل فرض هذا في الخارج كفرض عرض يقوم بنفسه لا بغيره . ففرض عرض قائم بنفسه لا صفة له كفرض صفة لا تقوم بغيرها وكلاهما ممتنع فما هو قائم بنفسه فلا بد له من صفة وما كان صفة فلا بد له من قائم بنفسه متصف به . ولهذا سلم المنازعون أنهم لا يعلمون قائما بنفسه لا صفة له سواء سموه جوهرا أو جسما أو غير ذلك ويقولون : وجود جوهر معرى عن جميع الأعراض ممتنع فمن قدر إمكان موجود قائم بنفسه لا صفة له فقد قدر ما لا يعلم وجوده في الخارج ولا يعلم إمكانه في الخارج فكيف إذا علم أنه ممتنع في الخارج عن الذهن . وكلام نفاة الصفات جميعه يقتضي أن ثبوته ممتنع وإنما يمكن فرضه في العقل فالعقل يقدره في نفسه كما يقدر ممتنعات لا يعقل وجودها في الوجود ولا إمكانها في الوجود . وأيضا " فالرب تعالى " إذا كان اتصافه بصفات الكمال ممكنا - وما أمكن له وجب - امتنع أن يكون مسلوبا صفات الكمال ففرض ذاته بدون صفاته اللازمة الواجبة له فرض ممتنع . وحينئذ فإذا كان فرض عدم هذا ممتنعا عموما وخصوصا : فقول القائل : يكون مفتقرا إليها وتكون مفتقرة إليه إنما يعقل مثل هذا في شيئين . يمكن وجود كل واحد منهما دون الآخر فإذا امتنع هذا بطل هذا التقدير . ثم يقال له : ما تعني بالافتقار ؟ أتعني أن الذات تكون فاعلة للصفات مبدعة لها أو بالعكس ؟ أم تعني التلازم وهو أن لا يكون أحدهما إلا بالآخر ؟ فإن عنيت افتقار المفعول إلى الفاعل فهذا باطل فإن الرب ليس بفاعل لصفاته اللازمة له بل لا يلزمه شيء معين من أفعاله ومفعولاته . فكيف تجعل صفاته مفعولة له وصفاته لازمة لذاته ليست من مفعولاته ؟ وإن عنيت التلازم فهو حق . وهذا كما يقال : لا يكون موجودا إلا أن يكون قديما واجبا بنفسه ولا يكون عالما قادرا إلا أن يكون حيا فإذا كانت صفاته ملازمة ( لذاته كان ذلك أبلغ في الكمال من جواز التفريق بينهما فإنه لو جاز وجوده بدون صفات الكمال : لم يكن الكمال واجبا له بل ممكنا له ؛ وحينئذ فكان يفتقر في ثبوتها له إلى غيره وذلك نقص ممتنع عليه كما تقدم بيانه ؛ فعلم أن التلازم بين الذات وصفات الكمال : هو كمال الكمال .

فصل :
وأما القائل : إنها أعراض لا تقوم إلا بجسم مركب والمركب ممكن محتاج وذلك عين النقص . فللمثبتة للصفات في إطلاق لفظ " العرض " على صفاته ( ثلاث طرق : - ( منهم من يمنع أن تكون أعراضا : ويقول : بل هي صفات وليست أعراضا كما يقول ذلك الأشعري وكثير من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره . ( ومنهم من يطلق عليها لفظ الأعراض كهشام وابن كرام وغيرهما . ( ومنهم من يمتنع من الإثبات والنفي كما قالوا في لفظ الغير وكما امتنعوا عن مثل ذلك في لفظ الجسم ونحوه فإن قول القائل : " العلم عرض " بدعة وقوله : ليس بعرض " بدعة " كما أن قوله " الرب جسم " بدعة وقوله " ليس بجسم " بدعة . وكذلك أيضا لفظ " الجسم " يراد به في اللغة : البدن والجسد كما ذكر ذلك الأصمعي وأبو زيد وغيرهما من أهل اللغة . ( وأما أهل الكلام فمنهم من يريد به المركب ويطلقه على الجوهر الفرد بشرط التركيب أو على الجوهرين أو على أربعة جواهر أو ستة أو ثمانية أو ستة عشر أو اثنين وثلاثين أو المركب من المادة والصورة . ( ومنهم من يقول : هو الموجود أو القائم بنفسه . وعامة هؤلاء وهؤلاء يجعلون المشار إليه متساويا في العموم والخصوص فلما كان اللفظ قد صار يفهم منه معان بعضها حق وبعضها باطل : صار مجملا . وحينئذ ( فالجواب العلمي أن يقال : أتعني بقولك أنها أعراض أنها قائمة بالذات أو صفة للذات ونحو ذلك من المعاني الصحيحة ؟ أم تعني بها أنها آفات ونقائص ؟ أم تعني بها أنها تعرض وتزول ولا تبقى زمانين ؟ فإن عنيت الأول فهو صحيح وإن عنيت الثاني فهو ممنوع وإن عنيت الثالث فهذا مبني على قول من يقول : العرض لا يبقى زمانين . فمن قال ذلك وقال : هي باقية قال : لا أسميها أعراضا ومن قال بل العرض يبقى زمانين لم يكن هذا مانعا من تسميتها أعراضا . وقولك : العرض لا يقوم إلا بجسم . فيقال لك هو حي عليم قدير عندك . وهذه الأسماء لا يسمى بها إلا جسم كما أن هذه الصفات التي جعلتها أعراضا لا يوصف بها إلا جسم فما كان جوابك عن ثبوت الأسماء : كان جوابا لأهل الإثبات عن إثبات الصفات . ويقال له : ما تعني بقولك : هذه الصفات أعراض لا تقوم إلا بجسم ؟ أتعني بالجسم المركب الذي كان مفترقا فاجتمع ؟ أو ما ركبه مركب فجمع أجزاءه ؟ أو ما أمكن تفريقه وتبعيضه وانفصال بعضه عن بعض ونحو ذلك ؟ أم تعني به ما هو مركب من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة ؟ أو تعني به ما يمكن الإشارة إليه ؟ أو ما كان قائما بنفسه ؟ أو ما هو موجود ؟ . فإن عنيت " الأول " لم نسلم أن هذه الصفات التي سميتها أعراضا لا تقوم إلا بجسم بهذا التفسير وإن عنيت به " الثاني " لم نسلم امتناع التلازم ؛ فإن الرب تعالى موجود قائم بنفسه مشار إليه عندنا فلا نسلم انتفاء التلازم على هذا التقدير . وقول القائل : المركب ممكن إن أراد بالمركب : المعاني المتقدمة مثل كونه كان مفترقا فاجتمع أو ركبه مركب أو يقبل الانفصال : فلا نسلم المقدمة الأولى التلازمية وإن عنى به ما يشار إليه أو ما يكون قائما بنفسه موصوفا بالصفات فلا نسلم انتفاء الثانية فالقول بالأعراض مركب من ( مقدمتين تلازمية واستثنائية بألفاظ مجملة ؛ فإذا استفصل عن المراد حصل المنع والإبطال لأحدهما أو كليهما ، وإذا بطلت إحدى المقدمتين على كل تقدير بطلت الحجة .

فصل :
وأما قول القائل : لو قامت به الأفعال لكان محلا للحوادث والحادث إن أوجب له كمالا فقد عدمه قبله وهو نقص وإن لم يوجب له كمالا لم يجز وصفه به . فيقال ( أولا هذا معارض بنظيره من الحوادث التي يفعلها فإن كليهما حادث بقدرته ومشيئته وإنما يفترقان في المحل . وهذا التقسيم وارد على الجهتين . وإن قيل في الفرق : المفعول لا يتصف به بخلاف الفعل القائم به قيل في الجواب : بل هم يصفونه بالصفات الفعلية ويقسمون الصفات إلى نفسية وفعلية ؛ فيصفونه بكونه خالقا ورازقا بعد أن لم يكن كذلك وهذا التقسيم وارد عليهم . وقد أورده عليهم الفلاسفة في " مسألة حدوث العالم " فزعموا أن صفات الأفعال ليست صفة كمال ولا نقص . فيقال لهم : كما قالوا لهؤلاء " في الأفعال " التي تقوم به إنها ليست كمالا ولا نقصا . فإن قيل : لا بد أن يتصف إما بنقص أو بكمال . قيل : لا بد أن يتصف من الصفات الفعلية إما بنقص وإما بكمال فإن جاز ادعاء خلو أحدهما عن القسمين أمكن الدعوى في الآخر مثله وإلا فالجواب مشترك . وأما " المتفلسفة " فيقال لهم : القديم لا تحله الحوادث ولا يزال محلا للحوادث عندكم فليس القدم مانعا من ذلك عندكم ؛ بل عندكم هذا هو " الكمال الممكن " الذي لا يمكن غيره وإنما نفوه عن واجب الوجود ؛ لظنهم عدم اتصافه به . وقد تقدم التنبيه على إبطال قولهم في ذلك لا سيما وما قامت به الحوادث المتعاقبة يمتنع وجوده عن علة تامة أزلية موجبة لمعلولها ؛ فإن العلة التامة الموجبة يمتنع أن يتأخر عنها معلولها أو شيء من معلولها ومتى تأخر عنها شيء من معلولها كانت علة له بالقوة لا بالفعل واحتاج مصيرها علة بالفعل إلى سبب آخر ؛ فإن كان المخرج لها من القوة إلى الفعل هو نفسه : صار فيه ما هو بالقوة وهو المخرج له إلى الفعل ؛ وذلك يستلزم أن يكون قابلا أو فاعلا وهم يمنعون ذلك لامتناع الصفات التي يسمونها التركيب . وإن كان المخرج له غيره كان ذلك ممتنعا بالضرورة والاتفاق ؛ لأن ذلك ينافي وجوب الوجود ؛ ولأنه يتضمن " الدور المعي " و " التسلسل في المؤثرات " وإن كان هو الذي صار فاعلا للمعين بعد أن لم يكن امتنع أن يكون علة تامة أزلية فقدم شيء من العالم يستلزم كونه علة تامة في الأزل وذلك يستلزم أن لا يحدث عنه شيء بواسطة وبغير واسطة وهذا مخالف للمشهود . ويقال ( ثانيا : في إبطال قول من جعل حدوث الحوادث ممتنعا : - هذا مبني على تجدد هذه الأمور بتجدد الإضافات والأحوال والإعدام ؛ فإن الناس متفقون على تجدد هذه الأمور . وفرق الآمدي بينهما من جهة اللفظ فقال : هذه حوادث وهذه متجددات والفروق اللفظية لا تؤثر في الحقائق العلمية . فيقال : تجدد هذه المتجددات إن أوجب له كمالا فقد عدمه قبله وهو نقص وإن أوجب له نقصا لم يجز وصفه به . ويقال ( ثالثا : الكمال الذي يجب اتصافه به هو الممكن الوجود وأما الممتنع فليس من الكمال الذي يتصف به موجود والحوادث المتعلقة بقدرته ومشيئته يمتنع وجودها جميعا في الأزل ؛ فلا يكون انتفاؤها في الأزل نقصا ؛ لأن انتفاء الممتنع ليس بنقص . ويقال ( رابعا : إذا قدر ذات تفعل شيئا بعد شيء وهي قادرة على الفعل بنفسها وذات لا يمكنها أن تفعل بنفسها شيئا ؛ بل هي كالجماد الذي لا يمكنه أن يتحرك كانت الأولى أكمل من الثانية . فعدم هذه الأفعال نقص بالضرورة . وأما وجودها بحسب الإمكان فهو الكمال . ويقال ( خامسا : لا نسلم أن عدم هذه مطلقا نقص ولا كمال ولا وجودها مطلقا نقص ولا كمال ؛ بل وجودها في الوقت الذي اقتضته مشيئته وقدرته وحكمته هو الكمال ووجودها بدون ذلك نقص وعدمها مع اقتضاء الحكمة عدمها كمال ووجودها حيث اقتضت الحكمة وجودها هو الكمال . وإذا كان الشيء الواحد يكون وجوده تارة كمالا وتارة نقصا وكذلك عدمه . بطل التقسيم المطلق وهذا كما أن الشيء يكون رحمة بالخلق إذا احتاجوا إليه كالمطر . ويكون عذابا إذا ضرهم فيكون إنزاله لحاجتهم رحمة وإحسانا والمحسن الرحيم متصف بالكمال ولا يكون عدم إنزاله - حيث يضرهم - نقصا بل هو أيضا رحمة وإحسان فهو محسن بالوجود حين كان رحمة وبالعدم حين كان العدم رحمة .

......يتبع

سقراط 17-07-04 10:31 PM

فصل :
وأما نفي النافي " للصفات الخبرية " المعينة ؛ فلاستلزامها التركيب المستلزم للحاجة والافتقار : فقد تقدم جواب نظيره فإنه إن أريد بالتركيب ما هو المفهوم منه في اللغة أو في العرف العام أو عرف بعض الناس - وهو ما ركبه غيره - أو كان متفرقا فاجتمع أو ما جمع الجواهر الفردة أو المادة والصورة أو ما أمكن مفارقة بعضه لبعض فلا نسلم المقدمة الأولى ولا نسلم أن إثبات الوجه واليد مستلزم للتركيب بهذا الاعتبار . وإن أريد به التلازم على معنى امتياز شيء عن شيء في نفسه وأن هذا ليس هذا : فهذا لازم لهم في الصفات المعنوية المعلومة بالعقل كالعلم والقدرة والسمع والبصر فإن الواحدة من هذه الصفات ليست هي الأخرى ؛ بل كل صفة ممتازة بنفسها عن الأخرى وإن كانتا متلازمتين يوصف بهما موصوف واحد . ونحن نعقل هذا في صفات المخلوقين كأبعاض الشمس وأعراضها . وأيضا : فإن أريد أنه لا بد من وجود ما بالحاجة والافتقار إلى مباين له فهو ممنوع وإن أريد أنه لا بد من وجود ما هو داخل في مسمى اسمه ؛ وأنه يمتنع وجود الواجب بدون تلك الأمور الداخلة في مسمى اسمه : فمعلوم أنه لا بد له من نفسه فلا بد له مما يدخل في مسماها بطريق الأولى الأحرى . وإذا قيل : هو مفتقر إلى نفسه لم يكن معناه أن نفسه تفعل نفسه ؛ فكذلك ما هو داخل فيها ؛ ولكن العبارة موهمة مجملة فإذا فسر المعنى زال المحذور . ويقال أيضا : نحن لا نطلق على هذا اللفظ الغير ؛ فلا يلزمه أن يكون محتاجا إلى الغير فهذا من جهة الإطلاق اللفظي ؛ وأما من جهة الدليل العلمي فالدليل دل على وجود موجود بنفسه لا فاعل ولا علة فاعلة وأنه مستغن بنفسه عن كل ما يباينه . وأما الوجود الذي لا يكون له صفة ولا يدخل في مسمى اسمه معنى من المعاني الثبوتية : فهذا إذا ادعى المدعي أنه المعني بوجوب الوجود وبالغني . قيل له : لكن هذا المعنى ليس هو مدلول الأدلة ؛ ولكن أنت قدرت أن هذا مسمى الاسم وجعل اللفظ دليلا على هذا المعنى لا ينفعك إن لم يثبت أن المعنى حق في نفسه ولا دليل لك على ذلك ؛ بل الدليل يدل على نقيضه . فهؤلاء عمدوا إلى لفظ الغني والقديم والواجب بنفسه فصاروا يحملونها على معاني تستلزم معاني تناقض ثبوت الصفات وتوسعوا في التعبير ثم ظنوا أن هذا الذي فعلوه هو موجب الأدلة العقلية وغيرها . وهذا غلط منهم . فموجب الأدلة العقلية لا يتلقى من مجرد التعبير وموجب الأدلة السمعية يتلقى من عرف المتكلم بالخطاب لا من الوضع المحدث ؛ فليس لأحد أن يقول : إن الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعان ثم يريد أن يفسر مراد الله بتلك المعاني ؛ هذا من فعل أهل الإلحاد المفترين . فإن هؤلاء عمدوا إلى معان ظنوها ثابتة ؛ فجعلوها هي معنى الواحد والواجب والغني والقديم ونفي المثل ؛ ثم عمدوا إلى ما جاء في القرآن والسنة من تسمية الله تعالى بأنه أحد وواحد علي ونحو ذلك من نفي المثل والكفؤ عنه . فقالوا : هذا يدل على المعاني التي سميناها بهذه الأسماء وهذا من أعظم الافتراء على الله . وكذلك " المتفلسفة " عمدوا إلى لفظ الخالق والفاعل والصانع والمحدث ونحو ذلك . فوضعوها لمعنى ابتدعوه وقسموا الحدوث إلى نوعين : ذاتي وزماني وأرادوا بالذاتي كون المربوب مقارنا للرب أزلا وأبدا ؛ فإن اللفظ على هذا المعنى لا يعرف في لغة أحد من الأمم ؛ ولو جعلوا هذا اصطلاحا لهم لم تنازعهم فيه ؛ لكن قصدوا بذلك التلبيس على الناس وأن يقولوا نحن نقول بحدوث العالم وأن الله خالق له وفاعل له وصانع له ونحو ذلك من المعاني التي يعلم بالاضطرار أنها تقتضي تأخر المفعول لا يطلق على ما كان قديما بقدم الرب مقارنا له أزلا وأبدا . وكذلك فعل من فعل بلفظ " المتكلم " وغير ذلك من الأسماء ولو فعل هذا بكلام سيبويه وبقراط : لفسد ما ذكروه من النحو والطب ؛ ولو فعل هذا بكلام آحاد العلماء كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة : لفسد العلم بذلك ولكان ملبوسا عليهم فكيف إذا فعل هذا بكلام رب العالمين . وهذه طريقة الملاحدة الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته ومن شاركهم في بعض ذلك . مثل قول من يقول : " الواحد " الذي لا ينقسم ومعنى قوله : لا ينقسم أي لا يتميز منه شيء عن شيء ويقول لا تقوم به صفة . ثم زعموا أن الأحد والواحد في القرآن يراد به هذا . ومعلوم أن كل ما في القرآن من اسم الواحد والأحد كقوله تعالى : { وإن كانت واحدة فلها النصف } وقوله : { قالت إحداهما يا أبت استأجره } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وقوله : { وإن أحد من المشركين استجارك } وقوله : { ذرني ومن خلقت وحيدا } وأمثال ذلك يناقض ما ذكروه فإن هذه الأسماء أطلقت على قائم بنفسه مشار إليه يتميز منه شيء عن شيء . وهذا الذي يسمونه في اصطلاحهم جسما . وكذلك إذا قالوا : الموصوفات تتماثل والأجسام تتماثل والجواهر تتماثل وأرادوا أن يستدلوا بقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } على نفي مسمى هذه الأمور التي سموها بهذه الأسماء في اصطلاحهم الحادث كان هذا افتراء على القرآن ؛ فإن هذا ليس هو المثل في لغة العرب ؛ ولا لغة القرآن ولا غيرهما . قال تعالى : { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } . فنفى مماثلة هؤلاء مع اتفاقهم في الإنسانية فكيف يقال : إن لغة العرب توجب أن كل ما يشار إليه مثل كل ما يشار إليه . وقال تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } { إرم ذات العماد } { التي لم يخلق مثلها في البلاد } فأخبر أنه لم يخلق مثلها في البلاد وكلاهما بلد ؛ فكيف يقال إن كل جسم فهو مثل لكل جسم في لغة العرب حتى يحمل على ذلك قوله : { ليس كمثله شيء } . وقد قال الشاعر : ليس كمثل الفتى زهير وقال : ما إن كمثلهم في الناس من بشر ولم يقصد هذا أن ينفي وجود جسم من الأجسام . وكذلك لفظ " التشابه " ليس هو التماثل في اللغة قال تعالى : { وأتوا به متشابها } وقال تعالى { متشابها وغير متشابه } ولم يرد به شيئا هو مماثل في اللغة وليس المراد هنا كون الجواهر متماثلة في العقل أو ليست متماثلة ؛ فإن هذا مبسوط في موضعه ؛ بل المراد أن أهل اللغة التي بها نزل القرآن لا يجعلون مجرد هذا موجبا لإطلاق اسم المثل ؛ ولا يجعلون نفي المثل نفيا لهذا فحمل القرآن على ذلك كذب على القرآن .

فصل : وقول القائل :
" المناسبة " لفظ مجمل ؛ فإنه قد يراد بها التولد والقرابة فيقال : هذا نسيب فلان ويناسبه ؛ إذا كان بينهم قرابة مستندة إلى الولادة والآدمية والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك ويراد بها المماثلة فيقال : هذا يناسب هذا : أي يماثله . والله سبحانه وتعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد . ويراد بها الموافقة في معنى من المعاني وضدها المخالفة . و " المناسبة " بهذا الاعتبار ثابتة فإن أولياء الله تعالى يوافقونه فيما يأمر به فيفعلونه وفيما يحبه فيحبونه وفيما نهى عنه فيتركونه وفيما يعطيه فيصيبونه . والله وتر يحب الوتر جميل يحب الجمال عليم يحب العلم نظيف يحب النظافة محسن يحب المحسنين مقسط يحب المقسطين إلى غير ذلك من المعاني ؛ بل هو سبحانه يفرح بتوبة التائب أعظم من فرح الفاقد لراحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها بعد اليأس فالله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته كما ثبت ذلك في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم . فإذا أريد " بالمناسبة " هذا وأمثاله فهذه المناسبة حق وهي من صفات الكمال كما تقدمت الإشارة إليه فإن من يحب صفات الكمال أكمل ممن لا فرق عنده بين صفات النقص والكمال ؛ أو لا يحب صفات الكمال . وإذا قدر موجودان : ( أحدهما يحب العلم والصدق والعدل والإحسان ونحو ذلك . و ( الآخر لا فرق عنده بين هذه الأمور وبين الجهل والكذب والظلم ونحو ذلك لا يحب هذا ولا يبغض هذا كان الذي يحب تلك الأمور أكمل من هذا . فدل على أن من جرده عن " صفات الكمال والوجود " بأن لا يكون له علم كالجماد فالذي يعلم أكمل منه ؛ ومعلوم أن الذي يحب المحمود ويبغض المذموم : أكمل ممن يحبهما أو يبغضهما . وأصل " هذه المسألة " الفرق بين محبة الله ورضاه وغضبه وسخطه وبين إرادته كما هو مذهب السلف والفقهاء وأكثر المثبتين للقدر من أهل السنة وغيرهم وصار طائفة من القدرية والمثبتين للقدر إلى أنه لا فرق بينهما . ثم قالت " القدرية " : هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يريد ذلك فيكون ما لم يشأ ويشاء ما لم يكن . وقالت " المثبتة " ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وإذن قد أراد الكفر والفسوق والعصيان ولم يرده دينا أو أراده من الكافر ولم يرده من المؤمن فهو لذلك يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه دينا ويحبه من الكافر ولا يحبه من المؤمن . وكلا القولين خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها ؛ فإنهم متفقون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته ومجمعون على أنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأن الكفار يبيتون ما لا يرضى من القول والذين نفوا محبته بنوها على هذا الأصل الفاسد .

فصل :
وأما قول القائل : " الرحمة " ضعف وخور في الطبيعة وتألم على المرحوم فهذا باطل . أما " أولا " : فلأن الضعف والخور مذموم من الآدميين والرحمة ممدوحة ؛ وقد قال تعالى : { وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة } وقد نهى الله عباده عن الوهن والحزن ؛ فقال تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } وندبهم إلى الرحمة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { لا تنزع الرحمة إلا من شقي } وقال : { من لا يرحم لا يرحم } وقال : { الراحمون يرحمهم الرحمن . ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } . ومحال أن يقول : لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي ؛ ولكن لما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور - كما في رحمة النساء ونحو ذلك - ظن الغالط أنها كذلك مطلقا . و ( أيضا : فلو قدر أنها في حق المخلوقين مستلزمة لذلك لم يجب أن تكون في حق الله تعالى مستلزمة لذلك كما أن العلم والقدرة ؛ والسمع والبصر والكلام فينا يستلزم من النقص والحاجة ما يجب تنزيه الله عنه . وكذلك " الوجود " و " القيام بالنفس " فينا : يستلزم احتياجا إلى خالق يجعلنا موجودين والله منزه في وجوده عما يحتاج إليه وجودنا فنحن وصفاتنا وأفعالنا مقرونون بالحاجة إلى الغير والحاجة لنا أمر ذاتي لا يمكن أن نخلو عنه وهو سبحانه الغني له أمر ذاتي لا يمكن أن يخلو عنه ؛ فهو بنفسه حي قيوم واجب الوجود ونحن بأنفسنا محتاجون فقراء . فإذا كانت ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا وما اتصفنا به من الكمال من العلم والقدرة وغير ذلك هو مقرون بالحاجة والحدوث والإمكان : لم يجب أن يكون لله ذات ولا صفات ولا أفعال ولا يقدر ولا يعلم ؛ لكون ذلك ملازما للحاجة فينا . فكذلك " الرحمة " وغيرها إذا قدر أنها في حقنا ملازمة للحاجة والضعف ؛ لم يجب أن تكون في حق الله ملازمة لذلك . وأيضا : فنحن نعلم بالاضطرار أنا إذا فرضنا موجودين أحدهما يرحم غيره فيجلب له المنفعة ويدفع عنه المضرة ؛ والآخر قد استوى عنده هذا وهذا وليس عنده ما يقتضي جلب منفعة ولا دفع مضرة : كان الأول أكمل .

فصل : وأما قول القائل :
" الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام " فليس بصحيح في حقنا ؛ بل الغضب قد يكون لدفع المنافي قبل وجوده فلا يكون هناك انتقام أصلا . وأيضا : فغليان دم القلب يقارنه الغضب ليس أن مجرد الغضب هو غليان دم القلب كما أن " الحياء " يقارن حمرة الوجه و " الوجل " يقارن صفرة الوجه ؛ لا أنه هو . وهذا لأن النفس إذا قام بها دفع المؤذي فإن استشعرت القدرة فاض الدم إلى خارج فكان منه الغضب وإن استشعرت العجز عاد الدم إلى داخل ؛ فاصفر الوجه كما يصيب الحزين . وأيضا : فلو قدر أن هذا هو حقيقة غضبنا لم يلزم أن يكون غضب الله تعالى مثل غضبنا ؛ كما أن حقيقة ذات الله ليست مثل ذاتنا فليس هو مماثلا لنا : لا لذاتنا ولا لأرواحنا وصفاته كذاته . ونحن نعلم بالاضطرار أنا إذا قدرنا موجودين : أحدهما عنده قوة يدفع بها الفساد . والآخر لا فرق عنده بين الصلاح والفساد كان الذي عنده تلك القوة أكمل . ولهذا يذم من لا غيرة له على الفواحش كالديوث ويذم من لا حمية له يدفع بها الظلم عن المظلومين ويمدح الذي له غيرة يدفع بها الفواحش وحمية يدفع بها الظلم ؛ ويعلم أن هذا أكمل من ذلك . ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم الرب بالأكملية في ذلك فقال في الحديث الصحيح : { لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن } وقال : { أتعجبون من غيرة سعد ؟ أنا أغير منه والله أغير مني } . وقول القائل : إن هذه انفعالات نفسانية . فيقال : كل ما سوى الله مخلوق منفعل ونحن وذواتنا منفعلة فكونها انفعالات فينا لغيرنا نعجز عن دفعها : لا يوجب أن يكون الله منفعلا لها عاجزا عن دفعها وكان كل ما يجري في الوجود فإنه بمشيئته وقدرته لا يكون إلا ما يشاء ولا يشاء إلا ما يكون له الملك وله الحمد .

فصل : وقول القائل :
" إن الضحك خفة روح " ليس بصحيح ؛ وإن كان ذلك قد يقارنه . ثم قول القائل : " خفة الروح " . إن أراد به وصفا مذموما فهذا يكون لما لا ينبغي أن يضحك منه وإلا فالضحك في موضعه المناسب له صفة مدح وكمال وإذا قدر حيان أحدهما يضحك مما يضحك منه ؛ والآخر لا يضحك قط كان الأول أكمل من الثاني . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم { ينظر إليكم الرب قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال له أبو رزين العقيلي : يا رسول الله أو يضحك الرب ؟ قال : نعم قال : لن نعدم من رب يضحك خيرا } . فجعل الأعرابي العاقل - بصحة فطرته - ضحكه دليلا على إحسانه وإنعامه ؛ فدل على أن هذا الوصف مقرون بالإحسان المحمود وأنه من صفات الكمال والشخص العبوس الذي لا يضحك قط هو مذموم بذلك وقد قيل في اليوم الشديد العذاب : إنه { يوما عبوسا قمطريرا } . وقد روي : أن الملائكة قالت لآدم : " حياك الله وبياك " أي أضحكك . والإنسان حيوان ناطق ضاحك ؛ وما يميز الإنسان عن البهيمة صفة كمال فكما أن النطق صفة كمال فكذلك الضحك صفة كمال فمن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم ومن يضحك أكمل ممن لا يضحك وإذا كان الضحك فينا مستلزما لشيء من النقص فالله منزه عن ذلك وذلك الأكثر مختص لا عام فليس حقيقة الضحك مطلقا مقرونة بالنقص كما أن ذواتنا وصفاتنا مقرونة بالنقص ووجودنا مقرون بالنقص ولا يلزم أن يكون الرب موجدا وأن لا تكون له ذات . ومن هنا ضلت القرامطة الغلاة كصاحب " الإقليد " وأمثاله فأرادوا أن ينفوا عنه كل ما يعلمه القلب وينطق به اللسان من نفي وإثبات فقالوا : لا نقول موجود ولا لا موجود ولا موصوف ولا لا موصوف ؛ لما في ذلك - على زعمهم - من التشبيه وهذا يستلزم أن يكون ممتنعا وهو مقتضى التشبيه بالممتنع والتشبيه الممتنع على الله أن يشارك المخلوقات في شيء من خصائصها وأن يكون مماثلا لها في شيء من صفاته كالحياة والعلم والقدرة فإنه وإن وصف بها فلا تماثل صفة الخالق صفة المخلوق كالحدوث والموت والفناء والإمكان .

فصل : وأما قوله :
" التعجب استعظام للمتعجب منه " . فيقال : نعم . وقد يكون مقرونا بجهل بسبب التعجب وقد يكون لما خرج عن نظائره والله تعالى بكل شيء عليم فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما تعجب منه ؛ بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيما له . والله تعالى يعظم ما هو عظيم ؛ إما لعظمة سببه أو لعظمته . فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم . ووصف بعض الشر بأنه عظيم فقال تعالى : { رب العرش العظيم } وقال : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } وقال : { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا } { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما } وقال : { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } وقال : { إن الشرك لظلم عظيم } . ولهذا قال تعالى : { بل عجبت ويسخرون } على قراءة الضم فهنا هو عجب من كفرهم مع وضوح الأدلة . { وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي آثر هو وامرأته ضيفهما : لقد عجب الله } وفي لفظ في الصحيح : { لقد ضحك الله الليلة من صنعكما البارحة } . وقال : { إن الرب ليعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . يقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب إلا أنا } وقال : { عجب ربك من شاب ليست له صبوة } وقال : { عجب ربك من راعي غنم على رأس شظية يؤذن ويقيم فيقول الله انظروا إلى عبدي } أو كما قال . ونحو ذلك .

فصل : وأما قول القائل :
" لو كان في ملكه ما لا يريده لكان نقصا " . وقول الآخر : " لو قدر وعذب لكان ظلما والظلم نقص " . فيقال : أما المقالة الأولى فظاهرة : فإنه إذا قدر أنه يكون في ملكه ما لا يريده وما لا يقدر عليه ؛ وما لا يخلقه ولا يحدثه لكان نقصا من وجوه : ( أحدها أن انفراد شيء من الأشياء عنه بالأحداث نقص لو قدر أنه في غير ملكه فكيف في ملكه ؟ فإنا نعلم أنا إذا فرضنا اثنين : أحدهما يحتاج إليه كل شيء ولا يحتاج إلى شيء والآخر يحتاج إليه بعض الأشياء ويستغني عنه بعضها : كان الأول أكمل فنفس خروج شيء عن قدرته وخلقه نقص وهذه دلائل الوحدانية فإن الاشتراك نقص بكل من المشتركين وليس الكمال المطلق إلا في الوحدانية . فإنا نعلم أن من قدر بنفسه كان أكمل ممن يحتاج إلى معين ومن فعل الجميع بنفسه فهو أكمل ممن له مشارك ومعاون على فعل البعض ومن افتقر إليه كل شيء فهو أكمل ممن استغنى عنه بعض الأشياء . ( ومنها أن يقال : كونه خالقا لكل شيء وقادرا على كل شيء : أكمل من كونه خالقا للبعض وقادرا على البعض . و " القدرية " لا يجعلونه خالقا لكل شيء ولا قادرا على كل شيء . و " المتفلسفة " القائلون بأنه علة غائية شر منهم فإنهم لا يجعلونه خالقا لشيء من حوادث العالم - لا لحركات الأفلاك ولا غيرها من المتحركات ولا خالقا لما يحدث بسبب ذلك ولا قادرا على شيء من ذلك ولا عالما بتفاصيل ذلك والله سبحانه وتعالى يقول : { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما } وهؤلاء ينظرون في العالم ولا يعلمون أن الله على كل شيء قدير ولا أن الله قد أحاط بكل شيء علما . ( ومنها أنا إذا قدرنا مالكين : ( أحدهما يريد شيئا فلا يكون ويكون ما لا يريد ( والآخر لا يريد شيئا إلا كان ولا يكون إلا ما يريد علمنا بالضرورة أن هذا أكمل . وفي الجملة قول " المثبتة للقدرة " يتضمن أنه خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء كان ؛ فيقتضي كمال خلقه وقدرته ومشيئته و " نفاة القدر " يسلبونه هذه الكمالات . وأما قوله : " إن التعذيب على المقدر ظلم منه " فهذه دعوى مجردة ليس معهم فيها إلا قياس الرب على أنفسهم ولا يقول عاقل إن كل ما كان نقصا من أي موجود كان : لزم أن يكون نقصا من الله ؛ بل ولا يقبح هذا من الإنسان مطلقا ؛ بل إذا كان له مصلحة في تعذيب بعض الحيوان وأن يفعل به ما فيه تعذيب له حسن ذلك منه ؛ كالذي يصنع القز فإنه هو الذي يسعى في أن دود القز ينسجه ثم يسعى في أن يلقى في الشمس ليحصل له المقصود من القز وهو هنا له سعي في حركة الدود التي كانت سبب تعذيبه . وكذلك الذي يسعى في أن يتوالد له ماشية وتبيض له دجاج ثم يذبح ذلك لينتفع به فقد تسبب في وجود ذلك الحيوان تسببا أفضى إلى عذابه ؛ لمصلحة له في ذلك . ففي " الجملة " : الإنسان يحسن منه إيلام الحيوان لمصلحة راجحة في ذلك فليس جنس هذا مذموما ولا قبيحا ولا ظلما وإن كان من ذلك ما هو ظلم . وحينئذ فالظلم من الله إما أن يقال : هو ممتنع لذاته ؛ لأن الظلم تصرف المتصرف في غير ملكه والله له كل شيء ؛ أو الظلم مخالفة الأمر الذي تجب طاعته ؛ والله تعالى يمتنع منه التصرف في ملك غيره أو مخالفة أمر من يجب عليه طاعته . فإذا كان الظلم ليس إلا هذا أو هذا : امتنع الظلم منه . وإما أن يقال : هو ممكن لكنه سبحانه لا يفعله لغناه وعلمه بقبحه ؛ ولإخباره أنه لا يفعله ؛ ولكمال نفسه يمتنع وقوع الظلم منه إذ كان العدل والرحمة من لوازم ذاته ؛ فيمتنع اتصافه بنقيض صفات الكمال التي هي من لوازمه على هذا القول فالذي يفعله لحكمة اقتضت ذلك كما أن الذي يمتنع من فعله لحكمة تقتضي تنزيهه عنه . وعلى هذا فكل ما فعله علمنا أن له فيه حكمة ؛ وهذا يكفينا من حيث الجملة وإن لم نعرف التفصيل وعدم علمنا بتفصيل حكمته بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته ؛ وكما أن ثبوت صفات الكمال له معلوم لنا وأما كنه ذاته فغير معلومة لنا فلا نكذب بما علمناه ما لم نعلمه . وكذلك نحن نعلم أنه " حكيم " فيما يفعله ويأمر به وعدم علمنا بالحكمة في بعض الجزئيات لا يقدح فيما علمناه من أصل حكمته ؛ فلا نكذب بما علمناه من حكمته ما لم نعلمه من تفصيلها . ونحن نعلم أن من علم حذق أهل الحساب والطب والنحو ولم يكن متصفا بصفاتهم التي استحقوا بها أن يكونوا من أهل الحساب والطب والنحو لم يمكنه أن يقدح فيما قالوه ؛ لعدم علمه بتوجيهه . والعباد أبعد عن معرفة الله وحكمته في خلقه من معرفة عوامهم بالحساب والطب والنحو فاعتراضهم على حكمته أعظم جهلا وتكلفا للقول بلا علم من العامي المحض إذا قدح في الحساب والطب والنحو بغير علم بشيء من ذلك . وهذا يتبين بالأصل الذي ذكرناه في الكمال وهو قولنا : إن الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود يجب اتصافه به وتنزيهه عما يناقضه فيقال : خلق بعض الحيوان وفعله الذي يكون سببا لعذابه هل هو نقص مطلقا أم يختلف ؟ . وأيضا فإذا كان في خلق ذلك حكمة عظيمة لا تحصل إلا بذلك فأيما أكمل تحصيل ذلك بتلك الحكمة العظيمة أو تفويتها ؟ وأيضا فهل يمكن حصول الحكمة المطلوبة بدون حصول هذا ؟ فهذه أمور إذا تدبرها الإنسان ؛ علم أنه لا يمكنه أن يقول خلق فعل الحيوان الذي يكون سببا لتعذيبه نقص مطلقا . و " المثبتة للقدر " قد تجيب بجواب آخر ؛ لكن ينازعهم الجمهور فيه . فيقولون : كونه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد صفة كمال بخلاف الذي يكون مأمورا منهيا الذي يؤمر بشيء وينهى عن شيء . ويقولون إنما قبح من غيره أن يفعل ما شاء لما يلحقه من الضرر وهو سبحانه لا يجوز أن يلحقه ضرر . والجمهور يقولون : إذا قدرنا من يفعل ما يريد بلا حكمة محبوبة تعود إليه ولا رحمة وإحسان يعود إلى غيره : كان الذي يفعل لحكمة ورحمة أكمل ممن يفعل لا لحكمة ولا لرحمة . ويقولون : إذا قدرنا مريدا لا يميز بين مراده ومراد غيره . ومريدا يميز بينهما ؛ فيريد ما يصلح أن يراد وينبغي أن يراد ؛ دون ما هو بالضد : كان هذا الثاني أكمل . ويقولون : المأمور المنهي الذي فوقه آمر ناه هو ناقص بالنسبة إلى من ليس فوقه آمر ناه لكن إذا كان هو الآمر لنفسه بما ينبغي أن يفعل والمحرم عليها ما لا ينبغي أن يفعل وآخر يفعل ما يريده بدون أمر ونهي من نفسه فهذا الملتزم لأمره ونهيه - الواقعين على وجه الحكمة - أكمل من ذلك ؛ وقد قال تعالى { كتب ربكم على نفسه الرحمة } وقال : { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا } . وقالوا أيضا : إذا قيل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على وجه بيان قدرته وأنه لا مانع له ولا يقدر غيره أن يمنعه مراده ولا أن يجعله مريدا كان هذا أكمل ممن له مانع يمنعه مراده ومعين لا يكون مريدا أو فاعلا لما يريد إلا به . وأما إذا قيل : يفعل ما يريد باعتبار أنه لا يفعل على وجه مقتضى العلم والحكمة ؛ بل هو ( متسفه فيما يفعله وآخر يفعل ما يريد ؛ لكن إرادته مقرونة بالعلم والحكمة ؛ كان هذا الثاني أكمل . و ( جماع الأمر في ذلك : أن كمال القدرة صفة كمال وكون الإرادة نافذة لا تحتاج إلى معاون ولا يعارضها مانع وصف كمال . وأما كون " الإرادة " لا تميز بين مراد ومراد بل جميع الأجناس عندها سواء فهذا ليس بوصف كمال ؛ بل الإرادة المميزة بين مراد ومراد - كما يقتضيه العلم والحكمة - هي الموصوفة بالكمال فمن نقصه في قدرته وخلقه ومشيئته فلم يقدره قدره . ومن نقصه من حكمته ورحمته فلم يقدره حق قدره . والكمال الذي يستحقه إثبات هذا وهذا .

فصل : وأما
" منكرو النبوات " وقولهم : ليس الخلق أهلا أن يرسل الله إليهم رسولا كما أن أطراف الناس ليسوا أهلا أن يرسل السلطان إليهم رسولا : فهذا جهل واضح في حق المخلوق والخالق فإن من أعظم ما تحمد به الملوك خطابهم بأنفسهم لضعفاء الرعية فكيف بإرسال رسول إليهم . وأما في حق الخالق فهو سبحانه أرحم بعباده من الوالدة بولدها وهو قادر مع كمال رحمته فإذا كان كامل القدرة كامل الرحمة فما المانع أن يرسل إليهم رسولا رحمة منه ؟ كما قال تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم { إنما أنا رحمة مهداة } ولأن هذا من جملة إحسانه إلى الخلق بالتعليم والهداية وبيان ما ينفعهم وما يضرهم كما قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } فبين تعالى أن هذا من مننه على عباده المؤمنين . فإن كان المنكر ينكر قدرته على ذلك فهذا قدح في كمال قدرته وإن كان ينكر إحسانه بذلك فهذا قدح في كمال رحمته وإحسانه . فعلم أن إرسال الرسول من أعظم الدلالة على كمال قدرته وإحسانه والقدرة والإحسان من صفات الكمال لا النقص . وأما تعذيب المكذبين فذلك داخل في القدر لما له فيه من الحكمة .

فصل : وأما
" قول المشركين " : إن عظمته وجلاله يقتضي أن لا يتقرب إليه إلا بواسطة وحجاب والتقرب بدون ذلك غض من جنابه الرفيع فهذا باطل من وجوه : ( منها أن الذي لا يتقرب إليه إلا بوسائط وحجاب إما أن يكون قادرا على سماع كلام جنده وقضاء حوائجهم بدون الوسائط والحجاب وإما أن لا يكون قادرا فإن لم يكن قادرا كان هذا نقصا والله تعالى موصوف بالكمال ؛ فوجب أن يكون متصفا بأنه يسمع كلام عباده بلا وسائط ويجيب دعاءهم ويحسن إليهم بدون حاجة إلى حجاب وإن كان الملك قادرا على فعل أموره بدون الحجاب وترك الحجاب إحسانا ورحمة كان ذلك صفة كمال . وأيضا : فقول القائل : إن هذا غض منه إنما يكون فيمن يمكن الخلق أن يضروه ويفتقر في نفعه إليهم فأما مع كمال قدرته واستغنائه عنهم وأمنه أن يؤذوه فليس تقربهم إليه غضا منه ؛ بل إذا كان اثنان : أحدهما يقرب إليه الضعفاء إحسانا إليهم ولا يخاف منهم والآخر لا يفعل ذلك إما خوفا وإما كبرا وإما غير ذلك : كان الأول أكمل من الثاني : وأيضا فإن هذا لا يقال إذا كان ذلك بأمر المطاع ؛ بل إذا أذن للناس في التقرب منه ودخول داره : لم يكن ذلك سوء أدب عليه ولا غضا منه فهذا إنكار على من تعبده بغير ما شرع . ولهذا قال تعالى : { إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } { وداعيا إلى الله بإذنه } وقال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } .

فصل : وأما:
قول القائل : إنه لو قيل لهم أيما أكمل ؟ ذات توصف بسائر أنواع الإدراكات من الذوق والشم واللمس ؟ أم ذات لا توصف بها ؟ لقالوا : الأول أكمل ولم يصفوه بها . فتقول مثبتة الصفات لهم : في هذه الإدراكات ثلاثة أقوال معروفة : ( أحدها : إثبات هذه الإدراكات لله تعالى كما يوصف بالسمع والبصر . وهذا قول القاضي أبي بكر وأبي المعالي وأظنه قول الأشعري نفسه بل هو قول المعتزلة البصريين الذين يصفونه بالإدراكات . وهؤلاء وغيرهم يقولون : تتعلق به الإدراكات الخمسة أيضا كما تتعلق به الرؤية ؛ وقد وافقهم على ذلك القاضي أبو يعلى في " المعتمد " وغيره . ( والقول الثاني : قول من ينفي هذه الثلاثة ؛ كما ينفي ذلك كثير من المثبتة أيضا من الصفاتية وغيرهم . وهذا قول طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وكثير من أصحاب الأشعري وغيره . ( والقول الثالث : إثبات إدراك اللمس دون إدراك الذوق ؛ لأن الذوق إنما يكون للمطعوم فلا يتصف به إلا من يأكل ولا يوصف به إلا ما يؤكل والله سبحانه منزه عن الأكل بخلاف اللمس فإنه بمنزلة الرؤية وأكثر أهل الحديث يصفونه باللمس وكذلك كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ولا يصفونه بالذوق . وذلك أن نفاة الصفات من المعتزلة قالوا للمثبتة : إذا قلتم إنه يرى . فقولوا إنه يتعلق به سائر أنواع الحس . وإذا قلتم إنه سميع بصير فصفوه بالإدراكات الخمسة . فقال " أهل الإثبات قاطبة " نحن نصفه بأنه يرى وأنه يسمع كلامه كما جاءت بذلك النصوص . وكذلك نصفه بأنه يسمع ويرى . وقال جمهور أهل الحديث والسنة : نصفه أيضا بإدراك اللمس لأن ذلك كمال لا نقص فيه . وقد دلت عليه النصوص بخلاف إدراك الذوق فإنه مستلزم للأكل وذلك مستلزم للنقص كما تقدم . وطائفة من نظار المثبتة وصفوه بالأوصاف الخمس من الجانبين . ومنهم من قال : إنه يمكن أن تتعلق به هذه الأنواع كما تتعلق به الرؤية لاعتقادهم أن مصحح الرؤية الوجود ولم يقولوا إنه متصف بها . وأكثر مثبتي الرؤية لم يجعلوا مجرد الوجود هو المصحح للرؤية ؛ بل قالوا إن المقتضى أمور وجودية لا أن كل موجود يصح رؤيته وبين الأمرين فرق ؛ فإن الثاني يستلزم رؤية كل موجود ؛ بخلاف الأول ؛ وإذا كان المصحح للرؤية هي أمور وجودية لا يشترط فيها أمور عدمية ؛ فما كان أحق بالوجود وأبعد عن العدم كان أحق بأن تجوز رؤيته ومنهم من نفى ما سوى السمع والبصر من الجانبين .

فصل : وأما قول القائل
: الكمال والنقص من الأمور النسبية : فقد بينا أن الذي يستحقه الرب هو الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه وأنه الكمال الممكن للموجود ومثل هذا لا ينتفي عن الله أصلا والكمال النسبي هو المستلزم للنقص ؛ فيكون كمالا من وجه دون وجه ؛ كالأكل للجائع كمال له وللشبعان نقص فيه ؛ لأنه ليس بكمال محض بل هو مقرون بالنقص . والتعالي والتكبر والثناء على النفس وأمر الناس بعبادته ودعائه والرغبة إليه ونحو ذلك مما هو من خصائص الربوبية هذا كمال محمود من الرب تبارك وتعالى وهو نقص مذموم من المخلوق . وهذا كالخبر عما هو من خصائص الربوبية ؛ كقوله : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } وقوله تعالى { ادعوني أستجب لكم } وقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } وقوله : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } وقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقوله : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } وقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وأمثال هذا الكلام الذي يذكر الرب فيه عن نفسه بعض خصائصه وهو في ذلك صادق في إخباره عن نفسه بما هو من نعوت الكمال : هو أيضا من كماله فإن بيانه لعباده وتعريفهم ذلك هو أيضا من كماله . وأما غيره فلو أخبر بمثل ذلك عن نفسه لكان كاذبا مفتريا والكذب من أعظم العيوب والنقائص . وأما إذا أخبر المخلوق عن نفسه بما هو صادق فيه فهذا لا يذم مطلقا بل قد يحمد منه إذا كان في ذلك مصلحة كقول النبي صلى الله عليه وسلم { أنا سيد ولد آدم ولا فخر } . وأما إذا كان فيه مفسدة راجحة أو مساوية فيذم لفعله ما هو مفسدة لا لكذبه والرب تعالى لا يفعل ما هو مذموم عليه ؛ بل له الحمد على كل حال فكل ما يفعله هو منه حسن جميل محمود . وأما على قول من يقول : الظلم منه ممتنع لذاته فظاهر . وأما على قول الجمهور من أهل السنة والقدرية فإنه إنما يفعل بمقتضى الحكمة والعدل فأخباره كلها وأقواله وأفعاله كلها حسنة محمودة واقعة على وجه الكمال الذي يستحق عليه الحمد وله من الأمور التي يستحق بها الكبرياء والعظمة ما هو من خصائصه تبارك وتعالى . فالكبرياء والعظمة له بمنزلة كونه حيا قيوما قديما واجبا بنفسه وأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه العزيز الذي لا ينال وأنه قهار لكل ما سواه . فهذه كلها صفات كمال لا يستحقها إلا هو ؛ فما لا يستحقه إلا هو كيف يكون كمالا من غيره وهو معدوم لغيره ؟ فمن ادعاه كان مفتريا منازعا للربوبية في خواصها كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يقول الله تعالى : العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته } . وجملة ذلك : أن الكمال المختص بالربوبية ليس لغيره فيه نصيب فهذا تحقيق اتصافه بالكمال الذي لا نصيب لغيره فيه . ومثل هذا الكمال لا يكون لغيره فادعاؤه منازعة للربوبية وفرية على الله . ومعلوم أن النبوة كمال للنبي وإذا ادعاها المفترون - كمسيلمة وأمثاله - كان ذلك نقصا منهم لا لأن النبوة نقص ؛ ولكن دعواها ممن ليست له هو النقص وكذلك لو ادعى العلم والقدرة والصلاح من ليس متصفا بذلك كان مذموما ممقوتا وهذا يقتضي أن الرب تعالى متصف بكمال لا يصلح للمخلوق وهذا لا ينافي أن ما كان كمالا للموجود من حيث هو موجود : فالخالق أحق به ؛ ولكن يفيد أن الكمال الذي يوصف به المخلوق بما هو منه إذا وصف الخالق بما هو منه فالذي للخالق لا يماثله ما للمخلوق ولا يقاربه . وهذا حق فالرب تعالى مستحق للكمال مختص به على وجه لا يماثله فيه شيء فليس له سمي ولا كفؤ سواء كان الكمال مما لا يثبت منه شيء للمخلوق كربوبية العباد والغنى المطلق ونحو ذلك أو كان مما يثبت منه نوع للمخلوق ؛ فالذي يثبت للخالق منه نوع هو أعظم مما يثبت من ذلك للمخلوق : عظمة هي أعظم من فضل أعلى المخلوقات على أدناها . و " ملخص ذلك " أن المخلوق يذم منه الكبرياء والتجبر وتزكية نفسه أحيانا ونحو ذلك . وأما قول السائل : فإن قلتم نحن نقطع النظر عن متعلق الصفة وننظر فيها هل هي كمال أم نقص ؟ وكذلك نحيل الحكم عليها بأحدهما ؛ لأنها قد تكون كمالا لذات نقصا لأخرى على ما ذكر . فيقال : بل نحن نقول الكمال الذي لا نقص فيه للممكن الوجود هو كمال مطلق لكل ما يتصف به . وأيضا فالكمال الذي هو كمال للموجود - من حيث هو موجود - يمتنع أن يكون نقصا في بعض الصور ؛ لأن ما كان نقصا في بعض الصور تاما في بعض : هو كمال لنوع من الموجودات دون نوع فلا يكون كمالا للموجود من حيث هو موجود . ومن الطرق التي بها يعرف ذلك : أن نقدر موجودين : أحدهما متصف بهذا والآخر بنقيضه فإنه يظهر من ذلك أيهما أكمل وإذا قيل هذا أكمل من وجه وهذا أنقص من وجه لم يكن كمالا مطلقا .
والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .

تم نسخ هذه الرسالة من موقع الإسلام
مكتبة مشكاة الإسلامية

سقراط 17-07-04 10:33 PM

الرسالة العرشية
شيخ الإسلام ابن تيمية


مكتبة مشكاة الإسلامية
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام العالم الرباني والعابد النوراني ابن تيمية الحراني أيده الله تعالى
ما تقول في " العرش " هل هو كروي أم لا ؟ وإذا كان كرويا والله من ورائه محيط به بائن عنه فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله تعالى حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون غيره ولا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي ومع هذا نجد في قلوبنا قصدا يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة . فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ؛ وقد فطرنا عليها . وابسط لنا الجواب في ذلك بسطا شافيا : يزيل الشبهة ويحقق الحق - إن شاء الله - أدام الله النفع بكم وبعلومكم آمين .

فأجاب رحمه الله تعالى بما نصه : - الحمد لله رب العالمين . الجواب عن هذا السؤال بثلاث مقامات .
أحدها
أنه لقائل أن يقول : لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن " العرش " فلك من الأفلاك المستديرة الكروية الشكل ؛ لا بدليل شرعي . ولا بدليل عقلي . وإنما ذكر هذا طائفة من المتأخرين الذين نظروا في " علم الهيئة " وغيرها من أجزاء الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة وأن التاسع - وهو الأطلس - محيط بها مستدير كاستدارتها وهو الذي يحركها الحركة المشرقية وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة ثم سمعوا في أخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ذكر " عرش الله " وذكر " كرسيه " وذكر " السموات السبع " فقالوا بطريق الظن إن " العرش " هو الفلك التاسع ؛ لاعتقادهم أنه ليس وراء التاسع شيء إما مطلقا وإما أنه ليس وراءه مخلوق . ثم إن منهم من رأى أن " التاسع " هو الذي يحرك الأفلاك كلها ؛ فجعلوه مبدأ الحوادث وزعموا أن الله يحدث فيه ما يقدره في الأرض أو يحدثه في " النفس " التي زعموا أنها متعلقة به ؛ أو في " العقل " الذي زعموا أنه الذي صدر عنه هذا الفلك وربما سماه بعضهم الروح وربما جعل بعضهم " النفس " هي الروح وربما جعل بعضهم " النفس " هي اللوح المحفوظ كما جعل " العقل " هو القلم . وتارة يجعلون " الروح " هو العقل الفعال العاشر الذي لفلك القمر و " النفس " المتعلقة به وربما جعلوا ذلك بالنسبة إلى الحق سبحانه كالدماغ بالنسبة إلى الإنسان يقدر فيه ما يفعله قبل أن يكون إلى غير ذلك من المقالات التي قد شرحناها وبينا فسادها في غير هذا الموضع . ومنهم من يدعي أنه علم ذلك بطريق الكشف والمشاهدة ويكون كاذبا فيما يدعيه وإنما أخذ ذلك عن هؤلاء المتفلسفة تقليدا لهم أو موافقة لهم على طريقتهم الفاسدة ؛ كما فعل أصحاب " رسائل إخوان الصفا " وأمثالهم . وقد يتمثل في نفسه ما تقلده عن غيره فيظنه كشفا كما يتخيل النصراني " التثليث " الذي يعتقده وقد يرى ذلك في منامه فيظنه كشفا وإنما هو تخيل لما اعتقده . وكثير من أرباب الاعتقادات الفاسدة إذا ارتاضوا صقلت الرياضة نفوسهم فتتمثل لهم اعتقاداتهم فيظنونها كشفا . وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع . و ( المقصود هنا : أن ما ذكروه من أن " العرش " هو الفلك التاسع : قد يقال : إنه ليس لهم عليه دليل لا عقلي ولا شرعي . أما " العقلي " فإن أئمة الفلاسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أنه ليس وراء الفلك التاسع شيء آخر ؛ بل ولا قام عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط ؛ بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك على ما ذكروه وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون لا ثبوته ولا انتفاءه . " مثال ذلك " أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا ؛ بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس ؛ فاستدلوا بذلك على أنه في فلك فوقه . كما استدلوا بالحركات المختلفة على أن الأفلاك مختلفة . حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك ؛ كفلك التدوير وغيره . فأما ما كان موجودا فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته : فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقهم . وكذلك قول القائل : إن حركة " التاسع " مبدأ الحوادث خطأ وضلال على أصولهم ؛ فإنهم يقولون : إن " الثامن " له حركة تخصه بما فيه من الثوابت ولتلك الحركة قطبان غير قطبي " التاسع " وكذلك " السابع " و " السادس " . وإذا كان لكل فلك حركة تخصه - والحركات المختلفة هي سبب الأشكال الحادثة المختلفة الفلكية وتلك الأشكال سبب الحوادث السفلية - كانت حركة التاسع جزء السبب كحركة غيره . فالأشكال الحادثة في الفلك - لمقارنة الكوكب الكوكب في درجة واحدة ومقابلته له إذا كان بينهما " نصف الفلك " وهو مائة وثمانون درجة . وتثليثه له إذا كان بينهما " ثلث الفلك " وهو مائة وعشرون درجة وتربيعه له إذا كان بينهما " ربعه " تسعون درجة وتسديسه له إذا كان بينهما " سدس الفلك " ستون درجة ؛ وأمثال ذلك من الأشكال - إنما حدثت بحركات مختلفة وكل حركة ليست عين الأخرى ؛ إذ حركة " الثامن " التي تخصه ليست عين حركة التاسع ؛ وإن كان تابعا له في الحركة الكلية كالإنسان المتحرك في السفينة إلى خلاف حركتها . وكذلك حركة " السابع " التي تخصه ليست عن التاسع ولا عن الثامن وكذلك سائر الأفلاك فإن حركة كل واحد التي تخصه ليست عما فوقه من الأفلاك فكيف يجوز أن يجعل مبدأ الحوادث كلها مجرد حركة التاسع كما زعمه من ظن أن العرش كثيف والفلك التاسع عندهم بسيط متشابه الأجزاء ؛ لا اختلاف فيه أصلا فكيف يكون سببا لأمور مختلفة . لا باعتبار القوابل وأسباب أخر ؟ ولكنهم قوم ضالون يجعلونه مع هذا ثلاثمائة وستين درجة ويجعلون لكل درجة من الأثر ما يخالف الأخرى ؛ لا باختلاف القوابل ؛ كمن يجيء إلى ماء واحد فيجعل لبعض جزأيه من الأثر ما يخالف الآخر ؛ لا بحسب القوابل ؛ بل يجعل أحد أجزائه مسخنا والآخر مبردا والآخر مسعدا والآخر مشقيا وهذا مما يعلمون هم وكل عاقل أنه باطل وضلال . وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة كان الجزم بأن ما أخبرت به الرسل هو أن العرش هو الفلك التاسع رجما بالغيب وقولا بلا علم . هذا كله بتقدير ثبوت الأفلاك التسعة على المشهور عند أهل الهيئة ؛ إذ في ذلك من النزاع والاضطراب وفي أدلة ذلك ما ليس هذا موضعه وإنما نتكلم على هذا التقدير . وأيضا : فالأفلاك في أشكالها وإحاطة بعضها ببعض من جنس واحد ؛ فنسبة السابع إلى السادس كنسبة السادس إلى الخامس ؛ وإذا كان هناك فلك تاسع فنسبته إلى الثامن كنسبة الثامن إلى السابع . وأما " العرش " فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض . قال الله تعالى : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به } الآية . وقال سبحانه : { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } . فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة وأن حملته ومن حوله يسبحون ويستغفرون للمؤمنين . ومعلوم أن قيام فلك من الأفلاك - بقدرة الله تعالى - كقيام سائر الأفلاك لا فرق في ذلك بين كرة وكرة وإن قدر أن لبعضها ملائكة في نفس الأمر تحملها فحكمه حكم نظيره . قال تعالى { وترى الملائكة حافين من حول العرش } الآية . فذكر هنا أن الملائكة تحف من حول العرش وذكر في موضع آخر أن له حملة وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله فقال : { الذين يحملون العرش ومن حوله } . و " أيضا " فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض كما قال تعالى : { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السموات والأرض } وفي رواية له { كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء } وفي رواية لغيره صحيحة : { كان الله ولم يكن شيء معه وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء } وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء } . وهذا التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة . وهو سبحانه وتعالى متمدح بأنه ذو العرش كقوله سبحانه : { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } وقوله تعالى { رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق } { يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } وقال تعالى : { وهو الغفور الودود } { ذو العرش المجيد } { فعال لما يريد } وقد قرئ " المجيد " بالرفع صفة لله ؛ وقرئ بالخفض صفة العرش . وقال تعالى : { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم } { سيقولون لله قل أفلا تتقون } فوصف العرش بأنه مجيد وأنه عظيم وقال تعالى : { فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } فوصفه بأنه كريم أيضا . وكذلك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب : لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم } فوصفه في الحديث بأنه عظيم وكريم أيضا . فقول القائل المنازع : " إن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه " . لو كان العرش من جنس الأفلاك لكانت نسبته إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر ؛ كما لم يوجب ذلك تخصيص سماء دون سماء وإن كانت العليا بالنسبة إلى السفلى كالفلك على قول هؤلاء . وإنما امتاز عما دونه بكونه أكبر كما تمتاز السماء العليا عن الدنيا . بل نسبة السماء إلى الهواء ونسبة الهواء إلى الماء والأرض : كنسبة فلك إلى فلك . ومع هذا فلم يخص واحدا من هذه الأجناس عما يليه بالذكر ؛ ولا بوصفه بالكرم والمجد والعظمة . وقد علم أنه ليس سببا لذواتها ولا لحركاتها بل لها حركات تخصها فلا يجوز أن يقال : حركته هي سبب الحوادث ؛ بل إن كانت حركة الأفلاك سببا للحوادث فحركات غيره التي تخصه أكثر ولا يلزم من كونه محيطا بها أن يكون أعظم من مجموعها إلا إذا كان له من الغلظ ما يقاوم ذلك ؛ وإلا فمن المعلوم أن الغليظ إذ كان متقاربا فمجموع الداخل أعظم من المحيط ؛ بل قد يكون بقدره أضعافا ؛ بل الحركات المختلفة التي ليست عن حركته أكثر لكن حركته تشملها كلها . وقد ثبت في صحيح مسلم { عن جويرية بنت الحارث : أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وكانت تسبح بالحصى من صلاة الصبح إلى وقت الضحى فقال : لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهن : سبحان الله عدد خلقه سبحان الله زنة عرشه سبحان الله رضى نفسه سبحان الله مداد كلماته } . فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان . وهم يقولون : إن الفلك التاسع لا خفيف ولا ثقيل بل يدل على أنه وحده أثقل ما يمثل به كما أن عدد المخلوقات أكثر ما يمثل به . وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : { جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه ؛ فقال : يا محمد رجل من أصحابك لطم وجهي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم ادعوه فدعوه فقال : لم لطمت وجهه ؟ فقال : يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول : والذي اصطفى موسى على البشر فقلت : يا خبيث وعلى محمد ؟ فأخذتني غضبة فلطمته . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذا بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقته } فهذا فيه بيان أن للعرش قوائم ؛ وجاء ذكر القائمة بلفظ الساق والأقوال متشابهة في هذا الباب . وقد أخرجا في الصحيحين عن جابر قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ } قال : فقال رجل لجابر : إن البراء يقول اهتز السرير قال : إنه كان بين هذين الحيين الأوس والخزرج ضغائن : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : { اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ } ورواه مسلم في صحيحه من حديث أنس { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال - وجنازة سعد موضوعة - : اهتز لها عرش الرحمن } . وعندهم أن حركة الفلك التاسع دائمة متشابهة ومن تأول ذلك على أن المراد به استبشار حملة العرش وفرحهم ؛ فلا بد له من دليل على ما قال كما ذكره أبو الحسن الطبري وغيره مع أن سياق الحديث ولفظه ينفي هذا الاحتمال . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة ؛ هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها قالوا يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك ؟ قال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة } . وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا : وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد . فقال : أعدها علي يا رسول الله ففعل . قال : وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال وما هي يا رسول الله قال : الجهاد في سبيل الله } . وفي صحيح البخاري : { إن أم الربيع بنت البراء - وهي أم حارثة بن سراقة - أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة - وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب - فإن كان في الجنة صبرت وإن كان في غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء . قال : يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى } . فهذا قد بين في " الحديث الأول " أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها وأن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها ؛ و " الحديث الثاني " يوافقه في وصف الدرج المائة و " الحديث الثالث " يوافقه في أن الفردوس أعلاها . وإذا كان العرش فوق الفردوس فلقائل أن يقول : إذا كان كذلك كان في هذا من العلو والارتفاع ما لا يعلم بالهيئة ؛ إذ لا يعلم بالحساب أن بين التاسع والأول كما بين السماء والأرض مائة مرة وعندهم أن التاسع ملاصق للثامن فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها . وفي حديث { أبي ذر المشهور قال : قلت يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال آية الكرسي ثم قال يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة } والحديث له طرق وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وأحمد في المسند وغيرهما . وقد استدل من استدل على أن " العرش مقبب " بالحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن جبير بن مطعم قال : { أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وجاع العيال وهلك المال فادع الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك ؛ فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال ويحك أتدري ما تقول ؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك إن الله على عرشه ؛ وإن عرشه على سمواته وأرضه هكذا - وقال بأصابعه مثل القبة } - وفي لفظ : { وإن عرشه فوق سمواته وسمواته فوق أرضه هكذا - وقال بأصابعه مثل القبة } . وهذا الحديث - وإن دل على التقبيب وكذلك قوله عن الفردوس إنها أوسط الجنة وأعلاها مع قوله إن سقفها عرش الرحمن وإن فوقها عرش الرحمن والأوسط لا يكون الأعلى إلا في المستدير فهذا - لا يدل على أنه فلك من الأفلاك بل إذا قدر أنه فوق الأفلاك كلها أمكن هذا فيه سواء قال القائل إنه محيط بالأفلاك أو قال إنه فوقها وليس محيطا بها كما أن وجه الأرض فوق النصف الأعلى من الأرض وإن لم يكن محيطا بذلك . وقد قال إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة . ومعلوم أن الفلك مستدير مثل ذلك لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلو ولا يستلزم استدارة من جميع الجوانب إلا بدليل منفصل . ولفظ " الفلك " يدل على الاستدارة مطلقا ؛ كقوله تعالى : { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } وقوله تعالى { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون } يقتضي أنها في فلك مستدير مطلقا كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في فلكة مثل فلكة المغزل . وأما لفظ " القبة " فإنه لا يتعرض لهذا المعنى ؛ لا بنفي ولا إثبات ؛ لكن يدل على الاستدارة من العلو ؛ كالقبة الموضوعة على الأرض . وقد قال بعضهم : إن الأفلاك غير السموات لكن رد عليه غيره هذا القول بأن الله تعالى قال : { ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا } { وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا } فأخبر أنه جعل القمر فيهن وقد أخبر أنه في الفلك وليس هذا موضع بسط الكلام في هذا . وتحقيق الأمر فيه وبيان أن ما علم بالحساب - علما صحيحا - لا ينافي ما جاء به السمع وأن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافي معقولا صحيحا ؛ إذ قد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع . فإن ذلك يحتاج إليه في هذا ونظائره مما قد أشكل على كثير من الناس ؛ حيث يرون ما يقال : إنه معلوم بالعقل مخالفا لما يقال إنه معلوم بالسمع ؛ فأوجب ذلك أن كذبت كل طائفة بما لم تحط بعلمه ؛ حتى آل الأمر بقوم من أهل الكلام إلى أن تكلموا في معارضة الفلاسفة في " الأفلاك " بكلام ليس معهم به حجة ؛ لا من شرع ولا من عقل وظنوا أن ذلك الكلام من نصر الشريعة وكان ما جحدوه معلوما بالأدلة الشرعية أيضا . وأما " المتفلسفة وأتباعهم " فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات ولا يعلمون ما وراء ذلك ؛ مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحابا وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت ونحو ذلك لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير في الرحم لكن ما الموجب لأن يكون المني المتشابه الأجزاء تخلق منه هذه الأعضاء المختلفة والمنافع المختلفة على هذا الترتيب المحكم المتقن الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب . وكذلك ما الموجب لأن يكون هذا الهواء أو البخار منعقدا سحابا مقدرا بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان مختص به ؟ وينزل على قوم عند حاجتهم إليه فيسقيهم بقدر الحاجة لا يزيد فيهلكوا ولا ينقص فيعوزوا وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر أو تمطر مطرا لا يغنيها - كأرض مصر إذ كان المطر القليل لا يكفيها والكثير يهدم أبنيتها - قال تعالى : { أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون } . وكذلك السحاب المتحرك وقد علم أن كل حركة فإما أن تكون " قسرية " وهي تابعة للقاسر أو " طبيعية " وإنما تكون إذا خرج المطبوع عن مركزه فيطلب عوده إليه ؛ أو " إرادية " وهي الأصل فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية التي تصدر عن ملائكة الله تعالى التي هي المدبرات أمرا والمقسمات أمرا وغير ذلك مما أخبر الله به عن الملائكة وفي المعقول ما يصدق ذلك . فالكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا . ( والمقصود هنا : أن نبين أن ما ذكر في السؤال زائل على كل تقدير فيكون الكلام في الجواب مبنيا على حجج علمية لا تقليدية ولا مسلمة وإذا بينا حصول الجواب على كل تقدير - كما سنوضحه - لم يضرنا بعد ذلك أن يكون بعض التقديرات هو الواقع - وإن كنا نعلم ذلك - لكن تحرير الجواب على تقدير دون تقدير وإثبات ذلك فيه طول لا يحتاج إليه هنا ؛ فإن الجواب إذا كان حاصلا على كل تقدير كان أحسن وأوجز .

المقام الثاني
أن يقال " العرش " سواء كان هو الفلك التاسع أو جسما محيطا بالفلك التاسع أو كان فوقه من جهة وجه الأرض غير محيط به أو قيل فيه غير ذلك فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر كما قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ } . وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ } . وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك ؛ أين الجبارون ؛ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول : أنا الملك ؛ أين الجبارون ؛ أين المتكبرون ؟ } وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يأخذ الله سمواته وأرضه بيده ويقول أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم } وفي لفظ { قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول : يأخذ الجبار سمواته وأرضه . وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول : أنا الرحمن ؛ أنا الملك ؛ أنا القدوس ؛ أنا السلام ؛ أنا المؤمن ؛ أنا المهيمن ؛ أنا العزيز ؛ أنا الجبار ؛ أنا المتكبر ؛ أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا ؛ أنا الذي أعدتها . أين المتكبرون ؟ أين الجبارون : } وفي لفظ { أين الجبارون أين المتكبرون ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم } والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا ؛ وفي بعض ألفاظه قال : قرأ على المنبر : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } الآية . قال : { مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة } وفي لفظ : { يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة . أنا الله الواحد } . وقال ابن عباس : " يقبض الله عليهما فما ترى طرفاهما بيده " وفي لفظ عنه : " ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم " وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : { أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال : يا محمد إن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع ؛ والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ؛ فيهزهن . فيقول : أنا الملك أنا الملك قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الآية } . ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة - المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول - ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة . قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون الإمام نظير مالك - في كلامه المشهور الذي رد فيه على الجهمية ومن خالفها ومن أول كلامه قال - فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا ؛ فعمي عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } فقال : لا يراه أحد يوم القيامة ؛ فجحد - والله - أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة ؛ من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } وقد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون . إلى أن قال : وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة ؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا . { وقال المسلمون : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا . قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا . قال : فإنكم ترون ربكم كذلك } . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض } . { وقال لثابت بن قيس : قد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة } وقال - فيما بلغنا عنه - { إن الله يضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم } . { وقال له رجل من العرب إن ربنا ليضحك ؟ قال : نعم قال لن نعدم من رب يضحك خيرا } . في أشباه لهذا مما لم نحصه . وقال تعالى : { وهو السميع البصير } { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } وقال : { ولتصنع على عيني } وقال : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وقال : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } . فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي ألقي في روعهم ؛ وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه علم ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف انتهى . وإذا كان كذلك فإذا قدر أن المخلوقات كالكرة وهذا قبضه لها ورميه بها وإنما بين لنا من عظمته وصف المخلوقات بالنسبة إليه ما يعقل نظيره منا . ثم الذي في القرآن والحديث يبين أنه إن شاء قبضها وفعل بها ما ذكر كما يفعل ذلك في يوم القيامة وإن شاء لم يفعل ذلك فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى وإن شاء لم يفعل ذلك وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها . ومن المعلوم أن الواحد منا - ولله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته فهو في الحالتين مباين لها وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات - كإحاطة الكرة بما فيها - أو قيل إنه فوقها وليس محيطا بها ؛ كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك . فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات والخالق سبحانه وتعالى فوقه والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت وتمام هذا ببيان :

المقام الثالث
وهو أن نقول : لا يخلو إما أن يكون العرش كرويا كالأفلاك ويكون محيطا بها وإما أن يكون فوقها وليس هو كرويا ؛ فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كروية الشكل وأن الجهة العليا هي جهة المحيط وهي المحدب وأن الجهة السفلى هو المركز وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط . وأما الجهات الست فهي للحيوان فإن له ست جوانب يؤم جهة فتكون أمامه ويخلف أخرى فتكون خلفه وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي شماله وجهة تحاذي رأسه ؛ وجهة تحاذي رجليه وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة ؛ بل هي بحسب النسبة والإضافة فيكون يمين هذا ما يكون شمال هذا ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا . لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية . فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم ولو قدر أن هناك أحدا لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة ولا من في هذه تحت من في هذه كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس . وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة وهو الذي يسمى عرض البلد فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستديرة ليس بعضها فوق بعض ولا تحته ؛ فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات والأثقال لا يقال إنه تحت أولئك وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان وهو تحت إضافي ؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فالسقف فوقها وإن كانت رجلاها تحاذيه . وكذلك من علق منكوسا فإنه تحت السماء وإن كانت رجلاه تلي السماء وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك أن الجانب الآخر تحته وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة . واستدارة الأفلاك - كما أنه قول أهل الهيئة والحساب - فهو الذي عليه علماء المسلمين كما ذكره أبو الحسن بن المنادى وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم أنه متفق عليه بين علماء المسلمين وقد قال تعالى : { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } . قال ابن عباس : فلكة مثل فلكة المغزل . و " الفلك في اللغة " هو المستدير . ومنه قولهم : تفلك ثدي الجارية إذا استدار وكل من يعلم أن الأفلاك مستديرة يعلم أن المحيط هو العالي على المركز من كل جانب ومن توهم أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر فهو متوهم عندهم . وإذا كان الأمر كذلك فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها - وهو فوقها - مطلقا فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهاته الباقية أصلا . ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو كان جاهلا باتفاق العقلاء فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه وغاية ما يقدر أن يكون كروي الشكل والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله ؛ فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا . وأما قول القائل : إذا كان كرويا والله من ورائه محيط به بائن عنه فما فائدة : أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته ؟ فيقصد العلو دون التحت فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي ومع هذا نجد في قلوبنا قصدا يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فأخبرونا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها . فيقال له : هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم وهذا غلط عظيم ؛ فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا وهذا قلب للحقائق ؛ إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقا . و " أهل الهيئة " يقولون : لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل - كالحجر ونحوه - لكان ينتهي إلى المركز حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر لالتقيا جميعا في المركز ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه ؛ بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك ؛ كالمشرق والمغرب فإنه لو قدر أن رجلا بالمشرق في السماء أو الأرض ورجلا بالمغرب في السماء أو الأرض : لم يكن أحدهما تحت الآخر وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جانبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا ؛ لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين : ( أحدهما أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات ؛ فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق : كان صعوده مما يلي رأسه أقرب إذا أمكنه ذلك ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية ولا أنه يذهب يمينا أو شمالا أو أماما أو خلفا إلى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد لأنه أي مكان ذهب إليه كان بمنزلة مكانه أو هو دونه وكان الفلك فوقه فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس تطويلا وتعبا من غير فائدة . ولو أن رجلا أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب ؛ فتنحرف عن سمت الرأس فكيف بمن هو فوق كل شيء دائما لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى ؟ . وكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق - وهو الخط المستقيم - فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب إلى طريق منحرف طويل . والله تعالى فطر عباده على الصحة والاستقامة إلا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها . ( الوجه الثاني : أنه إذا قصد السفل بلا علو كان ينتهي قصده إلى المركز وإن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره ؛ من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء فلا بد له من قصد العلو ضرورة سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها . ولو فرض أنه قال : أقصده من اليمين مع العلو أو من السفل مع العلو : كان هذا بمنزلة من يقول : أريد أن أحج من المغرب فأذهب إلى خراسان ثم أذهب إلى مكة ؛ بل بمنزلة من يقول أصعد إلى الأفلاك فأنزل في الأرض ثم أصعد إلى الفلك من الناحية الأخرى ؛ فهذا وإن كان ممكنا في المقدور لكنه مستحيل من جهة امتناع إرادة القاصد له ؛ وهو مخالف للفطرة فإن القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق لا سيما إذا كان مقصوده معبوده الذي يعبده ويتوكل عليه وإذا توجه إليه على غير الصراط المستقيم كان سيره منكوسا معكوسا . و " أيضا " : فإن هذا يجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه ؛ ويريده وينفر عنه فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى كان جامعا بين قصدين متناقضين ؛ فلا يكون قصده له تاما ؛ إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده . وهذا معلوم بالفطرة . فإن الشخص إذا كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم محبة تامة ويقصده أو يحب غيره ممن يحب - سواء كانت محبته محمودة أو مذمومة - متى كانت المحبة تامة وطلب المحبوب طلبه من أقرب طريق يصل إليه ؛ بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة : مثل أن يحب ما تكره محبته في الدين فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده وعقله ينهاه عن ذلك ؛ فتراه يقصده من طريق بعيد كما تقول العامة : رجل إلى قدام ورجل إلى خلف . وكذلك إذا كان في دينه نقص وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد أو غير ذلك من القصودات التي تحب في الدين وتكرهها النفس ؛ فإنه يبقى قاصدا لذلك من طريق بعيد متباطئا في السير وهذا كله معلوم بالفطرة . وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه ؛ بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها وينال به مقصوده إذا كان القصد تاما . ولو كان رجل في مكان عال وآخر يناديه ؛ لتوجه إليه وناداه ولو حط رأسه في بئر وناداه بحيث يسمع صوته لكان هذا ممكنا ؛ لكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة ؛ ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد ونحوه .

و " حديث الإدلاء " الذي روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر رضي الله عنهما قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن البصري عن أبي هريرة وهو منقطع فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع ؛ فإن كان ثابتا فمعناه موافق لهذا ؛ فإن قوله : { لو أدلي أحدكم بحبل لهبط على الله } إنما هو تقدير مفروض ؛ أي لو وقع الإدلاء لوقع عليه لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئا ؛ لأنه عال بالذات وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى الجهة الأخرى لكن بتقدير فرض الإدلاء يكون ما ذكر من الجزاء . فهكذا ما ذكره السائل : إذا قدر أن العبد يقصده من تلك الجهة كان هو سبحانه يسمع كلامه وكان متوجها إليه بقلبه لكن هذا مما تمنع منه الفطرة ؛ لأن قصد الشيء القصد التام ينافي قصد ضده ؛ فكما أن الجهة العليا بالذات تنافي الجهة السفلى فكذلك قصد الأعلى بالذات ينافي قصده من أسفل وكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية - لأنها عالية - فترد الهابط بعلوها كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها - وهو المركز - لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط إلى المركز فإن قدر أن الدافع أقوى كان صاعدا به إلى الفلك من تلك الناحية وصعد به إلى الله وإنما يسمى هبوطا باعتبار ما في أذهان المخاطبين أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطا ويسمى هبوطا مع تسمية إهباطه إدلاء وهو إنما يكون إدلاء حقيقيا إلى المركز ومن هناك إنما يكون مدا للحبل والدلو لا إدلاء له لكن الجزاء والشرط مقدران لا محققان . فإنه قال : لو أدلى لهبط ؛ أي لو فرض أن هناك إدلاء لفرض أن هناك هبوطا وهو يكون إدلاء وهبوطا إذا قدر أن السموات تحت الأرض وهذا التقدير منتف ؛ ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه فلا يتصور أن يدلي ولا يتصور أن يهبط على الله شيء لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل ولكن لا يكون في حقه إدلاء فلا يكون في حقه هبوطا عليه . كما لو خرق بحبل من القطب إلى القطب أو من مشرق الشمس إلى مغربها وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض فإن الله قادر على ذلك كله ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير من أن يخرق من جانب اليمين منا إلى جانب اليسار أو من جهة أمامنا إلى جهة خلفنا أو من جهة رءوسنا إلى جهة أرجلنا إذا مر الحبل بالأرض فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز وبتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه إدلاء ولا هبوطا . وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا وما فوق رءوسنا فوق لنا وما ندليه من ناحية رءوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط فإذا قدر أن أحدنا أدلى بحبل كان هابطا على ما هناك لكن هذا تقدير ممتنع في حقنا والمقصود به بيان إحاطة الخالق سبحانه وتعالى كما بين أنه يقبض السموات ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات . ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } . وهذا كله على تقدير صحته فإن الترمذي لما رواه قال : وفسره بعض أهل الحديث بأنه هبط على علم الله وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل ؛ وهو أنه حال بذاته في كل مكان وأن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك . والتحقيق : أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتا فإن قوله : { لو أدلى بحبل لهبط } يدل على أنه ليس في المدلي ولا في الحبل ولا في الدلو ولا في غير ذلك وأنها تقتضي أنه من تلك الناحية ؛ وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية ؛ بل بتقدير ثبوته يكون دالا على الإحاطة . والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة وليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع ؛ لكن لا نتكلم إلا بما نعلم وما لا نعلمه أمسكنا عنه وما كان مقدمة دليله مشكوكا فيها عند بعض الناس كان حقه أن يشك فيه حتى يتبين له الحق وإلا فليسكت عما لم يعلم . وإذا تبين هذا فكذلك قاصده يقصده إلى تلك الناحية ولو فرض أنا فعلناه لكنا قاصدين له على هذا التقدير لكن قصدنا له بالقصد إلى تلك الجهة ممتنع في حقنا ؛ لأن القصد التام الجازم يوجب طلب المقصود بحسب الإمكان . ولهذا قد بينا في غير هذا الموضع - لما تكلمنا على تنازع الناس في النية المجردة عن الفعل هل يعاقب عليها أم لا يعاقب ؟ بينا - أن " الإرادة الجازمة " توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد ومتى لم يفعل مقدوره لم تكن إرادته جازمة ؛ بل يكون هما ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم تكتب عليه فإن تركها لله كتبت له حسنة . ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز كما قال الإمام أحمد الهم همان : هم خطرات . وهم إصرار . فيوسف عليه السلام هم هما تركه لله فأثيب عليه . وتلك همت هم إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها وإن لم يحصل لها المطلوب . والذين قالوا يعاقب بالإرادة احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه أراد قتل صاحبه } وفي رواية { إنه كان حريصا على قتل صاحبه } . فهذا أراد إرادة جازمة وفعل ما يقدر عليه ؛ وإن لم يدرك مطلوبه فهو بمنزلة امرأة العزيز ؛ فمتى كان القصد جازما لزم أن يفعل القاصد ما يقدر عليه من حصول المقصود فإذا كان قادرا على حصول مقصوده بطريق مستقيم امتنع مع القصد التام أن يحصله بطريق معكوس من بعيد . فلهذا امتنع في فعل العباد عند ضرورتهم ودعائهم لله تعالى وتمام قصدهم له أن لا يتوجهوا إليه إلا توجها مستقيما ؛ فيتوجهوا إلى العلو ؛ دون سائر الجهات ؛ لأنه الصراط المستقيم القريب ؛ وما سواه فيه من البعد والانحراف والطول ما فيه . فمع القصد التام الذي هو حال الداعي العابد والسائل المضطر يمتنع أن يتوجه إليه إلا إلى العلو ويمتنع أن يتوجه إليه إلى جهة أخرى كما يمتنع أن يدلي بحبل يهبط عليه ؛ فهذا هذا والله أعلم . وأما من جهة الشريعة فإن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها ؛ لا بتبديل الفطرة وتغييرها قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ } . وقال الله تعالى : { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } فجاءت الشريعة في العبادة والدعاء بما يوافق الفطرة بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين المتفلسفة وغيرهم ؛ فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعا وخالفوا العقل والنقل كما قد بسطناه في غير هذا الموضع . وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه : { إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ؛ ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا ؛ ولكن عن يساره أو تحت قدمه } وفي رواية { أنه أذن أن يبصق في ثوبه } . وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم { لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه فقال له أبو رزين : كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخليا به فالله أكبر } . ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وخاطبه - إذا قدر أن يخاطبه - لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه فهو مستقبل له بوجهه مع كونه فوقه ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده التام له وإن كان ذلك ممكنا وإنما يفعل ذلك من ليس مقصوده مخاطبته ؛ كما يفعل من ليس مقصوده التوجه إلى شخص بخطاب فيعرض عنه بوجهه ويخاطب غيره ؛ ليسمع هو الخطاب ؛ فأما مع زوال المانع فإنما يتوجه إليه ؛ فكذلك العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه وهو فوقه فيدعوه من تلقائه لا من يمينه ولا من شماله ويدعوه من العلو لا من السفل كما إذا قدر أنه يخاطب القمر . وقد ثبت في الصحيحين أنه قال : { لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم } . واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه . وروى أحمد عن محمد بن سيرين { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله تعالى { قد أفلح المؤمنون } { الذين هم في صلاتهم خاشعون } فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده } فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلا للفطرة ؛ لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع - وهو الذل والسكوت - لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله بل يناسب حاله الإطراق وغض بصره أمامه . وليس نهي المصلي عن رفع بصره في الصلاة ردا على " أهل الإثبات " الذين يقولون : إنه على العرش كما يظنه بعض جهال الجهمية فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر فالجميع سواء ولو كان كذلك لم ينه عن رفع البصر إلى جهة ويؤمر برده إلى أخرى لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء . و " أيضا " فلو كان الأمر كذلك لكان النهي عن رفع البصر شاملا لجميع أحوال العبد وقد قال تعالى : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } فليس العبد ينهى عن رفع بصره مطلقا وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع ؛ لأن خفض البصر من تمام الخشوع كما قال تعالى : { خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث } وقال تعالى : { وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } . و " أيضا " : فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام فكيف وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش أو أنه ليس فوق السماء أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا محايث له ولا مباين له أو أنه لا يقصد العبد إذا دعاه العلو دون سائر الجهات ؟ بل جميع ما يقوله الجهمية من النفي - ويزعمون أنه الحق - ليس معهم به حرف من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها بل الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة مملوءة بما يدل على نقيض قولهم وهم يقولون : إن ظاهر ذلك كفر ؛ فنؤول أو نفوض ؛ فعلى قولهم ليس في الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة في هذا الباب إلا ما ظاهره الكفر وليس فيها من الإيمان في هذا الباب شيء والسلب الذي يزعمون أنه الحق - الذي يجب على المؤمن أو خواص المؤمنين اعتقاده عندهم - لم ينطق به رسول ولا نبي ولا أحد من ورثة الأنبياء والمرسلين ؛ والذي نطقت به الأنبياء وورثتهم ليس عندهم هو الحق بل هو مخالف للحق في الظاهر ؛ بل وحذاقهم يعلمون أنه مخالف للحق في الظاهر والباطن . لكن هؤلاء منهم من يزعم أن الأنبياء لم يمكنهم أن يخاطبوا الناس إلا بخلاف الحق الباطن ؛ فلبسوا وكذبوا لمصلحة العامة . فيقال لهم : فهلا نطقوا بالباطن لخواصهم الأذكياء الفضلاء إن كان ما يزعمونه حقا ؟ . وقد علم أن خواص الرسل هم على الإثبات أيضا وأنه لم ينطق بالنفي أحد منهم إلا أن يكذب على أحدهم ؛ كما يقال عن عمر : { إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر كانا يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما } . وهذا مختلق باتفاق أهل العلم وكذلك ما نقل عن علي وأهل بيته : أن عندهم علما باطنا يخالف الظاهر الذي عند جمهور الأمة . وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن علي رضي الله عنه أنه لم يكن عندهم من النبي صلى الله عليه وسلم سر ليس عند الناس ولا كتاب مكتوب إلا ما كان في الصحيفة وفيها { الديات وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر } . ثم إنه من المعلوم أن من جعله الله هاديا مبلغا بلسان عربي مبين إذا كان لا يتكلم قط إلا بما يخالف الحق الباطن الحقيقي فهو إلى الضلال والتدليس أقرب منه إلى الهدى والبيان . وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا . والمقصود أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره كله حق يصدق بعضه بعضا وهو موافق لفطرة الخلائق وما جعل فيهم من العقول الصريحة والقصود الصحيحة لا يخالف العقل الصريح ولا القصد الصحيح ولا الفطرة المستقيمة ولا النقل الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وإنما يظن تعارضها من صدق بباطل من النقول . أو فهم منه ما لم يدل عليه ؛ أو اعتقد شيئا ظنه من العقليات وهو من الجهليات . أو من الكشوفات وهو من الكسوفات - إن كان ذلك معارضا لمنقول صحيح - وإلا عارض بالعقل الصريح أو الكشف الصحيح : ما يظنه منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون كذبا عليه أو ما يظنه لفظا دالا على شيء ولا يكون دالا عليه كما ذكروه في قوله صلى الله عليه وسلم { الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه } حيث ظنوا أن هذا وأمثاله يحتاج إلى التأويل وهذا غلط منهم - لو كان هذا اللفظ ثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم - فإن هذا اللفظ صريح في أن الحجر ليس هو من صفات الله إذ قال : { هو يمين الله في الأرض } فتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق فلا يكون اليد الحقيقية وقوله { فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه } صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحا لله ولا مقبلا ليمينه ؛ لأن المشبه ليس هو المشبه به وقد أتى بقوله : { فكأنما } وهي صريحة في التشبيه ؛ وإذا كان اللفظ صريحا في أنه جعل بمنزلة اليمين لا أنه نفس اليمين كان من اعتقد أن ظاهره أنه حقيقة اليمين قائلا للكذب المبين . فهذا كله بتقدير أن يكون العرش كري الشكل سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع قد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات وهو العالي عليها من جميع الجوانب وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه وأن القاصد إلى ما فوق العرش - بهذا التقدير - إنما يقصد إلى العلو لا يجوز في الفطرة ولا في الشرعة - مع تمام قصده - أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست ؛ بل هو أيضا يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه كما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلا من المثل بالقمر - ولله المثل الأعلى - وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر - وهو آية من آيات الله تعالى - فالخالق أعلى وأعظم . وأما إذا قدر أن العرش ليس كري الشكل بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض وأنه فوق الأفلاك الكرية كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه وليس كري الشكل فعلى كل تقدير لا نتوجه إلى الله إلا إلى العلو لا إلى غير ذلك من الجهات . فقد ظهر أنه - على كل تقدير - لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مباينا لخلقه وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات - كما يحيط بها إذا كانت في قبضته - أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها فهو على التقديرين يكون فوقها مباينا لها ؛ فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وعلى هذا التقدير في العرش لا يلزم شيء من المحذور والتناقض وهذا يزيل كل شبهة وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين . ( أحدهما أن يظن أن العرش إذا كان كريا والله فوقه وجب أن يكون الله كريا ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري - كالفلك التاسع - من جميع الجهات وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال فإن الله مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري - سواء كان هو التاسع أو غيره - لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها ؛ كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها ولا في صفاتها - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك . وإنها عنده أصغر من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا . فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة . بل الدرهم والدينار . أو الكرة التي يلعب بها الصبيان ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به أن يكون الإنسان كالفلك ؟ والله - ولله المثل الأعلى - أعظم من أن يظن ذلك به وإنما يظنه الذين { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } . وكذلك " اعتقادهم الثاني " : وهو أن ما كان فلكا فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست خطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة ؛ وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان . فقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره ؛ سواء كان محيطا بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كريا سواء كان الخالق - سبحانه - محيطا بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رءوسنا دون الجهة الأخرى . فعلى أي تقدير فرض كان كل من مقدمتي السؤال باطلة وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره كما فطرنا على ذلك . وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة .
والله أعلم .

شبكة مشكاة الإسلامية
نقلا عن موقع الإسلام
....يتبع

سقراط 17-07-04 10:35 PM

القاعدة المراكشية
مسألة : الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو على العرش

شيخ الإسلام ابن تيمية
مكتبة مشكاة الإسلامية



سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : فَرِيدُ الزَّمَانِ بَحْرُ الْعُلُومِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلَيْنِ تَبَاحَثَا فِي " مَسْأَلَةِ الْإِثْبَاتِ لِلصِّفَاتِ وَالْجَزْمِ بِإِثْبَاتِ الْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ " .
فَقَالَ أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مَعْرِفَةُ هَذَا وَلَا الْبَحْثُ عَنْهُ ؛ بَلْ يُكْرَهُ لَهُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ لِلسَّائِلِ : وَمَا أَرَاك إلَّا رَجُلُ سُوءٍ . وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي مُلْكِهِ وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَخَالِقُهُ وَمَلِيكُهُ ؛ بَلْ وَمَنْ تَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَهُوَ مُجَسِّمٌ حَشْوِيٌّ . فَهَلْ هَذَا الْقَائِلُ لِهَذَا الْكَلَامِ مُصِيبٌ أَمْ مُخْطِئٌ ؟ فَإِذَا كَانَ مُخْطِئًا فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَعْتَقِدُوا إثْبَاتَ الصِّفَاتِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الْعَرْشِ - الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ - وَيَعْرِفُوهُ ؟ وَمَا مَعْنَى التَّجْسِيمِ وَالْحَشْوِ ؟ .
أَفْتُونَا وَابْسُطُوا الْقَوْلَ بَسْطًا شَافِيًا يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ فِي هَذَا مُثَابِينَ مَأْجُورِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

فَأَجَابَ : - الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
يَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ أَوْ السُّنَّةُ الْمَعْلُومَةُ وَجَبَ عَلَى الْخَلْقِ الْإِقْرَارُ بِهِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا عِنْدَ الْعِلْمِ بِالتَّفْصِيلِ ؛ فَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . فَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ شَهِدَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ هَذَا حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ بِالرِّسَالَةِ ؛ إذْ الْكَاذِبُ لَيْسَ بِرَسُولِ فِيمَا يُكَذِّبُهُ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ } { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } . وَ " بِالْجُمْلَةِ " فَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِهِ هُنَا ؛
وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ }
وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : رِضَاهُ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ ؛ وَعَمَّنْ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ : إخْبَارُهُ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } . وَمِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ أَمْرُ اللَّهِ لَهُ بِالْبَلَاغِ الْمُبِينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ كَمَا أُمِرَ وَلَمْ يَكْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا ؛ فَإِنَّ كِتْمَانَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ إلَيْهِ يُنَاقِضُ مُوجِبَ الرِّسَالَةِ ؛ كَمَا أَنَّ الْكَذِبَ يُنَاقِضُ مُوجِبَ الرِّسَالَةِ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ الْكِتْمَانِ لِشَيْءِ مِنْ الرِّسَالَةِ كَمَا أَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ الْكَذِبِ فِيهَا . وَالْأُمَّةُ تَشْهَدُ لَهُ بِأَنَّهُ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَبَيَّنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ الدِّينَ ؛ وَإِنَّمَا كَمُلَ بِمَا بَلَّغَهُ ؛ إذْ الدِّينُ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِتَبْلِيغِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ بَلَّغَ جَمِيعَ الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إلَّا هَالِكٌ } . وَقَالَ : { مَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ إلَى الْجَنَّةِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَمَا تَرَكْتُ مِنْ شَيْءٍ يُبْعِدُكُمْ عَنْ النَّارِ إلَّا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ } . وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ : لَقَدْ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا . إذَا تَبَيَّنَ هَذَا :
فَقَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى : مِنْ " أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ " مِمَّا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَفِي السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْهُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ؛ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ الَّذِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ . فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ تَلَقَّوْا عَنْهُ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ وَكَانُوا يَتَلَقَّوْنَ عَنْهُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي : لَقَدْ { حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ قَالُوا : فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا } .
وَقَدْ قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - وَهُوَ مِنْ أَصَاغِرِ الصَّحَابَةِ - فِي تَعَلُّمِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَجْلِ الْفَهْمِ وَالْمَعْرِفَةِ . وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ وُجُوهٍ : -
الوجه الأول :
أَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ الَّتِي جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا بَنِي آدَمَ تُوجِبُ اعْتِنَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ - الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ - لَفْظًا وَمَعْنًى ؛ بَلْ أَنْ يَكُونَ اعْتِنَاؤُهُمْ بِالْمَعْنَى أَوْكَدَ فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ مَنْ قَرَأَ كِتَابًا فِي الطِّبِّ أَوْ الْحِسَابِ أَوْ النَّحْوِ أَوْ الْفِقْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ فَكَيْفَ بِمَنْ قَرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَ إلَيْهِمْ الَّذِي بِهِ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَبِهِ عَرَّفَهُمْ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَ وَالرَّشَادَ وَالْغَيَّ . فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَتَهُمْ فِي فَهْمِهِ وَتَصَوُّرِ مَعَانِيهِ أَعْظَمُ الرَّغَبَاتِ ؛ بَلْ إذَا سَمِعَ الْمُتَعَلِّمُ مِنْ الْعَالِمِ حَدِيثًا فَإِنَّهُ يَرْغَبُ فِي فَهْمِهِ ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِ عَنْهُ ؛ بَلْ وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ رَغْبَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْرِيفِهِمْ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي تَعْرِيفِهِمْ حُرُوفَهُ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْحُرُوفِ بِدُونِ الْمَعَانِي لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ إذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يُرَادُ لِلْمَعْنَى .

الْوَجْهُ الثَّانِي :
أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ حَضَّهُمْ عَلَى تَدَبُّرِهِ وَتَعَقُّلِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } . فَإِذَا كَانَ قَدْ حَضَّ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى تَدَبُّرِهِ : عُلِمَ أَنَّ مَعَانِيَهُ مِمَّا يُمْكِنُ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَهْمُهَا وَمَعْرِفَتُهَا فَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مُمْكِنًا لِلْمُؤْمِنِينَ ؛ وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ مَعَانِيَهُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بَيِّنَةً لَهُمْ .

الْوَجْهُ الثالث:
أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَرَبِيًّا لِأَنْ يَعْقِلُوا وَالْعَقْلُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِمَعَانِيهِ .

الْوَجْهُ الرابع :
أَنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَا يَفْهَمُهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } فَلَوْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لَا يَفْقَهُونَهُ أَيْضًا لَكَانُوا مُشَارِكِينَ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ .

الْوَجْهُ الخامس :
أَنَّهُ ذَمَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ حَظُّهُ مِنْ السَّمَاعِ إلَّا سَمَاعَ الصَّوْتِ دُونَ فَهْمِ الْمَعْنَى وَاتِّبَاعِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إلَيْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ سَمِعُوا صَوْتَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَفْهَمُوا وَقَالُوا : مَاذَا قَالَ آنِفًا ؟ أَيْ السَّاعَةَ وَهَذَا كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ قَوْلَهُ فَقَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } . فَمَنْ جَعَلَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ غَيْرَ عَالِمِينَ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ جَعَلَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَمَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ .

الْوَجْهُ السادس :
أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَسَّرُوا لِلتَّابِعِينَ الْقُرْآنَ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ عَرَضْت الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَقِفُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا .
وَلِهَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إذَا جَاءَك التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ
وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ : لَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تَبْلُغُهُ الْإِبِلُ لَأَتَيْته وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ نُقِلَ عَنْهُ مِنْ التَّفْسِيرِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ .
وَالنُّقُولُ بِذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ثَابِتَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ . فَيُقَالُ :
الِاخْتِلَافُ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ ؛ بَلْ وَعَنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرُهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ وُجُوهٍ : -
الْوَجْهُ الأول
أَنْ يُعَبِّرَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَنْ مَعْنَى الِاسْمِ بِعِبَارَةِ غَيْرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ فَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ وَكُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ مَعَ أَنَّ كِلَاهُمَا حَقٌّ ؛ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَتَسْمِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسْمَائِهِ وَتَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ بِأَسْمَائِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } .
فَإِذَا قِيلَ : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ فَهِيَ كُلُّهَا أَسْمَاءٌ لِمُسَمَّى وَاحِدٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَإِنْ كَانَ كُلُّ اسْمٍ يَدُلُّ عَلَى نَعْتٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْمُ الْآخَرُ . وَمِثَالُ " هَذَا التَّفْسِيرِ " كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } فَهَذَا يَقُولُ : هُوَ الْإِسْلَامُ وَهَذَا يَقُولُ هُوَ الْقُرْآنُ أَيْ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ وَهَذَا يَقُولُ : السُّنَّةُ وَالْجَمَاعَةُ وَهَذَا يَقُولُ : طَرِيقُ الْعُبُودِيَّةِ وَهَذَا يَقُولُ : طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصِّرَاطَ يُوصَفُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كُلِّهَا وَيُسَمَّى بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ كُلِّهَا وَلَكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دَلَّ الْمُخَاطَبَ عَلَى النَّعْتِ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ الصِّرَاطُ وَيَنْتَفِعُ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ النَّعْتِ .


الْوَجْهُ الثَّانِي :
أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ مِنْهُمْ مَنْ تَفْسِيرِ " الِاسْمِ " بَعْضَ أَنْوَاعِهِ أَوْ أَعْيَانِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِلْمُخَاطَبِ ؛ لَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ وَالْإِحَاطَةِ كَمَا لَوْ سَأَلَ أَعْجَمِيٌّ عَنْ مَعْنَى لَفْظِ " الْخُبْزِ " فَأُرَى رَغِيفًا وَقِيلَ هَذَا هُوَ فَذَاكَ مِثَالٌ لِلْخُبْزِ وَإِشَارَةٌ إلَى جِنْسِهِ ؛ لَا إلَى ذَلِكَ الرَّغِيفِ خَاصَّةً .
وَمِنْ هَذَا مَا جَاءَ عَنْهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } . فَالْقَوْلُ الْجَامِعُ أَنَّ " الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ " هُوَ الْمُفَرِّطُ بِتَرْكِ مَأْمُورٍ أَوْ فِعْلِ مَحْظُورٍ وَ " الْمُقْتَصِدُ " : الْقَائِمُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَ " السَّابِقُ بِالْخَيْرَاتِ " : بِمَنْزِلَةِ الْمُقَرَّبِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ بَعْدَ الْفَرَائِضِ حَتَّى يُحِبَّهُ الْحَقُّ . ثُمَّ إنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَذْكُرُ نَوْعًا مِنْ هَذَا . فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ : " الظَّالِمُ " الْمُؤَخِّرُ لِلصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْمُصَلِّي لَهَا فِي وَقْتِهَا وَ " السَّابِقُ " الْمُصَلِّي لَهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا حَيْثُ يَكُونُ التَّقْدِيمُ أَفْضَلَ . وَقَالَ آخَرُ : " الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ " هُوَ الْبَخِيلُ الَّذِي لَا يَصِلُ رَحِمَهُ وَلَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ وَ " الْمُقْتَصِدُ " الْقَائِمُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَقِرَى الضَّيْفِ وَالْإِعْطَاءِ فِي النَّائِبَةِ وَ " السَّابِقُ " الْفَاعِلُ الْمُسْتَحَبَّ بَعْدَ الْوَاجِبِ كَمَا فَعَلَ ( الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ حِينَ جَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ ؛ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ هَذَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا . وَقَالَ آخَرُ : " الظَّالِمُ لِنَفَسِهِ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ الطَّعَامِ لَا عَنْ الْآثَامِ وَ " الْمُقْتَصِدُ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ الطَّعَامِ وَالْآثَامِ وَ " السَّابِقُ " الَّذِي يَصُومُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُقَرِّبُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى - وَأَمْثَالُ ذَلِكَ - لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَنَافِيَةً بَلْ كُلٌّ ذَكَرَ نَوْعًا مِمَّا تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ .

الْوَجْهُ الثالث :
أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمْ لِنُزُولِ الْآيَةِ " سَبَبًا " وَيَذْكُرَ الْآخَرُ " سَبَبًا " آخَرَ - لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ - وَمِنْ الْمُمْكِنِ نُزُولُهَا لِأَجْلِ السَّبَبَيْنِ جَمِيعًا أَوْ نُزُولُهَا مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً لِهَذَا وَمَرَّةً لِهَذَا .
وَأَمَّا مَا صَحَّ عَنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ : اخْتَلَفُوا فِيهِ " اخْتِلَافَ تَنَاقُضٍ " فَهَذَا قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ كَمَا أَنَّ تَنَازُعَهُمْ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ السُّنَّةِ - كَبَعْضِ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْفَرَائِضِ وَالطَّلَاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذِهِ السُّنَنِ مَأْخُوذًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجُمَلُهَا مَنْقُولَةٌ عَنْهُ بِالتَّوَاتُرِ .

وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ؛ وَأَمَرَ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ ( مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ ) . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ : إنَّ " الْحِكْمَةَ " هِيَ السُّنَّةُ ؛ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنِّي أُوتِيت الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ } . فَمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ السُّنَّةِ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ فِي الْقُرْآنِ ؛ وَلَمْ نَفْهَمْهُ نَحْنُ أَوْ قِيلَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ؛ كَمَا أَنَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ ؛ فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَهُمْ فِيهِ ؛ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّهُ كَانَ مَنْصُوصًا فِي السُّنَّةِ وَلَمْ يَبْلُغْنَا ذَلِكَ أَوْ قِيلَ إنَّهُ مِمَّا اسْتَنْبَطُوهُ وَاسْتَخْرَجُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .

فَصْلٌ :
فَإِذَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ : فَوُجُوبُ إثْبَاتِ " الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى " وَنَحْوِهِ يَتَبَيَّنُ مِنْ وُجُوهٍ : -

الْوَجْهُ الأول :
أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الْمُسْتَفِيضَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَغَيْرَ الْمُتَوَاتِرَةِ وَكَلَامَ السَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ : مَمْلُوءٌ بِمَا فِيهِ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ بِأَنْوَاعِ مِنْ الدَّلَالَاتِ وَوُجُوهٍ مِنْ الصِّفَاتِ وَأَصْنَافٍ مِنْ الْعِبَارَاتِ ؛ تَارَةً يُخْبِرُ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . وَقَدْ ذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ عَلَى الْعَرْشِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ . وَتَارَةً يُخْبِرُ بِعُرُوجِ الْأَشْيَاءِ وَصُعُودِهَا وَارْتِفَاعِهَا إلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } { إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ } { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ } وقَوْله تَعَالَى { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } . وَتَارَةً يُخْبِرُ بِنُزُولِهَا مِنْهُ أَوْ مِنْ عِنْدِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } { حم } { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } . وَتَارَةً يُخْبِرُ " بِأَنَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وَقَوْلِهِ : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } . وَتَارَةً يُخْبِرُ بِأَنَّهُ فِي " السَّمَاءِ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } . فَذَكَرَ السَّمَاءَ دُونَ الْأَرْضِ وَلَمْ يُعَلِّقْ بِذَلِكَ أُلُوهِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ } وَقَالَ تَعَالَى { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ } .
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ ؟ } { وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاءِ . قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } . وَتَارَةً يَجْعَلُ بَعْضَ الْخَلْقِ " عِنْدَهُ " دُونَ بَعْضٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } . وَيُخْبِرُ عَمَّنْ عِنْدَهُ بِالطَّاعَةِ كَقَوْلِهِ : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } فَلَوْ كَانَ مُوجِبُ الْعِنْدِيَّةِ مَعْنًى عَامًّا كَدُخُولِهِمْ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ : لَكَانَ كُلُّ مَخْلُوقٍ عِنْدَهُ ؛ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ بَلْ مُسَبِّحًا لَهُ سَاجِدًا وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَصَفَ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْكُفَّارِ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَأَمْثَالُ هَذَا فِي الْقُرْآنِ لَا يُحْصَى إلَّا بِكُلْفَةِ .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ عَنْ " الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ " فَلَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَا اشْتَرَكَتْ فِيهِ هَذِهِ النُّصُوصُ مِنْ إثْبَاتِ عُلُوِّ اللَّهِ نَفْسِهِ عَلَى خَلْقِهِ هُوَ الْحَقُّ أَوْ الْحَقُّ نَقِيضُهُ ؛ إذْ الْحَقُّ لَا يَخْرُجُ عَنْ النَّقِيضَيْنِ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ فَوْقَ الْخَلْقِ ؛ أَوْ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْخَلْقِ - كَمَا تَقُولُ الجهمية - . ثُمَّ تَارَةً يَقُولُونَ : لَا فَوْقَهُمْ وَلَا فِيهِمْ وَلَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ وَلَا مُبَايِنَ وَلَا محايث وَتَارَةً يَقُولُونَ : هُوَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَفِي الْمَقَالَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا يَدْفَعُونَ أَنْ يَكُونَ هُوَ نَفْسُهُ فَوْقَ خَلْقِهِ . فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ إثْبَاتَ ذَلِكَ ؛ أَوْ نَفْيَهُ فَإِنْ كَانَ نَفْيُ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يُبَيِّنْ هَذَا قَطُّ - لَا نَصًّا وَلَا ظَاهِرًا - وَلَا الرَّسُولُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لَا أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَلَا غَيْرِهِمْ وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ نَفَى ذَلِكَ أَوْ أَخْبَرَ بِهِ . وَأَمَّا مَا نُقِلَ مِنْ الْإِثْبَاتِ عَنْ هَؤُلَاءِ : فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى أَوْ يُحْصَرَ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ هُوَ النَّفْيَ - دُونَ الْإِثْبَاتِ - وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ إنَّمَا دَلَّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ النَّفْيَ أَصْلًا : لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ لَمْ يَنْطِقُوا بِالْحَقِّ فِي هَذَا الْبَابِ ؛ بَلْ نَطَقُوا بِمَا يَدُلُّ - إمَّا نَصًّا وَإِمَّا ظَاهِرًا - عَلَى الضَّلَالِ وَالْخَطَأِ الْمُنَاقِضِ لِلْهُدَى وَالصَّوَابِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ هَذَا فِي " الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ " فَلَهُ أَوْفَرُ حَظٍّ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } .

فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ : هَذِهِ النُّصُوصُ أُرِيدَ بِهَا خِلَافُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا أَوْ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إثْبَاتُ عُلُوِّ اللَّهِ نَفْسِهِ عَلَى خَلْقِهِ ؛ وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهَا عُلُوُّ الْمَكَانَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ - كَمَا قَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَيُقَالُ لَهُ : فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ ( بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ؛ بَلْ وَيُبَيِّنُ لَهُمْ مَا يَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يُرَدْ بِهِ مَفْهُومُهُ وَمُقْتَضَاهُ ؛ فَإِنَّ غَايَةَ مَا يُقَدَّرُ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْمَجَازِ الْمُخَالِفِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْبَاطِنِ الْمُخَالِفِ لِلظَّاهِرِ . وَمَعْلُومٌ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ : أَنَّ الْمُخَاطَبَ الْمُبِينَ إذَا تَكَلَّمَ بِمُجَازٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَقْرِنَ بِخِطَابِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ ؛ فَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ الْمُبَلِّغُ الْمُبَيِّنُ الَّذِي بَيَّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلَامِ خِلَافُ مَفْهُومِهِ وَمُقْتَضَاهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْرِنَ بِخِطَابِهِ مَا يَصْرِفُ الْقُلُوبَ عَنْ فَهْمِ الْمَعْنَى الَّذِي لَمْ يُرِدْ ؛ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ فِي اللَّهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَعْتَقِدُوا فِي اللَّهِ مَا لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مَخُوفًا عَلَيْهِمْ ؛ وَلَوْ لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا كَانَ خِطَابُهُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ الَّذِي تَقُولُ النفاة : هُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ ؟ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ وَلَا كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ النفاة أَصْلًا ؛ بَلْ هُمْ دَائِمًا لَا يَتَكَلَّمُونَ إلَّا بِالْإِثْبَاتِ امْتَنَعَ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُهُمْ الْإِثْبَاتَ وَأَنْ يَكُونَ النَّفْيُ هُوَ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ وَيَعْتَمِدُونَهُ وَهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ قَطُّ وَلَمْ يُظْهِرُوهُ ؛ وَإِنَّمَا أَظْهَرُوا مَا يُخَالِفُهُ وَيُنَافِيهِ وَهَذَا كَلَامٌ مُبَيَّنٌ ؛ لَا مخلص لِأَحَدِ عَنْهُ ؛ لَكِنْ للجهمية الْمُتَكَلِّمَةِ هُنَا كَلَامٌ وللجهمية الْمُتَفَلْسِفَةِ كَلَامٌ . أَمَّا " الْمُتَفَلْسِفَةُ وَالْقَرَامِطَةُ " فَيَقُولُونَ ؛ إنَّ الرُّسُلَ كَلَّمُوا الْخَلْقَ بِخِلَافِ مَا هُوَ الْحَقُّ وَأَظْهَرُوا لَهُمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ وَرُبَّمَا يَقُولُونَ إنَّهُمْ كَذَبُوا لِأَجْلِ مَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْعَامَّةِ لَا تَقُومُ إلَّا بِإِظْهَارِ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاطِلًا . وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ الْبَيِّنَةِ وَالْكُفْرِ الْوَاضِحِ : قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ وَالرُّسُلُ مِنْ جِنْسِ رُؤَسَائِكُمْ ؛ لَكَانَ خَوَاصُّ الرُّسُلِ يَطَّلِعُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلَكَانُوا يُطْلِعُونَ خَوَاصَّهُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ ؛ فَكَأَنْ يَكُونَ النَّفْيُ مَذْهَبَ خَاصَّةِ الْأُمَّةِ وَأَكْمَلِهَا عَقْلًا وَعِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَ " السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ " وَجَدَ أَعْلَمَ الْأُمَّةِ - عِنْدَ الْأُمَّةِ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وأبي بْنِ كَعْبٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَمْثَالِهِمْ ؛ هُمْ أَعْظَمُ الْخَلْقِ إثْبَاتًا . وَكَذَلِكَ أَفْضَلُ التَّابِعِينَ : مِثْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَمْثَالِهِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَمْثَالِهِ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمْ مِنْ أَجَلِّ التَّابِعِينَ . بَلْ النُّقُولُ عَنْ هَؤُلَاءِ فِي الْإِثْبَاتِ يَجْبُنُ عَنْ إثْبَاتِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَعَلَى ذَلِكَ تَأَوَّلَ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ وَصَاحِبُهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيُّ مَا يُرْوَى : { أَنَّ مِنْ الْعِلْمِ كَهَيْئَةِ الْمَكْنُونِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَإِذَا ذَكَرُوهُ لَمْ يُنْكِرْهُ إلَّا أَهْلُ الْغِرَّةِ بِاَللَّهِ } تَأَوَّلُوا ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّابِقِينَ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ بِخِلَافِ النَّفْيِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ عَنْهُمْ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ . وَقَدْ جَمَعَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَنْقُولِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْإِثْبَاتِ مَا لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ عَنْهُمْ فِي النَّفْيِ بِحَرْفِ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَنْقُلُهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ كَلَامِهِمْ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَتَمَسَّكُ " بِمُجْمَلَاتِ " سَمِعَهَا : بَعْضُهَا كَذِبٌ وَبَعْضُهَا صِدْقٌ مِثْلُ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ يَتَحَدَّثَانِ وَكُنْت كَالزِّنْجِيِّ بَيْنَهُمَا } . فَهَذَا كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَثَرِ ؛ وَبِتَقْدِيرِ صِدْقِهِ فَهُوَ مُجْمَلٌ .
فَإِذَا قَالَ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ كَانَ مَا يَتَكَلَّمَانِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِمُوَافَقَتِهِ مَا نُقِلَ عَنْهُمَا كَانَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ النفاة إنَّهُمَا يَتَكَلَّمَانِ بِالنَّفْيِ .
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جِرَابِ { أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا قَالَ : حَفِظْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَابَيْنِ :

أَمَّا أَحَدُهُمَا:
فَبَثَثْته فِيكُمْ وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْته لَقَطَعْتُمْ هَذَا الْبُلْعُومَ . فَإِنَّ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ؛ لَكِنَّهُ مُجْمَلٌ . وَقَدْ جَاءَ مُفَسَّرًا : أَنَّ الْجِرَابَ الْآخَرَ كَانَ فِيهِ حَدِيثُ الْمَلَاحِمِ وَالْفِتَنِ وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّفَاتِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ ؛ بَلْ الثَّابِتُ الْمَحْفُوظُ مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ كَحَدِيثِ " إتْيَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وَحَدِيثِ " النُّزُولِ " وَ " الضَّحِكِ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كُلُّهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ ؛ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ حَرْفٌ وَاحِدٌ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ النفاة .

وَأَمَّا " الجهمية الْمُتَكَلِّمَةُ " فَيَقُولُونَ : إنَّ الْقَرِينَةَ الصَّارِفَةَ لَهُمْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ هُوَ الْعَقْلُ ؛ فَاكْتَفَى بِالدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَذْهَبِ النفاة . فَيُقَالُ لَهُمْ " أَوَّلًا " : فَحِينَئِذٍ إذَا كَانَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ إنَّمَا يُفِيدُهُمْ مُجَرَّدُ الضَّلَالِ ؛ وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُونَ الْهُدَى مِنْ عُقُولِهِمْ : كَانَ الرَّسُولُ قَدْ نَصَبَ لَهُمْ أَسْبَابَ الضَّلَالِ وَلَمْ يَنْصِبْ لَهُمْ أَسْبَابَ الْهُدَى وَأَحَالَهُمْ فِي الْهُدَى عَلَى نُفُوسِهِمْ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّ تَرْكَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الرِّسَالَةِ الَّتِي لَمْ تَنْفَعْهُمْ ؛ بَلْ ضَرَّتْهُمْ . وَيُقَالُ لَهُمْ " ثَانِيًا " : فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ الْإِثْبَاتَ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ فِي الْعَقْلِ مِنْ قَوْلِ النفاة ؛ مِثْلُ ذِكْرِهِ لِخَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَعِلْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ - أَعْظَمَ مِمَّا يُعْلَمُ نَفْيُ الجهمية وَهُوَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِمَا يُنَاقِضُ هَذَا الْإِثْبَاتَ فَكَيْفَ يُحِيلُهُمْ عَلَى مُجَرَّدِ الْعَقْلِ فِي النَّفْيِ الَّذِي هُوَ أَخْفَى وَأَدَقُّ ؟ وَكَلَامُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ ؛ بَلْ دَلَّ عَلَى نَقِيضِهِ وَضِدِّهِ وَمَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاَللَّهُ حَسِيبُهُ عَلَى مَا يَقُولُ .

وَ " الْمَرَاتِبُ ثَلَاثٌ " : إمَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْهُدَى أَوْ بِالضَّلَالِ أَوْ يَسْكُتُ عَنْهُمَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّكُوتَ عَنْهُمَا خَيْرٌ مِنْ التَّكَلُّمِ بِمَا يَضِلُّ وَهُنَا يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ الْإِثْبَاتَ لَمْ يَسْكُتْ عَنْهُ ؛ بَلْ بَيَّنَهُ وَكَانَ مَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ مُوَافِقًا لِلْعَقْلِ ؛ فَكَانَ الْوَاجِبُ فِيمَا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ بِالنَّفْيِ ؛ كَمَا فَعَلَ فِيمَا يُثْبِتُهُ الْعَقْلُ وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ السُّكُوتُ عَنْهُ أَسْلَمُ لِلْأُمَّةِ . أَمَّا إذَا تَكَلَّمَ فِيهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَأَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَعْتَقِدُوا إلَّا النَّفْيَ ؛ لِكَوْنِ مُجَرَّدِ عُقُولِهِمْ تَعْرِفُهُمْ بِهِ فَإِضَافَةُ هَذَا إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الزَّنْدَقَةِ وَالنِّفَاقِ . وَيُقَالُ لَهُمْ " ثَالِثًا " مَنْ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْعَقْلَ يُوَافِقُ مَذْهَبَ النفاة ؛ بَلْ الْعَقْلُ الصَّرِيحُ إنَّمَا يُوَافِقُ مَا أَثْبَتَهُ الرَّسُولُ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَعْقُولِ الصَّرِيحِ وَالْمَنْقُولِ الصَّحِيحِ تَنَاقُضٌ أَصْلًا وَقَدْ بَسَطْنَا هَذَا فِي " مَوَاضِعَ " بَيَّنَّا فِيهَا أَنَّ مَا يَذْكُرُونَ مِنْ الْمَعْقُولِ الْمُخَالِفِ لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ جَهْلٌ وَضَلَالٌ تَقَلَّدَهُ مُتَأَخِّرُوهُمْ عَنْ مُتَقَدِّمِيهِمْ وَسَمَّوْا ذَلِكَ عَقْلِيَّاتٍ وَإِنَّمَا هِيَ جهليات وَمَنْ طُلِبَ مِنْهُ تَحْقِيقُ مَا قَالَهُ أَئِمَّةُ الضَّلَالِ بِالْمَعْقُولِ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا إلَى مُجَرَّدِ تَقْلِيدِهِمْ . فَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالشَّرْعِ وَيُخَالِفُونَ الْعَقْلَ تَقْلِيدًا لِمَنْ تَوَهَّمُوا أَنَّهُ عَالِمٌ بِالْعَقْلِيَّاتِ . وَهُمْ مَعَ " أَئِمَّتِهِمْ الضُّلَّالِ " كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ مَعَهُ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ : { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ } { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ } { وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ } وَفِرْعَوْنُ هُوَ إمَامُ النفاة . وَلِهَذَا صَرَّحَ مُحَقِّقُو النفاة بِأَنَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ كَمَا يُصَرِّحُ بِهِ الِاتِّحَادِيَّةُ مِنْ الجهمية النفاة ؛ إذْ هُوَ أَنْكَرَ الْعُلُوَّ وَكَذَّبَ مُوسَى فِيهِ وَأَنْكَرَ تَكْلِيمَ اللَّهِ لِمُوسَى قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ أَنَّهُ أَنْكَرَ " الصَّانِعَ " بِلِسَانِهِ فَقَالَ : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَطَلَبَ أَنْ يَصْعَدَ لِيَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُوسَى أَخْبَرَهُ أَنَّ إلَهَهُ فَوْقُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ هُوَ لَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يُخْبِرُهُ مُوسَى بِهِ لَمْ يَكُنْ إثْبَاتُ الْعُلُوِّ لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ مُوسَى ؛ فَلَا يَقْصِدُ الِاطِّلَاعَ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَا قَصَدَهُ مِنْ التَّلْبِيسِ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ صَعِدَ إلَى إلَهِ مُوسَى ؛ وَلَكَانَ صُعُودُهُ إلَيْهِ كَنُزُولِهِ إلَى الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ وَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَيْهِ ؛ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ الصَّرْحِ . { وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِجَ بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ الْأُولَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِي الثَّانِيَةِ يَحْيَى وَعِيسَى ثُمَّ فِي الثَّالِثَةِ يُوسُفَ ثُمَّ فِي الرَّابِعَةِ إدْرِيسَ ثُمَّ فِي الْخَامِسَةِ هَارُونَ ثُمَّ وَجَدَ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ ثُمَّ عَرَجَ إلَى رَبِّهِ فَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ رَجَعَ إلَى مُوسَى . فَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ قَالَ : فَرَجَعْت إلَى رَبِّي فَسَأَلْته التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِي وَذَكَرَ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى مُوسَى ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَبِّهِ مِرَارًا } فَصَدَقَ مُوسَى فِي أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَفِرْعَوْنُ كَذَّبَ مُوسَى فِي ذَلِكَ . " والجهمية النفاة " : مُوَافِقُونَ لِآلِ فِرْعَوْنَ أَئِمَّةِ الضَّلَالِ . وَ " أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْإِثْبَاتِ " : مُوَافِقُونَ لِآلِ إبْرَاهِيمَ أَئِمَّةِ الْهُدَى وَقَالَ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ مِنْ آلِ إبْرَاهِيمَ ؛ بَلْ هُمْ سَادَاتُ آلِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .

( الْوَجْهُ الثَّانِي )
فِي تَبْيِينِ وُجُوبِ الْإِقْرَارِ بِالْإِثْبَاتِ وَعُلُوِّ اللَّهِ عَلَى السَّمَوَاتِ أَنْ يُقَالَ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَكْمَلَ الدِّينَ وَأَتَمَّ النِّعْمَةَ ؛ وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ؛ وَأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ هُوَ مِنْ أَجَلِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْظَمِ أُصُولِهِ ؛ وَأَنَّ بَيَانَ هَذَا وَتَفْصِيلَهُ أَوْلَى مَنْ كُلِّ شَيْءٍ . فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْبَابُ لَمْ يُبَيِّنْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُفَصِّلْهُ وَلَمْ يُعْلِمْ أُمَّتَهُ مَا يَقُولُونَ فِي هَذَا الْبَابِ وَكَيْفَ يَكُونُ الدِّينُ قَدْ كَمُلَ وَقَدْ تُرِكُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْبَيْضَاءِ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ بِمَاذَا يَعْرِفُونَ رَبَّهُمْ : أَبِمَا تَقُولُهُ النفاة أَوْ بِأَقْوَالِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ ) أَنْ يُقَالَ : كُلُّ مَنْ فِيهِ أَدْنَى مَحَبَّةٍ لِلْعِلْمِ أَوْ أَدْنَى مَحَبَّةٍ لِلْعِبَادَةِ : لَا بُدَّ أَنْ يَخْطِرَ بِقَلْبِهِ هَذَا الْبَابُ وَيَقْصِدَ فِيهِ الْحَقَّ وَمَعْرِفَةَ الْخَطَأِ مِنْ الصَّوَابِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ كُلُّهُمْ كَانُوا مُعْرِضِينَ عَنْ هَذَا لَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ وَلَا يَشْتَاقُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَلَا تَطْلُبُ قُلُوبُهُمْ الْحَقَّ وَهُمْ لَيْلًا وَنَهَارًا يَتَوَجَّهُونَ بِقُلُوبِهِمْ إلَيْهِ وَيَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَرَغَبًا وَرَهَبًا وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ مَفْطُورَةٌ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ بِهَذَا وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ وَهِيَ مُشْتَاقَةٌ إلَيْهِ أَكْثَرَ مَنْ شَوْقِهَا إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ وَمَعَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَالْقُدْرَةِ يَجِبُ حُصُولُ الْمُرَادِ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى سُؤَالِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُؤَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا . وَقَدْ سَأَلُوهُ عَمَّا هُوَ دُونَ هَذَا : سَأَلُوهُ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَأَجَابَهُمْ { وَسَأَلَهُ أَبُو رَزِينٍ : أَيَضْحَكُ رَبُّنَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : لَنْ نَعْدَمَ مِنْ رَبٍّ يَضْحَكُ خَيْرًا } . ثُمَّ إنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ ( الرُّؤْيَةِ ) قَالَ : { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ ؛ لَا الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ . والنفاة لَا يَقُولُونَ يُرَى كَمَا تُرَى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ؛ بَلْ قَوْلُهُمْ الْحَقِيقِيُّ أَنَّهُ لَا يُرَى بِحَالِ وَمَنْ قَالَ يُرَى مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْإِثْبَاتِ وَمُنَافَقَةً لَهُمْ : فَسَّرَ الرُّؤْيَةَ بِمَزِيدِ عِلْمٍ فَلَا تَكُونُ كَرُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ رَبِّهِمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ وَإِذَا سَأَلُوهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجِيبَهُمْ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ مَا تَقُولُهُ الجهمية النفاة لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ التَّبْلِيغِ عَنْهُ وَإِنَّمَا نَقَلُوا عَنْهُ مَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ . ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : إمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّ مِنَّا أَنْ نَعْتَقِدَ قَوْلَ النفاة أَوْ نَعْتَقِدَ قَوْلَ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ أَوْ لَا نَعْتَقِدَ وَاحِدًا مِنْهُمَا . فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبُهُ مِنَّا اعْتِقَادَ قَوْلِ النفاة : وَهُوَ أَنَّهُ لَا دَاخِلَ الْعَالَمِ وَلَا خَارِجَهُ ؛ وَأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُعْرَجْ بِهِ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَوَاتِ فَقَطْ لَا إلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَعْرُجُ إلَى اللَّهِ بَلْ إلَى مَلَكُوتِهِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهِ شَيْءٌ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . وَإِنْ كَانُوا يُعَبِّرُونَ عَنْ ذَلِكَ بِعِبَارَاتِ مُبْتَدَعَةٍ فِيهَا إجْمَالٌ وَإِبْهَامٌ وَإِيهَامٌ كَقَوْلِهِمْ لَيْسَ بِمُتَحَيِّزِ وَلَا جِسْمٍ وَلَا جَوْهَرٍ وَلَا هُوَ فِي جِهَةٍ وَلَا مَكَانٍ ؛ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي تَفْهَمُ مِنْهَا الْعَامَّةُ تَنْزِيهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ النَّقَائِصِ وَمَقْصِدُهُمْ بِهَا أَنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ رَبٌّ ؛ وَلَا عَلَى الْعَرْشِ إلَهٌ يُعْبَدُ وَلَا عُرِجَ بِالرَّسُولِ إلَى اللَّهِ . وَ ( الْمَقْصُودُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ لَنَا أَنْ نَعْتَقِدَ هَذَا النَّفْيَ ؛ فَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ أَفْضَلُ مِنَّا فَقَدْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ هَذَا النَّفْيَ وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَقِدُهُ وَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَرْضَاهُ لَنَا وَهُوَ إمَّا وَاجِبٌ عَلَيْنَا أَوْ مُسْتَحَبٌّ لَنَا ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْمُرَنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْنَا وَيَنْدُبُنَا إلَى مَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ لَنَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَنْهُ وَعَنْ الْمُؤْمِنِينَ مَا فِيهِ إثْبَاتٌ لِمَحْبُوبِ اللَّهِ وَمُرْضِيهِ وَمَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ ؛ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } لَا سِيَّمَا والجهمية تَجْعَلُ هَذَا أَصْلَ الدِّينِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ " التَّوْحِيدُ " الَّذِي لَا يُخَالِفُهُ إلَّا شَقِيٌّ فَكَيْفَ لَا يُعَلِّمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ التَّوْحِيدَ ؟ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ " التَّوْحِيدُ " مَعْرُوفًا عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ؟ . وَالْفَلَاسِفَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ يُسَمُّونَ مَذْهَبَ النفاة " التَّوْحِيدَ " وَقَدْ سَمَّى صَاحِبُ الْمُرْشِدَةِ أَصْحَابَهُ الْمُوَحِّدِينَ ؛ إذْ عِنْدَهُمْ مَذْهَبُ النفاة هُوَ " التَّوْحِيدُ " . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ : كَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِمَذْهَبِ النفاة . فَعُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ ؛ بَلْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ " التَّوْحِيدِ " الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ . وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ مِنَّا مَذْهَبَ الْإِثْبَاتِ ؛ وَهُوَ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ ؛ فَلَا بُدَّ أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لَنَا .

....يتبع

سقراط 17-07-04 10:36 PM

وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ إثْبَاتِ " الْعُلُوِّ وَالصِّفَاتِ " أَعْظَمُ مِمَّا فِيهِمَا مِنْ إثْبَاتِ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَالصِّيَامِ وَتَحْرِيمِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ؛ وَخَبِيثِ الْمَطَاعِمِ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ " الشَّرَائِعِ " . فَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ يَكُونُ الدِّينُ كَامِلًا وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغًا مُبَيِّنًا ؛ وَالتَّوْحِيدُ عَنْ السَّلَفِ مَشْهُورًا مَعْرُوفًا . وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا ؛ وَالسَّلَفُ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَطَرِيقُهُمْ أَفْضَلُ الطُّرُقِ . وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَقٌّ لَيْسَ فِيهِ إضْلَالٌ وَلَا دَلَّ عَلَى كُفْرٍ وَمُحَالٍ ؛ بَلْ هُوَ الشِّفَاءُ وَالْهُدَى وَالنُّورُ . وَهَذِهِ كُلُّهَا لَوَازِمُ مُلْتَزَمَةٌ وَنَتَائِجُ مَقْبُولَةٌ ؛ فَقَوْلُهُمْ مُؤْتَلِفٌ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ وَمَقْبُولٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ . وَإِنْ كَانَ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نُثْبِتَ وَلَا نَنْفِيَ ؛ بَلْ نَبْقَى فِي الْجَهْلِ الْبَسِيطِ وَفِي ظُلُمَاتٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ لَا نَعْرِفُ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَلَا الْهُدَى مِنْ الضَّلَالِ وَلَا الصِّدْقَ مِنْ الْكَذِبِ ؛ بَلْ نَقِفُ بَيْنَ الْمُثْبِتَةِ والنفاة مَوْقِفَ الشَّاكِّينَ الْحَيَارَى { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إلَى هَؤُلَاءِ } لَا مُصَدِّقِينَ وَلَا مُكَذِّبِينَ :

لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُحِبُّ مِنَّا عَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الصِّفَاتِ التَّامَّاتِ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ وَيُحِبُّ مِنَّا الْحَيْرَةَ وَالشَّكَّ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْجَهْلَ وَلَا الشَّكَّ وَلَا الْحَيْرَةَ وَلَا الضَّلَالَ ؛ وَإِنَّمَا يُحِبُّ الدِّينَ وَالْعِلْمَ وَالْيَقِينَ . وَقَدْ ذَمَّ " الْحَيْرَةَ " بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } { وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ نَقُولَ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يُصَلِّي يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وميكائيل وَإِسْرَافِيلَ ؛ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . اهْدِنِي لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِك إنَّك تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } . فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ رَبَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ فَكَيْفَ يَكُونُ مَحْبُوبُ اللَّهِ عَدَمَ الْهُدَى فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؟ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ : { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } .
وَمَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا } كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِحَدِيثِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ هَذَا سُؤَالٌ مَنْ هُوَ حَائِرٌ وَقَدْ سَأَلَ الْمَزِيدَ مِنْ الْحَيْرَةِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَسْأَلَ وَيَدْعُوَ بِمَزِيدِ الْحَيْرَةِ إذَا كَانَ حَائِرًا ؛ بَلْ يَسْأَلُ الْهُدَى وَالْعِلْمَ ؛ فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ هَادِي الْخَلْقِ مِنْ الضَّلَالَةِ ؟ . وَإِنَّمَا يُنْقَلُ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي مِثْلِ هَذَا إنْ صَحَّ النَّقْلُ عَنْهُ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ الْوَاقِفَةِ الَّذِينَ لَا يُثْبِتُونَ وَلَا يَنْفُونَ وَيُنْكِرُونَ الْجَزْمَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : يَلْزَمُ عَلَيْهِ أُمُورٌ : -
أَحَدُهَا :
أَنَّ مَنْ قَالَ هَذَا : فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى النفاة ؛ فَإِنَّهُمْ ابْتَدَعُوا أَلْفَاظًا وَمَعَانِيَ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ . وَأَمَّا الْمُثْبِتَةُ إذَا اقْتَصَرُوا عَلَى النُّصُوصِ : فَلَيْسَ لَهُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ وَهَؤُلَاءِ الْوَاقِفَةُ هُمْ فِي الْبَاطِنِ يُوَافِقُونَ النفاة أَوْ يُقِرُّونَهُمْ وَإِنَّمَا يُعَارِضُونَ الْمُثْبِتَةَ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا أَهْلَ الْبِدْعَةِ وَعَادُوا أَهْلَ السُّنَّةِ .

الثَّانِي
أَنْ يُقَالَ : عَدَمُ الْعِلْمِ بِمَعَانِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ لَيْسَ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ .

الثَّالِثُ:
أَنْ يُقَالَ : الشَّكُّ وَالْحَيْرَةُ لَيْسَتْ مَحْمُودَةً فِي نَفْسِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِالنَّفْيِ وَلَا الْإِثْبَاتِ يَسْكُتُ . فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ الْحَقَّ بِدَلِيلِهِ الْمُوَافِقِ لِبَيَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ لِلْوَاقِفِ الشَّاكِّ الْحَائِرِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى هَذَا الْعَالِمِ الْجَازِمِ الْمُسْتَبْصِرِ الْمُتَّبِعِ لِلرَّسُولِ الْعَالِمِ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ .

الرَّابِعُ:
أَنْ يُقَالَ : السَّلَفُ كُلُّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى الجهمية النفاة وَقَالُوا بِالْإِثْبَاتِ وَأَفْصَحُوا بِهِ وَكَلَامُهُمْ فِي الْإِثْبَاتِ وَالْإِنْكَارِ عَلَى النفاة أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُمْكِنَ إثْبَاتُهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ الْمَشَاهِيرِ : مِثْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ والأوزاعي وَأَبِي حَنِيفَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ وَوَكِيعِ بْنِ الْجَرَّاحِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : مَوْجُودٌ كَثِيرٌ لَا يُحْصِيهِ أَحَدٌ .
وَجَوَابُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ صَرِيحٌ فِي الْإِثْبَاتِ فَإِنَّ السَّائِلَ قَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } كَيْفَ اسْتَوَى ؟ فَقَالَ مَالِكٌ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَفِي لَفْظٍ : اسْتِوَاؤُهُ مَعْلُومٌ - أَوْ مَعْقُولٌ - وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ . فَقَدْ أَخْبَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ نَفْسَ الِاسْتِوَاءِ مَعْلُومٌ وَأَنَّ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ مَجْهُولَةٌ وَهَذَا بِعَيْنِهِ قَوْلُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ . وَأَمَّا " النفاة " فَمَا يُثْبِتُونَ اسْتِوَاءً حَتَّى تُجْهَلَ كَيْفِيَّتُهُ ؛ بَلْ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ الشَّاكِّ وَأَمْثَالِهِ أَنَّ الِاسْتِوَاءَ مَجْهُولٌ : غَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ مَجْهُولًا لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُقَالَ : الْكَيْفُ مَجْهُولٌ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الِاسْتِوَاءُ مُنْتَفِيًا فَالْمُنْتَفِي الْمَعْدُومُ لَا كَيْفِيَّةَ لَهُ حَتَّى يُقَالَ : هِيَ مَجْهُولَةٌ أَوْ مَعْلُومَةٌ .
وَكَلَامُ مَالِكٍ صَرِيحٌ فِي إثْبَاتِ الِاسْتِوَاءِ وَأَنَّهُ مَعْلُومٌ وَأَنَّ لَهُ كَيْفِيَّةً ؛ لَكِنَّ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ مَجْهُولَةٌ لَنَا لَا نَعْلَمُهَا نَحْنُ . وَلِهَذَا بَدَّعَ السَّائِلَ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ فَإِنَّ السُّؤَالَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ أَمْرٍ مَعْلُومٍ لَنَا وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ اسْتِوَائِهِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ مَعْلُومًا وَلَهُ كَيْفِيَّةٌ تَكُونُ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ مَعْلُومَةً لَنَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَغَيْرَ الْمَالِكِيَّةِ نَقَلُوا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ مَكِّيٌّ - خَطِيبُ قُرْطُبَةَ - فِي " كِتَابِ التَّفْسِيرِ " الَّذِي جَمَعَهُ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ وَنَقَلَهُ أَبُو عَمْرو الطَّلَمَنْكِيُّ وَأَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي الْمُخْتَصَرِ وَغَيْرُ وَاحِدٍ وَنَقَلَهُ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ : مِثْلُ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَثْرَمِ وَالْخَلَّالِ والآجري وَابْنِ بَطَّةَ وَطَوَائِفَ غَيْرِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي السُّنَّةِ وَلَوْ كَانَ مَالِكٌ مِنْ الْوَاقِفَةِ أَوْ النفاة لَمْ يُنْقَلْ هَذَا الْإِثْبَاتُ . وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ : قَالَهُ قَبْلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ - شَيْخُهُ - كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ سُفْيَانُ بْنُ عيينة . وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الماجشون كَلَامًا طَوِيلًا يُقَرِّرُ مَذْهَبَ الْإِثْبَاتِ وَيَرُدُّ عَلَى النفاة قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

وَكَلَامُ الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَمِّ الجهمية النفاة مَشْهُورٌ فِي كُتُبِهِمْ وَكَلَامُ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ وَقُدَمَائِهِمْ فِي الْإِثْبَاتِ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ ؛ حَتَّى عُلَمَاءَهُمْ حَكَوْا إجْمَاعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ إنَّمَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ سَائِرُ أَئِمَّةِ السَّلَفِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَئِمَّةِ الْمَالِكِيَّةِ مَنْ خَالَفَ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ فِي هَذَا . وَهُوَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ الرِّسَالَةِ لِتُلَقَّنَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي يُلَقَّنُهَا كُلُّ أَحَدٍ . وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى " ابْنِ أَبِي زَيْدٍ " فِي هَذَا إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَتْبَاعِ الجهمية النفاة لَمْ يَعْتَمِدْ مَنْ خَالَفَهُ عَلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ وَلَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَلَكِنْ زَعَمَ مَنْ خَالَفَ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلْعَقْلِ .
وَقَالُوا : إنَّ ابْنَ أَبِي زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ فَنَّ الْكَلَامِ الَّذِي يَعْرِفُ فِيهِ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا لَا يَجُوزُ . وَاَلَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ أَبِي زَيْدٍ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِنْكَارَ عَنْ مُتَأَخِّرِي الْأَشْعَرِيَّةِ - كَأَبِي الْمَعَالِي وَأَتْبَاعِهِ - وَهَؤُلَاءِ تَلَقَّوْا هَذَا الْإِنْكَارَ عَنْ الْأُصُولِ الَّتِي شَارَكُوا فِيهَا الْمُعْتَزِلَةَ وَنَحْوَهُمْ مِنْ الجهمية فالجهمية - مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - هُمْ أَصْلُ هَذَا الْإِنْكَارِ . وَسَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا مُتَّفِقُونَ عَلَى الْإِثْبَاتِ رَادُّونَ عَلَى الْوَاقِفَةِ والنفاة مِثْلُ مَا رَوَاهُ البيهقي وَغَيْرُهُ عَنْ الأوزاعي قَالَ : كُنَّا - وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ - نَقُولُ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ .
وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ البلخي فِي كِتَابِ " الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ " الْمَشْهُورِ : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ . قَالَ : قَدْ كَفَرَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَعَرْشُهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ فَقُلْت إنَّهُ يَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَكِنْ لَا يَدْرِي الْعَرْشُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ؛ فَقَالَ إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ كَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ ؛ وَأَنَّهُ يُدْعَى مِنْ أَعْلَى لَا مِنْ أَسْفَلُ . وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَقُولُ : اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ . وَقَالَ معدان : سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } قَالَ عِلْمُهُ . وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ فِيمَا ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبُخَارِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَد وَغَيْرُهُمْ : إنَّمَا يَدُورُ كَلَامُ الجهمية عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : بِمَاذَا نَعْرِفُ رَبَّنَا ؟ قَالَ ؛ بِأَنَّهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ . قُلْت بِحَدِّ ؟ قَالَ : بِحَدِّ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَهَذَا مَشْهُورٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ ثَابِتٌ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ ؛ وَهُوَ أَيْضًا صَحِيحٌ ثَابِتٌ عَنْ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ راهويه وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ .

وَقَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَدْ خِفْت اللَّهَ مِنْ كَثْرَةِ مَا أَدْعُو عَلَى الجهمية . قَالَ : لَا تَخَفْ فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ إلَهَك الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَيْسَ بِشَيْءِ . وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ ؛ كَلَامُ الجهمية أَوَّلُهُ شَهْدٌ وَآخِرُهُ سُمٌّ وَإِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إلَهٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ . وَرَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ ثَابِتَةٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ : إنَّ الجهمية أَرَادُوا أَنْ يَنْفُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ أَرَى أَنْ يُسْتَتَابُوا فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا ضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ . وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا يَقِرُّ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ فَهُوَ جهمي . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَامِرٍ الضبعي - وَذَكَرَ عِنْدَهُ الجهمية فَقَالَ - هُمْ أَشَرُّ قَوْلًا مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى قَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ وَقَالُوا هُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ . وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ الواسطي : كَلَّمْت بِشْرًا الْمَرِيسِيَّ وَأَصْحَابَهُ فَرَأَيْت آخِرَ كَلَامِهِمْ يَنْتَهِي إلَى أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ شَيْءٌ أَرَى وَاَللَّهِ أَنْ لَا يُنَاكَحُوا وَلَا يوارثوا . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ .
وَهَكَذَا ذَكَرَ أَهْلُ الْكَلَامِ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ مَقَالَاتِ النَّاسِ " مَقَالَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ " كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي " اخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ وَمَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ " فَذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ . ثُمَّ قَالَ : ذَكَرَ " مَقَالَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ " وَجُمْلَةُ قَوْلِهِمْ : الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا - إلَى أَنْ قَالَ - وَأَنَّ اللَّهَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } وَأَقَرُّوا أَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا كَمَا قَالَ : { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ } وَأَثْبَتُوا السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ؛ وَلَمْ يَنْفُوا ذَلِكَ عَنْ اللَّهِ كَمَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَقَالُوا : إنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَإِنَّ الْأَشْيَاءَ تَكُونُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ كَمَا قَالَ { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } إلَى أَنْ قَالَ : وَيَقُولُونَ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؛ وَيُصَدِّقُونَ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي جَاءَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ : { إنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . وَيُقِرُّونَ أَنَّ اللَّهَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } وَأَنَّ اللَّهَ يَقْرَبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ كَمَا قَالَ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وَذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً إلَى أَنْ قَالَ : فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ ويستعملونه وَيَرَوْنَهُ وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ . قَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي " مَسْأَلَةِ الِاسْتِوَاءِ " قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لَيْسَ بِجِسْمِ وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَأَنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَلَا نَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الْقَوْلِ بَلْ نَقُولُ اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيْفٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } . وَأَنَّ اللَّهَ يَنْزِلُ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ . قَالَ : وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى اسْتَوْلَى .
وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةُ فِي أُصُولِ الدِّيَانَةِ " فِي ( بَابِ الِاسْتِوَاءِ إنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا تَقُولُونَ فِي الِاسْتِوَاءِ ؟ قِيلَ : نَقُولُ لَهُ إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَالَ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } وَقَالَ : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } .
وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } كَذَّبَ فِرْعَوْنُ مُوسَى فِي قَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } فَالسَّمَوَاتُ فَوْقَهَا الْعَرْشُ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ وَلَيْسَ إذَا قَالَ : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } يَعْنِي جَمِيعَ السَّمَوَاتِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَرْشَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى السَّمَوَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ السَّمَوَاتِ فَقَالَ : { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا } وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ يَمْلَأُ السَّمَوَاتِ جَمِيعًا ؟ وَرَأَيْنَا الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إذَا دَعَوْا نَحْوَ السَّمَاءِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ السَّمَوَاتِ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَلَى الْعَرْشِ لَمْ يَرْفَعُوا أَيْدِيَهُمْ نَحْوَ الْعَرْشِ . وَقَدْ قَالَ قَائِلُونَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ والجهمية والحرورية : أَنَّ مَعْنَى اسْتَوَى اسْتَوْلَى وَمَلَكَ وَقَهَرَ وَأَنَّ اللَّهَ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَجَحَدُوا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ وَذَهَبُوا فِي الِاسْتِوَاءِ إلَى الْقُدْرَةِ فَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا كَانَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَرْشِ وَالْأَرْضِ السَّابِعَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَالْأَرْضُ فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ والأخلية فَلَوْ كَانَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ بِمَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ مُسْتَوٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا وَعَلَى الْحُشُوشِ والأخلية بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ الِاسْتِيلَاءُ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا . وَقَدْ نَقَلَ هَذَا عَنْ الْأَشْعَرِيِّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ كَابْنِ فورك وَالْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي " تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ " وَذَكَرَ اعْتِقَادَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ " الْإِبَانَةِ " وَقَوْلُهُ فِيهِ : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَنْكَرْتُمْ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ والجهمية والحرورية وَالرَّافِضَةِ وَالْمُرْجِئَةِ فَعَرِّفُونَا قَوْلَكُمْ الَّذِي بِهِ تَقُولُونَ وَدِيَانَتَكُمْ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ قِيل لَهُ : قَوْلُنَا الَّذِي بِهِ نَقُولُ وَدِيَانَتُنَا الَّتِي نَدِينُ ( بِهَا التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةِ الْحَدِيثِ وَنَحْنُ بِذَلِكَ مُعْتَصِمُونَ وَبِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ - نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَائِلُونَ وَلِمَا خَالَفَ قَوْلَهُ مُجَانِبُونَ ؛ لِأَنَّهُ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ وَالرَّئِيسُ الْكَامِلُ الَّذِي أَبَانَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ عِنْدَ ظُهُورِ الضَّلَالِ وَأَوْضَحَ الْمِنْهَاجَ بِهِ وَقَمَعَ بِهِ بِدَعَ الْمُبْتَدِعِينَ وَزَيْغَ الزَّائِغِينَ وَشَكَّ الشَّاكِّينَ فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ إمَامٍ مُقَدَّمٍ وَكَبِيرٍ مُفْهِمٍ وَعَلَى جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . " وَجُمْلَةُ قَوْلِنَا " : إنَّا نُقِرُّ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ أُورِدَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الآجري فِي " كِتَابِ الشَّرِيعَةِ " الَّذِي يَذْهَبُ إلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ فِي السَّمَوَاتِ الْعُلَى وَجَمِيعِ مَا فِي سَبْعِ أَرْضِينَ يُرْفَعُ إلَيْهِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَيُّ شَيْءٍ مَعْنَى قَوْلِهِ : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ } الْآيَةَ قِيلَ لَهُ عِلْمُهُ وَاَللَّهُ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِهِمْ ؛ كَذَا فَسَّرَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ . وَالْآيَةُ يَدُلُّ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا أَنَّهُ الْعِلْمُ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ هَذَا قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ .
وَالْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ الشَّيْخُ " مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي زَيْدٍ " وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِعِلْمِهِ قَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ الْمُبْطِلِينَ بِأَنْ رَفَعَ الْمَجِيدَ . وَمُرَادُهُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَجِيدُ بِذَاتِهِ وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ جَهْلٌ وَاضِحٌ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ : الرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ وَالرَّحِيمُ بِذَاتِهِ وَالْعَزِيزُ بِذَاتِهِ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي خُطْبَةِ " الرِّسَالَةِ " أَيْضًا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى فَفَرَّقَ بَيْنَ الِاسْتِوَاءِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى قَاعِدَةِ الْأَئِمَّةِ الْمَتْبُوعِينَ وَمَعَ هَذَا فَقَدَ صَرَّحَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي " الْمُخْتَصَرِ " بِأَنَّ اللَّهَ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ هَذَا لَفْظُهُ وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ مَا زَالَتْ تَقُولُهُ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عَمْرٍو الطلمنكي الْإِمَامُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي سَمَّاهُ " الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُصُولِ " : أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَافِظُ الْكُوفَةِ فِي طَبَقَةِ الْبُخَارِيِّ وَنَحْوِهِ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ عَمَّارٍ السجستاني الْإِمَامُ فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ فِي السُّنَّةِ الَّتِي كَتَبَهَا إلَى مَلِكِ بِلَادِهِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو نَصْرٍ السجزي الْحَافِظُ فِي كِتَابِ " الْإِبَانَةِ " لَهُ . قَالَ : وَأَئِمَّتُنَا كَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ عيينة وَحَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وفضيل بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَد وَإِسْحَاقَ : مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ ؛ وَأَنَّ عِلْمَهُ بِكُلِّ مَكَانٍ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْأَنْصَارِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ الطَّرْقِيُّ وَالشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الجيلي وَمَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا اللَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَشُيُوخِهِ .

وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ الأصبهاني - صَاحِبُ " حِلْيَةِ الْأَوْلِيَاءِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُصَنَّفَاتِ الْمَشْهُورَةِ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي جَمَعَهُ : - طَرِيقُنَا طَرِيقُ السَّلَفِ الْمُتَّبِعِينَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَإِجْمَاعَ الْأُمَّةِ . قَالَ : وَمِمَّا اعْتَقَدُوهُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ كَامِلًا بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ ؛ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِعِلْمِ بَصِيرًا بِبَصَرِ سَمِيعًا بِسَمْعِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ وَأَحْدَثَ الْأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ سَائِرُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ كَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ مَقْرُوءًا وَمَتْلُوًّا وَمَحْفُوظًا وَمَسْمُوعًا وَمَكْتُوبًا وَمَلْفُوظًا كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا حِكَايَةً وَلَا تَرْجَمَةً وَأَنَّهُ بِأَلْفَاظِنَا كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْوَاقِفَةَ وَاللَّفْظِيَّةَ مِنْ الجهمية وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ الْقُرْآنَ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ يُرِيدُ بِهِ خَلْقَ كَلَامِ اللَّهِ فَهُوَ عِنْدُهُمْ مِنْ الجهمية وَأَنَّ الجهمي عِنْدَهُمْ كَافِرٌ . وَذَكَرَ أَشْيَاءَ إلَى أَنْ قَالَ : وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ثَبَتَتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " الْعَرْشِ وَاسْتِوَاءِ اللَّهِ عَلَيْهِ " يَقُولُونَ بِهَا وَيُثْبِتُونَهَا مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَأَنَّ اللَّهَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقَ بَائِنُونَ مِنْهُ ؛ لَا يَحِلُّ فِيهِمْ وَلَا يَمْتَزِجُ بِهِمْ وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ دُونَ أَرْضِهِ . وَذَكَرَ سَائِرَ اعْتِقَادِ السَّلَفِ وَإِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ فِي " رِسَالَتِهِ " : لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الجهمية إنَّهُ بِدَاخِلِ الْأَمْكِنَةِ وَمُمَازِجٌ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا نَعْلَمُ أَيْنَ هُوَ ؛ بَلْ نَقُولُ هُوَ بِذَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ وَعِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مُدْرِكَةٌ لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } . وَقَالَ الشَّيْخُ الْعَارِفُ مَعْمَرُ بْنُ أَحْمَد " شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ : فِي هَذَا الْعَصْرِ أَحْبَبْت أَنْ أُوصِيَ أَصْحَابِي بِوَصِيَّةٍ مِنْ السُّنَّةِ وَأَجْمَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَأَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّفِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ والمتأخرين ؛ فَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنْ الْوَصِيَّةِ إلَى أَنْ قَالَ فِيهَا : وَإِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَالِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ ؛ وَإِنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ وَالْخَلْقُ بَائِنُونَ مِنْهُ بِلَا حُلُولٍ وَلَا مُمَازَجَةٍ وَلَا مُلَاصَقَةٍ وَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَلِيمٌ خَبِيرٌ يَتَكَلَّمُ وَيَرْضَى وَيَسْخَطُ وَيَضْحَكُ وَيَعْجَبُ وَيَتَجَلَّى لِعِبَادِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَاحِكًا وَيَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَمَنْ أَنْكَرَ النُّزُولَ أَوْ تَأَوَّلَ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ .

وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو عُثْمَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّابُونِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ فِي كِتَابِ " الرِّسَالَةِ فِي السُّنَّةِ " لَهُ :
وَيَعْتَقِدُ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَيَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُهُ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَأَعْيَانُ سَلَفِ الْأُمَّةِ ؛ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ وَعَرْشَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ . قَالَ : وَإِمَامُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ احْتَجَّ فِي كِتَابِهِ " الْمَبْسُوطِ " فِي مَسْأَلَةِ إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ فِي الْكَفَّارَةِ وَأَنَّ الرَّقَبَةَ الْكَافِرَةَ لَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِهَا بِخَبَرِ { مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ وَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْتِقَ الْجَارِيَةَ السَّوْدَاءَ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إعْتَاقِهِ إيَّاهَا فَامْتَحَنَهَا لِيَعْرِفَ أَنَّهَا مُؤْمِنَةٌ أَمْ لَا فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ رَبُّك ؟ فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } فَحَكَمَ بِإِيمَانِهَا لَمَّا أَقَرَّتْ أَنَّ رَبَّهَا فِي السَّمَاءِ وَعَرَفْت رَبَّهَا بِصِفَةِ الْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّةِ . وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ البيهقي : " بَابُ الْقَوْلِ فِي الِاسْتِوَاءِ " : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } وَأَرَادَ مَنْ فَوْقِ السَّمَاءِ ؛ كَمَا قَالَ : { وَلَأُصَلِّبَنَّكُم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } بِمَعْنَى عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ . وَقَالَ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ } أَيْ عَلَى الْأَرْضِ وَكُلُّ مَا عَلَا فَهُوَ سَمَاءٌ وَالْعَرْشُ أَعْلَى السَّمَوَاتِ . فَمَعْنَى الْآيَةِ أَأَمِنْتُمْ مَنْ عَلَى الْعَرْشِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ . قَالَ : وَفِيمَا كَتَبْنَا مِنْ الْآيَاتِ دَلَالَةٌ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ مِنْ الجهمية : أَنَّ اللَّهَ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } إنَّمَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ لَا بِذَاتِهِ . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى حَدِيثِ النُّزُولِ قَالَ : هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي صِحَّتِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ عَلَى الْعَرْشِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَات ؛ كَمَا قَالَتْ الْجَمَاعَةُ ؛ وَهُوَ مِنْ حُجَّتِهِمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَالَ : وَهَذَا أَشْهَرُ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ وَأَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ إلَى أَكْثَرَ مِنْ حِكَايَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ اضْطِرَارٌ لَمْ يُوقِفْهُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؛ وَلَا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ أَيْضًا : أَجْمَعَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الَّذِينَ حُمِلَ عَنْهُمْ التَّأْوِيلُ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ : { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ } هُوَ عَلَى الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ؛ وَمَا خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ . فَهَذَا مَا تَلَقَّاهُ الْخَلَفُ عَنْ السَّلَفِ ؛ إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ إذْ هُوَ الْحَقُّ الظَّاهِرُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالْأَحَادِيثُ النَّبَوِيَّةُ ؛ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَخْتِمَ لَنَا بِخَيْرِ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ لَا يَزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا ؛ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ إنَّهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ .

أنتهت الرسالة ...
شبكة مشكاة الإسلامية

سقراط 17-07-04 10:38 PM

رسالة إلى أهل البحرين
في رؤية الكفار ربهم
شيخ الإسلام ابن تيمية
مكتبة مشكاة الإسلامية



قال شيخ الإسلام : في " رسالته إلى أهل البحرين " واختلافهم في صلاة الجمعة :
والذي أوجب هذا :
أن وفدكم حدثونا بأشياء من الفرقة والاختلاف بينكم حتى ذكروا أن الأمر آل إلى قريب المقاتلة وذكروا أن سبب ذلك الاختلاف في " رؤية الكفار ربهم "
وما كنا نظن أن الأمر يبلغ بهذه المسألة إلى هذا الحد فالأمر في ذلك خفيف . وإنما المهم الذي يجب على كل مسلم اعتقاده :
أن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة وبعد ما يدخلون الجنة على ما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عند العلماء بالحديث ؛ فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم { أنا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر والشمس عند الظهيرة لا يضام في رؤيته } .
و " رؤيته سبحانه " هي أعلى مراتب نعيم الجنة وغاية مطلوب الذين عبدوا الله مخلصين له الدين ؛ وإن كانوا في الرؤية على درجات على حسب قربهم من الله ومعرفتهم به .
والذي عليه جمهور " السلف " أن من جحد رؤية الله في الدار الآخرة فهو كافر ؛ فإن كان ممن لم يبلغه العلم في ذلك عرف ذلك كما يعرف من لم تبلغه شرائع الإسلام فإن أصر على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر . والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة قد دون العلماء فيها " كتبا " مثل : " كتاب الرؤية " للدارقطني ولأبي نعيم وللآجري ؛ وذكرها المصنفون في السنة كابن بطة واللالكائي وابن شاهين وقبلهم عبد الله بن أحمد بن حنبل وحنبل بن إسحاق والخلال والطبراني وغيرهم .
وخرجها أصحاب الصحيح والمساند والسنن وغيرهم . فأما " مسألة رؤية الكفار " فأول ما انتشر الكلام فيها وتنازع الناس فيها - فيما بلغنا - بعد ثلاثمائة سنة من الهجرة وأمسك عن الكلام في هذا قوم من العلماء وتكلم فيها آخرون فاختلفوا فيها على " ثلاثة أقوال " مع أني ما علمت أن أولئك المختلفين فيها تلاعنوا ولا تهاجروا فيها ؛ إذ في الفرق الثلاثة قوم فيهم فضل وهم أصحاب سنة .
والكلام فيها قريب من الكلام في مسألة " محاسبة الكفار " هل يحاسبون أم لا ؟ هي مسألة لا يكفر فيها بالاتفاق والصحيح أيضا أن لا يضيق فيها ولا يهجر وقد حكي عن أبي الحسن بن بشار أنه قال : لا يصلى خلف من يقول : إنهم يحاسبون . والصواب الذي عليه الجمهور أنه يصلى خلف الفريقين بل يكاد الخلاف بينهم يرتفع عند التحقيق ؛ مع أنه قد اختلف فيها أصحاب الإمام أحمد وإن كان أكثرهم يقولون : لا يحاسبون واختلف فيها غيرهم من أهل العلم وأهل الكلام . وذلك أن " الحساب " قد يراد به الإحاطة بالأعمال وكتابتها في الصحف وعرضها على الكفار وتوبيخهم على ما عملوه وزيادة العذاب ونقصه بزيادة الكفر ونقصه فهذا الضرب من الحساب ثابت بالاتفاق . وقد يراد " بالحساب " وزن الحسنات بالسيئات ليتبين أيهما أرجح : فالكافر لا حسنات له توزن بسيئاته ؛ إذ أعماله كلها حابطة وإنما توزن لتظهر خفة موازينه لا ليتبين رجحان حسنات له .
وقد يراد " بالحساب " أن الله : هل هو الذي يكلمهم أم لا ؟ فالقرآن والحديث يدلان على أن الله يكلمهم تكليم توبيخ وتقريع وتبكيت لا تكليم تقريب وتكريم ورحمة وإن كان من العلماء من أنكر تكليمهم جملة .
والأقوال الثلاثة في " رؤية الكفار " :
أحدها:
أن الكفار لا يرون ربهم بحال لا المظهر للكفر ولا المسر له وهذا قول أكثر العلماء المتأخرين وعليه يدل عموم كلام المتقدمين وعليه جمهور أصحاب الإمام أحمد وغيرهم .

الثاني :
أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة ومنافقيها وغبرات من أهل الكتاب وذلك في عرصة القيامة ثم يحتجب عن المنافقين فلا يرونه بعد ذلك وهذا قول أبي بكر بن خزيمة من أئمة أهل السنة وقد ذكر القاضي أبو يعلى نحوه في حديث إتيانه سبحانه وتعالى لهم في الموقف الحديث المشهور .

الثالث :
أن الكفار يرونه رؤية تعريف وتعذيب - كاللص إذا رأى السلطان - ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم ويشتد عقابهم وهذا قول أبي الحسن بن سالم وأصحابه وقول غيرهم ؛ وهم في الأصول منتسبون إلى الإمام أحمد بن حنبل وأبي سهل بن عبد الله التستري . وهذا مقتضى قول من فسر " اللقاء " في كتاب الله بالرؤية ؛ إذ طائفة من أهل السنة منهم أبو عبد الله بن بطة الإمام قالوا في قول الله : { الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } وفي قوله : { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } وفي قول الله : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } وفي قوله : { قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله } وفي قوله : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } إن اللقاء يدل على الرؤية والمعاينة . وعلى هذا المعنى فقد استدل المثبتون بقوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه } .
ومن أهل السنة من قال " اللقاء " إذا قرن بالتحية فهو من الرؤية وقال ابن بطة : سمعت أبا عمر الزاهد اللغوي يقول : سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى بغلنا يقول في قوله : { وكان بالمؤمنين رحيما } { تحيتهم يوم يلقونه سلام } أجمع أهل اللغة أن اللقاء هاهنا لا يكون إلا معاينة ونظرة بالأبصار . وأما " الفريق الأول " فقال بعضهم : ليس الدليل من القرآن على رؤية المؤمنين ربهم قوله : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } وإنما الدليل آيات أخر مثل قوله : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } وقوله : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } وقوله : { إن الأبرار لفي نعيم } { على الأرائك ينظرون } وقوله : { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } إلى غير ذلك .

ومن أقوى ما يتمسك به المثبتون : ما رواه مسلم في صحيحه عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : { سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : هل تضارون في رؤية الشمس عند الظهيرة ليست في سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما قال : فيلقى العبد فيقول : أي فلان ألم أكرمك ؟ ألم أسودك ؟ ألم أزوجك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع ؟ قال : فيقول : بلى يا رب قال : فظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : يا رب لا . قال : فاليوم أنساك كما نسيتني . قال : فيلقى الثاني فيقول : ألم أكرمك ؟ ألم أسودك ؟ ألم أزوجك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع ؟ قال : فيقول : بلى يا رب قال : فظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : يا رب لا . قال : فاليوم أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثالث : فيقول له مثل ذلك . فيقول : يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقال : ألا نبعث شاهدنا عليك فيتفكر في نفسه من يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه : انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق الذي سخط الله عليه } . إلى هنا رواه مسلم .
وفي رواية غيره - وهي مثل روايته سواء صحيحة - قال : { ثم ينادي مناد ألا تتبع كل أمة ما كانت تعبد قال : فتتبع أولياء الشياطين الشياطين قال : واتبعت اليهود والنصارى أولياءهم إلى جهنم ثم نبقى أيها المؤمنون فيأتينا ربنا وهو ربنا فيقول : علام هؤلاء قيام ؟ فنقول نحن عباد الله المؤمنون عبدناه وهو ربنا وهو آتينا ويثيبنا وهذا مقامنا . فيقول : أنا ربكم فامضوا قال : فيوضع الجسر وعليه كلاليب من النار تخطف الناس فعند ذلك حلت الشفاعة لي اللهم سلم اللهم سلم قال : فإذا جاءوا الجسر فكل من أنفق زوجا من المال مما يملك في سبيل الله فكل خزنة الجنة يدعونه : يا عبد الله يا مسلم هذا خير فتعال يا عبد الله يا مسلم هذا خير فتعال فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ذلك العبد لا توى عليه يدع بابا ويلج من آخر فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على منكبيه وقال : والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون منهم } . وهذا حديث صحيح . وفيه أن الكافر والمنافق يلقى ربه .

ويقال : ظاهره أن الخلق جميعهم يرون ربهم فيلقى الله العبد عند ذلك . لكن قال ابن خزيمة والقاضي أبو يعلى وغيرهما " اللقاء " الذي في الخبر غير الترائي ؛ لا أن الله تراءى لمن قال له هذا القول وهؤلاء يقولون : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم ؛ لأنهم قالوا : هل نرى ربنا ؟ والضمير عائد على المؤمنين فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكافر يلقى ربه فيوبخه ثم بعد ذلك تتبع كل أمة ما كانت تعبد ثم بعد ذلك يراه المؤمنون . يبين ذلك أن في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد عن أبي هريرة : { أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال : هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا . يا رسول الله . قال : فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا . قال : فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة فيقول : من كان يعبد شيئا فليتبعه فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم فيقولون : هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه ؛ فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا فيعرفونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من جاوز من الرسل بأمته ؛ ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان ؟ قالوا نعم . قال : فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ومنهم المجازى حتى ينجو حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ؛ فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار - وهو آخر أهل النار دخولا الجنة - فيقبل بوجهه قبل النار فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيقول : هل عسيت إن فعل بك ذلك أن لا تسأل غير ذلك ؟ فيقول : لا وعزتك فيعطي الله ما شاء من عهد وميثاق فيصرف الله وجهه عن النار فإذا أقبل به على الجنة ورأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال : يا رب قدمني عند باب الجنة . فيقول الله له : أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت ؟ فيقول : يا رب لا أكون أشقى خلقك . فيقول ؛ هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن لا تسأل غير ذلك ؟ فيقول : لا . وعزتك لا أسأل غير ذلك فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول : يا رب أدخلني الجنة . فيقول الله : ويحك يا ابن آدم ما أغدرك ؟ أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت ؟ فيقول : يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله منه ؛ ثم يؤذن له في دخول الجنة فيقول : تمن . فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله : من كذا وكذا أقبل يذكره ربه حتى إذا انتهت به الأماني قال الله : لك ذلك ومثله معه } . قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله عنهما { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله : لك ذلك وعشرة أمثاله } قال أبو هريرة : لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله : { لك ذلك ومثله معه } قال أبو سعيد : إني سمعته يقول : { لك ذلك وعشرة أمثاله } .
وفي رواية في الصحيح قال : وأبو سعيد مع أبي هريرة لا يرد عليه في حديثه شيئا حتى إذا قال أبو هريرة : { إن الله قال : ذلك لك ومثله معه } قال أبو سعيد الخدري : { وعشرة أمثاله } يا أبا هريرة . فهذا الحديث من أصح حديث على وجه الأرض وقد اتفق أبو هريرة وأبو سعيد وليس فيه ذكر الرؤية إلا بعد أن تتبع كل أمة ما كانت تعبد . وقد روي بإسناد جيد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : { يجمع الله الناس يوم القيامة قال : فينادي مناد : يا أيها الناس ؛ ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم إلى من كان يعبد في الدنيا ؟ ويتولى قال : ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ويمثل لمن كان يعبد عزيرا شيطان عزير حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإسلام جثوما ؛ فيقال لهم : ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس ؟ فيقولون : إن لنا ربا ما رأيناه بعد ؛ قال : فيقال : فبم تعرفون ربكم إذا رأيتموه ؟ قالوا بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه . قيل : وما هو ؟ قالوا : يكشف عن ساق } وذكر الحديث .
ففي هذا الحديث أن المؤمنين لم يروه قبل تجليه لهم خاصة وأصحاب القول الآخر يقولون : معنى هذا لم يروه مع هؤلاء الآلهة التي يتبعها الناس فلذلك لم يتبعوا شيئا .
يدل على ذلك ما في الصحيحين أيضا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري { قلنا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم . فهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب ؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله قال : ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما . إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب ؛ فيدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد عزير ابن الله . فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون ؟ قالوا : عطشنا يا رب فاسقنا فيشار إليهم ألا تردون ؟ فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار ثم يدعى النصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال لهم : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تبغون ؟ فيقولون . عطشنا يا رب فاسقنا قال : فيشار إليهم ألا تردون ؟ فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضا فيتساقطون في النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر أتاهم الله في أدنى صورة من التي رأوه فيها - وفي رواية - قال : فيأتيهم الجبار في صورة غير الصورة التي رأوها أول مرة قال : فما تنتظرون : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد قالوا : يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم . فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا - مرتين أو ثلاثا ؛ حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب - فيقول : هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم . فيكشف عن ساق فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد نفاقا ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ثم يرفعون رءوسهم وقد تحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة فقال : أنا ربكم فيقولون : أنت ربنا . ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون : اللهم سلم سلم قيل : يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها : السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاود الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكردس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار } .
ففي هذا الحديث ما يستدل به على أنهم رأوه أول مرة قبل أن يقول : ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون . وهي " الرؤية الأولى " العامة التي في " الرؤية الأولى " عن أبي هريرة ؛ فإنه أخبر في ذلك الحديث بالرؤية واللقاء ثم بعد ذلك يقول ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون . وكذلك جاء مثله في حديث صحيح من رواية العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ثم يطلع عليهم رب العالمين فيقول : ألا يتبع الناس ما كانوا يعبدون فيمثل لصاحب الصليب صليبه ولصاحب النار ناره ولصاحب التصوير تصويره فيتبعون ما كانوا يعبدون ؛ ويبقى المسلمون فيطلع عليهم رب العالمين فيقول : ألا تتبعون الناس فيقولون : نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا وهو يأمرهم ويثبتهم ؛ ثم يتوارى ثم يطلع فيقول ألا تتبعون الناس فيقولون نعوذ بالله منك الله ربنا وهذا مكاننا حتى نرى ربنا ويثبتهم . قالوا وهل نراه يا رسول الله ؟ قال : فإنكم لا تتمارون في رؤيته تلك الساعة ثم يتوارى ثم يطلع عليهم فيعرفهم نفسه ثم يقول : أنا ربكم فاتبعوني فيقوم المسلمون ويوضع الصراط } .
وأبين من هذا كله في أن " الرؤية الأولى " عامة لأهل الموقف : حديث أبي رزين العقيلي - الحديث الطويل - قد رواه جماعة من العلماء وتلقاه أكثر المحدثين بالقبول وقد رواه ابن خزيمة في " كتاب التوحيد " وذكر أنه لم يحتج فيه إلا بالأحاديث الثابتة قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم { فتخرجون من الأصوى ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم قال : قلت : يا رسول الله كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض ننظر إليه وينظر إلينا قال : أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله ؟ : الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما في ساعة واحدة ويريانكم ولا تضامون في رؤيتهما ولعمر إلهك لهو على أن يراكم وترونه أقدر منهما على أن يرياكم وتروهما . قلت : يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه ؟ قال : تعرضون عليه بادية له صفحاتكم ولا يخفى عليه منكم خافية فيأخذ ربك بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فلعمر إلهك ما يخطئ وجه واحد منكم قطرة فأما المؤمن فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء ؛ وأما الكافر فتخطمه مثل الحمم الأسود ؛ إلا ثم ينصرف نبيكم صلى الله عليه وسلم فيمر على أثره الصالحون - أو قال - ينصرف على إثره الصالحون ؛ قال : فيسلكون جسرا من النار } وذكر حديث " الصراط " . وقد روى أهل السنن : قطعة من حديث أبي رزين بإسناد جيد { عن أبي رزين قال : قلت : يا رسول الله أكلنا يرى ربه يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر مخليا به ؟ قلت : بلى . قال : فالله أعظم } . فهذا الحديث فيه أن قوله : { تنظرون إليه وينظر إليكم } عموم لجميع الخلق كما دل عليه سياقه . وروى ابن خزيمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : { والله ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر - أو قال - ليلة يقول : ابن آدم ما غرك بي ؟ ابن آدم ما عملت فيما علمت ؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ } .
فهذه أحاديث مما يستمسك بها هؤلاء فقد تمسك بعضهم بقوله سبحانه وتعالى : { فلما رأوه زلفة } واعتقدوا أن الضمير عائد إلى الله وهذا غلط ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } { فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } فهذا يبين أن الذي رأوه هو الوعد أي : الموعود به من العذاب ألا تراه يقول : { وقيل هذا الذي كنتم به تدعون } ؟ وتمسكوا بأشياء باردة فهموها من القرآن ليس فيها دلالة بحال . وأما الذين خصوا " بالرؤية " أهل التوحيد في الظاهر - مؤمنهم ومنافقهم - فاستدلوا بحديث أبي هريرة وأبي سعيد المتقدمين كما ذكرناهما وهؤلاء الذين يثبتون رؤيته لكافر ومنافق إنما يثبتونها مرة واحدة أو مرتين لمنافقين " رؤية تعريف " ثم يحتجب عنهم بعد ذلك في العرصة .

أنتهت الرسالة
مكتبة مشكاة الإسلامية
....يتبع

سقراط 17-07-04 10:40 PM

رسالة في إيضاح الدلالة
في عموم الرسالة
شيخ الإسلام ابن تيمية


مكتبة مشكاة الإسلامية
وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل يجب على الإنسان أن يعلم أن الله عز وجل أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين : الإنس والجن وأوجب عليهم الإيمان به وبما جاء به وطاعته وأن يحللوا ما حلل الله ورسوله ويحرموا ما حرم الله ورسوله وأن يوجبوا ما أوجبه الله ورسوله ويحبوا ما أحبه الله ورسوله ويكرهوا ما كرهه الله ورسوله وأن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول . وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين : أهل السنة والجماعة وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ولا في أن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إليهم وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين وإن وجد فيهم من ينكر ذلك وكما يوجد في المسلمين من ينكر ذلك كما يوجد في طوائف المسلمين الغالطون والمعتزلة من ينكر ذلك وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك . وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلوما بالاضطرار ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة بل مأمورون منهيون ليسوا صفات وأعراضا قائمة بالإنسان أو غيره كما يزعمه بعض الملاحدة فلما كان أمر الجن متواترا عن الأنبياء تواترا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة لم يمكن طائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل أن تنكرهم كما لم يمكن لطائفة كبيرة من الطوائف المؤمنين بالرسل إنكار الملائكة ولا إنكار معاد الأبدان ولا إنكار عبادة الله وحده لا شريك له ولا إنكار أن يرسل الله رسولا من الإنس إلى خلقه ونحو ذلك مما تواترت به الأخبار عن الأنبياء تواترا تعرفه العامة والخاصة كما تواتر عند العامة والخاصة مجيء موسى إلى فرعون وغرق فرعون ومجيء المسيح إلى اليهود وعداوتهم له وظهور محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وهجرته إلى المدينة ومجيئه بالقرآن والشرائع الظاهرة وجنس الآيات الخارقة التي ظهرت على يديه كتكثير الطعام والشراب والإخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها بشر إلا بإعلام الله وغير ذلك . ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بسؤال أهل الكتاب عما تواتر عندهم كقوله : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } فإن من الكفار من أنكر أن يكون لله رسول بشر فأخبر الله أن الذين أرسلهم قبل محمد كانوا بشرا وأمر بسؤال أهل الكتاب عن ذلك لمن لا يعلم . وكذلك سؤالهم عن التوحيد وغيره مما جاءت به الأنبياء وكفر به الكافرون قال تعالى : { قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } وقال تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك } وقال تعالى : { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } . وكذلك شهادة أهل الكتاب بتصديق ما أخبر به من أنباء الغيب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي وقد علموا أن محمدا لم يتعلم من أهل الكتاب شيئا . وهذا غير شهادة أهل الكتاب له نفسه بما يجدونه من نعته في كتبهم كقوله تعالى : { أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } وقوله تعالى { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } وأمثال ذلك . وهذا بخلاف ما تواتر عند الخاصة من أهل العلم كأحاديث الرؤية وعذاب القبر وفتنته وأحاديث الشفاعة والصراط والحوض فهذا قد ينكره بعض من لم يعرفه من أهل الجهل والضلال ؛ ولهذا أنكر طائفة من المعتزلة كالجبائي وأبي بكر وغيرهما دخول الجن في بدن المصروع ولم ينكروا وجود الجن إذ لم يكن ظهور هذا في المنقول عن الرسول كظهور هذا وإن كانوا مخطئين في ذلك . ولهذا ذكر الأشعري في مقالات أهل السنة والجماعة أنهم يقولون : إن الجني يدخل في بدن المصروع كما قال تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : إن قوما يزعمون أن الجني لا يدخل في بدن الإنسي . فقال : يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه . وهذا مبسوط في موضعه . والمقصود هنا أن جميع طوائف المسلمين يقرون بوجود الجن وكذلك جمهور الكفار كعامة أهل الكتاب وكذلك عامة مشركي العرب وغيرهم من أولاد الهذيل والهند وغيرهم من أولاد حام وكذلك جمهور الكنعانيين واليونانيين وغيرهم من أولاد يافث . فجماهير الطوائف تقر بوجود الجن بل يقرون بما يستجلبون به معاونة الجن من العزائم والطلاسم سواء أكان ذلك سائغا عند أهل الإيمان أو كان شركا فإن المشركين يقرءون من العزائم والطلاسم والرقى ما فيه عبادة للجن وتعظيم لهم وعامة ما بأيدي الناس من العزائم والطلاسم والرقى التي لا تفقه بالعربية فيها ما هو شرك بالجن . ولهذا نهى علماء المسلمين عن الرقى التي لا يفقه معناها ؛ لأنها مظنة الشرك وإن لم يعرف الراقي أنها شرك . وفي صحيح مسلم عن { عوف بن مالك الأشجعي . قال : كنا نرقي في الجاهلية فقلنا : يا رسول الله كيف ترى في ذلك ؟ فقال : اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك } . وفي صحيح مسلم أيضا عن جابر قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقى قال : فعرضوها عليه فقال : ما أرى بأسا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه } وقد كان للعرب ولسائر الأمم من ذلك أمور يطول وصفها وأخبار العرب في ذلك متواترة عند من يعرف أخبارهم من علماء المسلمين وكذلك عند غيرهم ولكن المسلمين أخبر بجاهلية العرب منهم بجاهلية سائر الأمم إذ كان خير القرون كانوا عربا وكانوا قد عاينوا وسمعوا ما كانوا عليه في الجاهلية وكان ذلك من أسباب نزول القرآن فذكروا في كتب التفسير والحديث والسير والمغازي والفقه فتواترت أيام جاهلية العرب في المسلمين وإلا فسائر الأمم المشركين هم من جنس العرب المشركين في هذا وبعضهم كان أشد كفرا وضلالا من مشركي العرب وبعضهم أخف . والآيات التي أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم فيها خطاب لجميع الخلق من الإنس والجن . إذ كانت رسالته عامة للثقلين وإن كان من أسباب نزول الآيات ما كان موجودا في العرب فليس شيء من الآيات مختصا بالسبب المعين الذي نزل فيه باتفاق المسلمين وإنما تنازعوا : هل يختص بنوع السبب المسئول عنه ؟ وأما بعين السبب فلم يقل أحد من المسلمين : أن آيات الطلاق أو الظهار أو اللعان أو حد السرقة والمحاربين وغير ذلك يختص بالشخص المعين الذي كان سبب نزول الآية . وهذا الذي يسميه بعض الناس تنقيح المناط وهو أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم حكم في معين وقد علم أن الحكم لا يختص به فيريد أن ينقح مناط الحكم ليعلم النوع الذي حكم فيه كما أنه لما { أمر الأعرابي الذي واقع امرأته في رمضان بالكفارة } وقد علم أن الحكم لا يختص به وعلم أن كونه أعرابيا أو عربيا أو الموطوءة زوجته لا أثر له فلو وطئ المسلم العجمي سريته كان الحكم كذلك . ولكن هل المؤثر في الكفارة كونه مجامعا في رمضان أو كونه مفطرا ؟ فالأول مذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه والثاني مذهب مالك وأبي حنيفة وهو رواية منصوصة عن أحمد في الحجامة فغيرها أولى ثم مالك يجعل المؤثر جنس المفطر وأبو حنيفة يجعلها المفطر كتنوع جنسه فلا يوجبه في ابتلاع الحصاة والنواة . وتنازعوا هل يشترط أن يكون أفسد صوما صحيحا ؟ وأحمد لا يشترط ذلك ؛ بل كل إمساك وجب في شهر رمضان أوجب فيه الكفارة كما يوجب الأربعة مثل ذلك في الإحرام الفاسد فالصيام الفاسد عنده كالإحرام الفاسد كلاهما يجب إتمامه والمضي فيه والشافعي وغيره لا يوجبونها إلا في صوم صحيح والنزاع فيمن أكل ثم جامع أو لم ينو الصوم ثم جامع ومن جامع وكفر ثم جامع . ومثل قوله لمن أحرم بالعمرة في جبة متضمخا بالخلوق : { انزع عنك الجبة واغسل عنك أثر الصفرة } هل أمره بالغسل لكون المحرم لا يستديم الطيب كما يقوله مالك ؟ أو لكونه نهى أن يتزعفر الرجل فلا يمنع من استدامة الطيب كقول الثلاثة ؟ وعلى الأول فهل هذا الحديث منسوخ بتطييب عائشة له في حجة الوداع ؟ ومثل { قوله لما سئل عن فأرة وقعت في سمن : ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم } هل المؤثر عدم التغير بالنجاسة أو بكونه جامدا أو كونها فأرة وقعت في سمن فلا يتعدى إلى سائر المائعات ؟ ومثل هذا كثير وهذا لا بد منه في الشرائع ولا يسمى قياسا عند كثير من العلماء كأبي حنيفة ونفاة القياس ؛ لاتفاق الناس على العمل به كما اتفقوا على تحقيق المناط وهو : أن يعلق الشارع الحكم بمعنى كلي فينظر في ثبوته في بعض الأنواع أو بعض الأعيان كأمره باستقبال الكعبة وكأمره باستشهاد شهيدين من رجالنا ممن نرضى من الشهداء وكتحريمه الخمر والميسر ؛ وكفرضه تحليل اليمين بالكفارة وكتفريقه بين الفدية والطلاق ؛ وغير ذلك . فيبقى النظر في بعض الأنواع : هل هي خمر ويمين وميسر وفدية أو طلاق ؟ وفي بعض الأعيان : هل هي من هذا النوع ؟ وهل هذا المصلي مستقبل القبلة ؟ وهذا الشخص عدل مرضي ؟ ونحو ذلك ؛ فإن هذا النوع من الاجتهاد متفق عليه بين المسلمين بل بين العقلاء فيما يتبعونه من شرائع دينهم وطاعة ولاة أمورهم ومصالح دنياهم وآخرتهم . وحقيقة ذلك يرجع إلى تمثيل الشيء بنظيره وإدراج الجزئي تحت الكلي وذاك يسمى قياس التمثيل ؛ وهذا يسمى قياس الشمول وهما متلازمان فإن القدر المشترك بين الأفراد في قياس الشمول الذي يسميه المنطقيون الحد الأوسط هو القدر المشترك في قياس التمثيل الذي يسميه الأصوليون الجامع ؛ والمناط ؛ والعلة ؛ والأمارة ؛ والداعي والباعث ؛ والمقتضي ؛ والموجب ؛ والمشترك ؛ وغير ذلك من العبارات . وأما تخريج المناط وهو : القياس المحض وهو : أن ينص على حكم في أمور قد يظن أنه يختص الحكم بها فيستدل على أن غيرها مثلها إما لانتفاء الفارق ؛ أو للاشتراك في الوصف الذي قام الدليل على أن الشارع علق الحكم به في الأصل ؛ فهذا هو القياس الذي تقر به جماهير العلماء وينكره نفاة القياس . وإنما يكثر الغلط فيه لعدم العلم بالجامع المشترك الذي علق الشارع الحكم به وهو الذي يسمى سؤال المطالبة وهو : مطالبة المعترض للمستدل بأن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم ؛ أو دليل العلة . فأكثر غلط القائسين من ظنهم علة في الأصل ما ليس بعلة ولهذا كثرت شناعاتهم على أهل القياس الفاسد . فأما إذا قام دليل على إلغاء الفارق وأنه ليس بين الأصل والفرع فرق يفرق الشارع لأجله بين الصورتين ؛ أو قام الدليل على أن المعنى الفلاني هو الذي لأجله حكم الشارع بهذا الحكم في الأصل وهو موجود في صورة أخرى ؛ فهذا القياس لا ينازع فيه إلا من لم يعرف هاتين المقدمتين . وبسط هذا له موضع آخر . والمقصود هنا : أن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم شاملة للثقلين : الإنس والجن على اختلاف أجناسهم فلا يظن أنه خص العرب بحكم من الأحكام أصلا بل إنما علق الأحكام باسم مسلم وكافر ؛ ومؤمن ومنافق ؛ وبر وفاجر ؛ ومحسن وظالم ؛ وغير ذلك من الأسماء المذكورة في القرآن والحديث وليس في القرآن ولا الحديث تخصيص العرب بحكم من أحكام الشريعة ولكن بعض العلماء ظن ذلك في بعض الأحكام وخالفه الجمهور كما ظن طائفة منهم أبو يوسف أنه خص العرب بأن لا يسترقوا وجمهور المسلمين على أنهم يسترقون كما صحت بذلك الأحاديث الصحيحة حيث استرق بني المصطلق وفيهم جويرية بنت الحارث ثم أعتقها وتزوجها وأعتق بسببها من استرق من قومها . وقال في حديث هوازن : { اختاروا إحدى الطائفتين : إما السبي ؛ وإما المال } وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ له الملك وله الحمد ؛ وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل } . وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة أنه { كانت سبية من سبي هوازن عند عائشة فقال : أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل } وعامة من استرقه الرسول صلى الله عليه وسلم من النساء والصبيان كانوا عربا وذكر هذا يطول . ولكن عمر بن الخطاب لما رأى كثرة السبي من العجم واستغناء الناس عن استرقاق العرب رأى أن يعتقوا العرب من باب مشورة الإمام وأمره بالمصلحة ؛ لا من باب الحكم الشرعي الذي يلزم الخلق كلهم فأخذ من أخذ بما ظنه من قول عمر وكذلك ظن من ظن أن الجزية لا تؤخذ من مشركي العرب مع كونها تؤخذ من سائر المشركين . وجمهور العلماء على أنه لا يفرق بين العرب وغيرهم . ثم منهم من يجوز أخذها من كل مشرك ومنهم من لا يأخذها إلا من أهل الكتاب والمجوس ؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ الجزية من مشركي العرب وأخذها من المجوس وأهل الكتاب . فمن قال : تؤخذ من كل كافر . قال : إن آية الجزية لما نزلت أسلم مشركو العرب فإنها نزلت عام تبوك ولم يبق عربي مشرك محاربا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليغزو النصارى عام تبوك بجميع المسلمين - إلا من عذر الله - ويدع الحجاز وفيه من يحاربه ويبعث أبا بكر عام تسع فنادى في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ونبذ العهود المطلقة وأبقى المؤقتة ما دام أهلها موفين بالعهد كما أمر الله بذلك في أول سورة التوبة وأنظر الذين نبذ إليهم أربعة أشهر وأمر عند انسلاخها بغزو المشركين كافة قالوا : فدان المشركون كلهم كافة بالإسلام ولم يرض بذل أداء الجزية لأنه لم يكن لمشركي العرب من الدين بعد ظهور دين الإسلام ما يصبرون لأجله على أداء الجزية عن يد وهم صاغرون ؛ إذ كان عامة العرب قد أسلموا فلم يبق لمشركي العرب عز يعتزون به فدانوا بالإسلام حيث أظهره الله في العرب بالحجة والبيان والسيف والسنان . وقول النبي صلى الله عليه وسلم { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ؛ ويؤتوا الزكاة } مراده قتال المحاربين الذين أذن الله في قتالهم لم يرد قتال المعاهدين الذين أمر الله بوفاء عهدهم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول " براءة " يعاهد من عاهده من الكفار من غير أن يعطي الجزية عن يد فلما أنزل الله براءة وأمره بنبذ العهود المطلقة لم يكن له أن يعاهدهم كما كان يعاهدهم بل كان عليه أن يجاهد الجميع كما قال : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } . وكان دين أهل الكتاب خيرا من دين المشركين ومع هذا فأمروا بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإذا كان أهل الكتاب لا تجوز معاهدتهم كما كان ذلك قبل نزول براءة فالمشركون أولى بذلك أن لا تجوز معاهدتهم بدون ذلك . قالوا : فكان في تخصيص أهل الكتاب بالذكر تنبيها بطريق الأولى على ترك معاهدة المشركين بدون الصغار والجزية ؛ كما كان يعاهدهم في مثل هدنة الحديبية وغير ذلك من المعاهدات . قالوا : وقد ثبت في الصحيح من حديث بريدة قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك ؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا } . قالوا : ففي الحديث أمره لمن أرسله أن يدعو الكفار إلى الإسلام ثم إلى الهجرة إلى الأمصار وإلا فإلى أداء الجزية وإن لم يهاجروا كانوا كأعراب المسلمين والأعراب عامتهم كانوا مشركين فدل على أنه دعا إلى أداء الجزية من حاصره من المشركين وأهل الكتاب . والحصون كانت باليمن كثيرة بعد نزول آية الجزية وأهل اليمن كان فيهم مشركون وأهل كتاب وأمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عد له معافريا ولم يميز بين المشركين وأهل الكتاب فدل ذلك على أن المشركين من العرب آمنوا كما آمن من آمن من أهل الكتاب ومن لم يؤمن من أهل الكتاب أدى الجزية . وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا وأسلمت عبد القيس وغيرهم من أهل البحرين طوعا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب الجزية على أحد من اليهود بالمدينة ولا بخيبر ؛ بل حاربهم قبل نزول آية الجزية وأقر اليهود بخيبر فلاحين بلا جزية إلى أن أجلاهم عمر ؛ لأنهم كانوا مهادنين له وكانوا فلاحين في الأرض فأقرهم لحاجة المسلمين إليهم ثم أمر بإجلائهم قبل موته وأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب فقيل : هذا الحكم مخصوص بجزيرة العرب وقيل : بل هو عام في جميع أهل الذمة إذا استغنى المسلمون عنهم أجلوهم من ديار الإسلام ؛ وهذا قول ابن جرير وغيره . ومن قال : إن الجزية لا تؤخذ من مشرك قال : إن آية الجزية نزلت والمشركون موجودون فلم يأخذها منهم . والمقصود أنه لم يخص العرب بحكم وإن قيل : إنه خص جزيرة العرب التي هي حول المسجد الحرام كما خص المسجد الحرام بقوله : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } . وكذلك من قال من العلماء : إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه . فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم ؛ بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله ؛ كالدم والميتة ؛ والمنخنقة والموقوذة ؛ والمتردية والنطيحة ؛ وأكيلة السبع ؛ وما أهل به لغير الله وكانوا - بل خيارهم - يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه وقال : { لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه } وقال مع هذا : " إنه ليس بمحرم " وأكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه : " لا آكله ولا أحرمه " . وقال جمهور العلماء : الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعا لآكله في دينه والخبيث ما كان ضارا له في دينه . وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته فما أورث الأكل بغيا وظلما حرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع . لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان . وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب فإذا اغتذى
منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر . ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة ؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء لا يعاف شيئا والله لم يحرم على أمة محمد شيئا من الطيبات وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب كما قال تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } وقال تعالى : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون } . وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث كالدم المسفوح فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر ؛ ولهذا عفا جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولى أن يعفى عنه . وكذلك ريق الكلب يعفى عنه عند جمهور العلماء في الصيد كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في أظهر القولين في مذهبه وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي وإن وجب غسل الإناء من ولوغه عند جمهورهم . إذ كان الريق في الولوغ كثيرا ساريا في المائع لا يشق الاحتراز منه بخلاف ما يصيب الصيد فإنه قليل ناشف في جامد يشق الاحتراز منه . وكذلك التقديم في إمامة الصلاة بالنسب لا يقول به أكثر العلماء وليس فيه نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بل الذي ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا } فقدمه صلى الله عليه وسلم بالفضيلة العلمية ثم بالفضيلة العملية وقدم العالم بالقرآن على العالم بالسنة ثم الأسبق إلى الدين باختياره ثم الأسبق إلى الدين بسنه ولم يذكر النسب . وبهذا أخذ أحمد وغيره فرتب الأئمة كما رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر النسب وكذلك أكثر العلماء كمالك وأبي حنيفة لم يرجحوا بالنسب ولكن رجح به الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد ؛ كالخرقي وابن حامد والقاضي وغيرهم واحتجوا بقول سلمان الفارسي : إن لكم علينا معشر العرب ألا نؤمكم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم . والأولون يقولون : إنما قال سلمان هذا تقديما منه للعرب على الفرس كما يقول الرجل لمن هو أشرف منه : حقك علي كذا وليس قول سلمان حكما شرعيا يلزم جميع الخلق اتباعه كما يجب عليهم اتباع أحكام الله ورسوله ولكن من تأسى من الفرس بسلمان فله به أسوة حسنة ؛ فإن سلمان سابق الفرس . وكذلك اعتبار النسب في أهل الكتاب ليس هو قول أحد من الصحابة ولا يقول به جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وقدماء أصحابه ولكن طائفة منهم ذكرت عنه روايتان واختار بعضهم اعتبار النسب موافقة للشافعي والشافعي أخذ ذلك عن عطاء وبسط هذا له موضع آخر .

والمقصود هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علق الأحكام بالصفات المؤثرة فيما يحبه الله وفيما يبغض فأمر بما يحبه الله ودعا إليه بحسب الإمكان ونهى عما يبغضه الله وحسم مادته بحسب الإمكان لم يخص العرب بنوع من أنواع الأحكام الشرعية ؛ إذ كانت دعوته لجميع البرية ؛ لكن نزل القرآن بلسانهم بل نزل بلسان قريش كما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال لابن مسعود : أقرئ الناس بلغة قريش فإن القرآن نزل بلسانهم وكما قال عثمان للذين يكتبون المصحف من قريش والأنصار : إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة هذا الحي من قريش فإن القرآن نزل بلسانهم وهذا لأجل التبليغ ؛ لأنه بلغ قومه أولا ثم بواسطتهم بلغ سائر الأمم وأمره الله بتبليغ قومه أولا ثم بتبليغ الأقرب فالأقرب إليه كما أمر بجهاد الأقرب فالأقرب . وما ذكره كثير من العلماء من أن غير العرب ليسوا أكفاء للعرب في النكاح فهذه مسألة نزاع بين العلماء فمنهم من لا يرى الكفاءة إلا في الدين ومن رآها في النسب أيضا فإنه يحتج بقول عمر : لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء ؛ لأن النكاح مقصوده حسن الألفة فإذا كانت المرأة أعلى منصبا اشتغلت عن الرجل فلا يتم به المقصود . وهذه حجة من جعل ذلك حقا لله . حتى أبطل النكاح إذا زوجت المرأة بمن لا يكافئها في الدين أو المنصب ومن جعلها حقا لآدمي قال : إن في ذلك غضاضة على أولياء المرأة وعليها والأمر إليهم في ذلك . ثم هؤلاء لا يخصون الكفاءة بالنسب بل يقولون : هي من الصفات التي تتفاضل بها النفوس كالصناعة واليسار والحرية وغير ذلك وهذه مسائل اجتهادية ترد إلى الله والرسول ؛ فإن جاء عن الله ورسوله ما يوافق أحد القولين فما جاء عن الله لا يختلف وإلا فلا يكون قول أحد حجة على الله ورسوله . وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صحيح صريح في هذه الأمور بل قد قال صلى الله عليه وسلم { إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء الناس رجلان : مؤمن تقي ؛ وفاجر شقي } وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : . الفخر بالأحساب ؛ والطعن في الأنساب ؛ والنياحة ؛ والاستسقاء بالنجوم } وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : { إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل . واصطفى قريشا من كنانة واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا } . وجمهور العلماء على أن جنس العرب خير من غيرهم كما أن جنس قريش خير من غيرهم وجنس بني هاشم خير من غيرهم . وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا } . لكن تفضيل الجملة على الجملة لا يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد فإن في غير العرب خلقا كثيرا خيرا من أكثر العرب وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار من هو خير من أكثر قريش وفي غير بني هاشم من قريش وغير قريش من هو خير من أكثر بني هاشم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن خير القرون القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } وفي القرون المتأخرة من هو خير من كثير من القرن الثاني والثالث ومع هذا فلم يخص النبي صلى الله عليه وسلم القرن الثاني والثالث بحكم شرعي كذلك لم يخص العرب بحكم شرعي بل ولا خص بعض أصحابه بحكم دون سائر أمته ولكن الصحابة لما كان لهم من الفضل أخبر بفضلهم وكذلك السابقون الأولون لم يخصهم بحكم ولكن أخبر بما لهم من الفضل لما اختصوا به من العمل وذلك لا يتعلق بالنسب . والمقصود هنا أنه أرسل إلى جميع الثقلين : الإنس والجن فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية ولكن خص قريشا بأن الإمامة فيهم وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم وذلك لأن جنس قريش لما كانوا أفضل وجب أن يكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان وليست الإمامة أمرا شاملا لكل أحد منهم وإنما يتولاها واحد من الناس . وأما تحريم الصدقة فحرمها عليه وعلى أهل بيته تكميلا لتطهيرهم ودفعا للتهمة عنه كما لم يورث فلا يأخذ ورثته درهما ولا دينارا ؛ بل لا يكون له ولمن يمونه من مال الله إلا نفقتهم وسائر مال الله يصرف فيما يحبه الله ورسوله وذوو قرباه يعطون بمعروف من مال الخمس والفيء الذي يعطى منه في سائر مصالح المسلمين لا يختص بأصناف معينة كالصدقات ثم ما جعل لذوي القربى قد قيل : إنه سقط بموته كما يقوله أبو حنيفة وقيل : هو لقربى من يلي الأمر بعده كما روي عنه : { ما أطعم الله نبيا طعمة إلا كانت لمن يلي الأمر بعده } وهذا قول أبي ثور وغيره . وقيل : إن هذا كان مأخذ عثمان في إعطاء بني أمية وقيل : هو لذوي قربى الرسول صلى الله عليه وسلم دائما . ثم من هؤلاء من يقول : هو مقدر بالشرع وهو خمس الخمس كما يقوله الشافعي وأحمد في المشهور عنه . وقيل : بل الخمس والفيء يصرف في مصالح المسلمين باجتهاد الإمام ولا يقسم على أجزاء مقدرة متساوية وهذا قول مالك وغيره . وعن أحمد أنه جعل خمس الزكاة فيئا وعلى هذا القول يدل الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين وبسط هذه الأمور له موضع آخر . والمقصود هنا : أن بعض آيات القرآن وإن كان سببه أمورا كانت في العرب فحكم الآيات عام يتناول ما تقتضيه الآيات لفظا ومعنى في أي نوع كان ومحمد صلى الله عليه وسلم بعث إلى الإنس والجن . وجماهير الأمم يقر بالجن ولهم معهم وقائع يطول وصفها ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال المتفلسفة والأطباء ونحوهم وأما أكابر القوم فالمأثور عنهم : إما الإقرار بها . وإما أن لا يحكى عنهم في ذلك قول . ومن المعروف عن بقراط أنه قال في بعض المياه : إنه ينفع من الصرع لست أعني الذي يعالجه أصحاب الهياكل وإنما أعني الصرع الذي يعالجه الأطباء . وأنه قال : طبنا مع طب أهل الهياكل كطب العجائز مع طبنا . وليس لمن أنكر ذلك حجة يعتمد عليها تدل على النفي وإنما معه عدم العلم ؛ إذ كانت صناعته ليس فيها ما يدل على ذلك كالطبيب الذي ينظر في البدن من جهة صحته ومرضه الذي يتعلق بمزاجه وليس في هذا تعرض لما يحصل من جهة النفس ولا من جهة الجن وإن كان قد علم من غير طبه أن للنفس تأثيرا عظيما في البدن أعظم من تأثير الأسباب الطبية وكذلك للجن تأثير في ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم } وفي الدم الذي هو البخار الذي تسميه الأطباء الروح الحيواني المنبعث من القلب الساري في البدن الذي به حياة البدن كما قد بسط هذا في موضع آخر . والمراد هنا أن محمدا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الثقلين الإنس والجن وقد أخبر الله في القرآن أن الجن استمعوا القرآن وأنهم آمنوا به كما قال تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا } إلى قوله : { أولئك في ضلال مبين } ثم أمره أن يخبر الناس بذلك فقال تعالى : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا } إلخ فأمره أن يقول ذلك ليعلم الإنس بأحوال الجن وأنه مبعوث إلى الإنس والجن ؛ لما في ذلك من هدي الإنس والجن ما يجب عليهم من الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر وما يجب من طاعة رسله ومن تحريم الشرك بالجن وغيرهم كما قال في السورة : { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا } . كان الرجل من الإنس ينزل بالوادي - والأودية مظان الجن ؛ فإنهم يكونون بالأودية أكثر مما يكونون بأعالي الأرض - فكان الإنسي يقول : أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه فلما رأت الجن أن الإنس تستعيذ بها زاد طغيانهم وغيرهم وبهذا يجيبون المعزم والراقي بأسمائهم وأسماء ملوكهم فإنه يقسم عليهم بأسماء من يعظمونه فيحصل لهم بذلك من الرئاسة والشرف على الإنس ما يحملهم على أن يعطوهم بعض سؤلهم لا سيما وهم يعلمون أن الإنس أشرف منهم وأعظم قدرا فإذا خضعت الإنس لهم واستعاذت بهم كان بمنزلة أكابر الناس إذا خضع لأصاغرهم ليقضي له حاجته . ثم الشياطين منهم من يختار الكفر والشرك ومعاصي الرب . وإبليس وجنوده من الشياطين يشتهون الشر ويلتذون به ويطلبونه ويحرصون عليه بمقتضى خبث أنفسهم وإن كان موجبا لعذابهم وعذاب من يغوونه كما قال إبليس : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين } { إلا عبادك منهم المخلصين } وقال تعالى : { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا } وقال تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } . والإنسان إذا فسدت نفسه أو مزاجه يشتهي ما يضره ويلتذ به ؛ بل يعشق ذلك عشقا يفسد عقله ودينه وخلقه وبدنه وماله والشيطان هو نفسه خبيث فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام وكتب الروحانيات السحرية وأمثال ذلك إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة والبرطيل لهم فيقضون بعض أغراضه كمن يعطي غيره مالا ليقتل له من يريد قتله أو يعينه على فاحشة أو ينال معه فاحشة . ولهذا كثير من هذه الأمور يكتبون فيها كلام الله بالنجاسة - وقد يقلبون حروف كلام الله عز وجل إما حروف الفاتحة وإما حروف { قل هو الله أحد } وأما غيرهما - إما دم وإما غيره وإما بغير نجاسة . أو يكتبون غير ذلك مما يرضاه الشيطان أو يتكلمون بذلك . فإذا قالوا أو كتبوا ما ترضاه الشياطين أعانتهم على بعض أغراضهم إما تغوير ماء من المياه وإما أن يحمل في الهواء إلى بعض الأمكنة وإما أن يأتيه بمال من أموال بعض الناس كما تسرقه الشياطين من أموال الخائنين ومن لم يذكر اسم الله عليه وتأتي به وإما غير ذلك . وأعرف في كل نوع من هذه الأنواع من الأمور المعينة ومن وقعت له ممن أعرفه ما يطول حكايته ؛ فإنهم كثيرون جدا . والمقصود أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الثقلين واستمع الجن لقراءته وولوا إلى قومهم منذرين كما أخبر الله عز وجل وهذا متفق عليه بين المسلمين . ثم أكثر المسلمين من الصحابة والتابعين وغيرهم يقولون : أنهم جاءوه بعد هذا وإنه قرأ عليهم القرآن وبايعوه وسألوه الزاد لهم ولدوابهم فقال لهم : { لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يعود أوفر ما يكون لحما ولكم كل بعرة علف لدوابكم قال النبي صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجن } وهذا ثابت في صحيح مسلم وغيره من حديث ابن مسعود . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أبي هريرة { نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والروث } في أحاديث متعددة وفي صحيح مسلم وغيره { عن سلمان قال : قيل له : قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة قال : فقال : أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول وأن نستنجي باليمين وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار وأن نستنجي برجيع أو عظم } . وفي صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر قال : { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتمسح بعظم أو ببعر } وكذلك النهي عن ذلك في حديث خزيمة بن ثابت وغيره . وقد بين علة ذلك في حديث ابن مسعود ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم } . في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة { أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه بها قال : من هذا ؟ قلت : أبو هريرة قال : ابغني أحجارا أستنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعتها إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت فقلت : ما بال العظم والروثة ؟ قال : هما من طعام الجن وإنه أتاني وفد جن نصيبين - ونعم الجن - فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا روثة إلا وجدوا عليها طعاما } . ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بما يفسد طعام الجن وطعام دوابهم كان هذا تنبيها على النهي عما يفسد طعام الإنس وطعام دوابهم بطريق الأولى لكن كراهة هذا والنفور عنه ظاهر في فطر الناس بخلاف العظم والروثة فإنه لا يعرف نجاسة طعام الجن ؛ فلهذا جاءت الأحاديث الصحيحة المتعددة بالنهي عنه . وقد ثبت بهذه الأحاديث الصحيحة أنه خاطب الجن وخاطبوه وقرأ عليهم القرآن وأنهم سألوه الزاد . وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أنه كان يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الجن ولا خاطبهم ولكن أخبره أنهم سمعوا القرآن وابن عباس قد علم ما دل عليه القرآن من ذلك ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة وغيرهما من إتيان الجن إليه ومخاطبته إياهم وأنه أخبره بذلك في القرآن وأمره أن يخبر به وكان ذلك في أول الأمر لما حرست السماء وحيل بينهم وبين خبر السماء وملئت حرسا شديدا وكان في ذلك من دلائل النبوة ما فيه عبرة كما قد بسط في موضع آخر وبعد هذا أتوه وقرأ عليهم القرآن وروي أنه قرأ عليهم سورة الرحمن وصار كلما قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } قالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد . وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل كقوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا } وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا : { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدا } أي : مذاهب شتى : مسلمون وكفار ؛ وأهل سنة وأهل بدعة وقالوا : { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا } والقاسط : الجائر يقال : قسط إذا جار وأقسط إذا عدل . وكافرهم معذب في الآخرة باتفاق العلماء . وأما مؤمنهم فجمهور العلماء على أنه في الجنة وقد روي : " أنهم يكونون في ربض الجنة تراهم الإنس من حيث لا يرونهم " . وهذا القول مأثور عن مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد . وقيل : إن ثوابهم النجاة من النار وهو مأثور عن أبي حنيفة . وقد احتج الجمهور بقوله: { لم يطمسهن إنس قبلهم ولا جان } قالوا: فدل ذلك على تأتي الطمث منهم لأن طمث الحور العين إنما يكون في الجنة.

....يتبع


الساعة الآن 12:46 AM.

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. , Designed & TranZ By Almuhajir