- أستاذنا الدكتور أبو الفتوح عقل.. ماذا عن تجربتك كموجه للغة العربية في المعاهد الأزهرية؟!
قضية اللغة العربية في المدارس ينبغي أن لا نمر عليها مرور الكرام, اللغة العربية في المدارس وكذلك في المعاهد الأزهرية, وأنا عملت هنا وعملت هناك, ولنا تجربة في التوجيه أيضًا ليست بالهينة في إحدى الدول العربية, على وجه التحديد في دولة الإمارات, اللغة العربية تعيش مأساة حقيقية بين أبنائها في المدارس, فمن كل عشرة يمكنك الحصول على واحد أو اثنين يتحدثان باللغة العربية بطريقة صحيحة وبثقة وتمكّن. ونود أن نتوقف طويلاً مع وضع اللغة العربية في المداس, وهذا مكشوف عنه في وسائل الإعلام.
والمجتمع يعرف أيضًا لكن الواقع داخل المدرسة فعلاً واقع مأساوي, وهذا عايشناه بوصفنا موجهين, وعايشناه كذلك بوصفنا مدرسين, وإخواننا يعملون إلى جوارنا في شتى التخصصات فضلاً عن أساتذة اللغة العربية, كثيرون منهم لا يحسنون أداء الدرس ولا شرحه باللغة العربية الصحيحة من أهل الاختصاص, والإدارة المدرسية كذلك ليست معنية بالقدر الكافي بهذه القضية, وكل الذي يعني هؤلاء وهؤلاء أن تكون نسبة النجاح معقولة, وأن تثبت هذه اللغة في أوراق, وأن تكون كل الأمور على ما يرام في نهاية العام, أما الممارسة الفعلية للغة العربية والأنشطة الدرسية داخل الحصة نفسها ففيها قصور كبير.
- حتى أن موجه اللغة العربية نفسه انشغل أو أُشغل بأمور لا تمت إلى اللغة العربية بصلة, فإنه يدخل المدرسة لينظر في دورات المياه وصناديق القمامة ونظافة الفصل, وهي أمور مهمة, ولكنها ينبغي أن لا تدخل في صلب عمل موجه اللغة العربية.
نعم.. انشغل الموجهون الآن بأمور كثيرة خارج نطاق المادة العلمية, والتي من المفترض أنه جاء لمتابعتها ولتصحيح وتقويم المعوجّ منها, هذا أمر في غاية الأهمية, ينبغي للمدرسة أن تحسن الإشراف على مدرسيها, وأن يتأكد المدير من أن المدرسين ملتزمون بأداء الدرس بالغة الفصيحة السليمة, وعليه وهو يتقبل من أبنائه الطلبة ومن بناته الطالبات أن لا يقبل منهم إلا اللغة الصحيحة الفصيحة, حتى لو أخطأ التلميذ أو أخطأت الطالبة, فعليه أن يصوب له الخطأ بطريقة لطيفة تربوية لا توقع التلميذ في الحرج, لأنه لو وقع في حرج يمكن أن يتحرج بعد ذلك ولا يتابع النشاط باللغة العربية الفصحى, فالمدرسة مسئولة مسئولية كبيرة إدارةً ومدرسين.
أيضًا وسائل وأجهزة الإعلام عليها دور كبير, برامج كثيرة جدًا يا سيدي تُقدم بالعامية, المسرحيات والمسلسلات تقدم بالعامية, حتى برامج الأطفال تقدم أيضًا بالعامية.
- ولم يتوقف الأمر على مجرد تقديمها بالعامية, وإنما إضافة إلى ذلك السخرية من أهل اللغة العربية.
نعم.. نسمع كثيرًا عبارة "ما تكلمنيش بالنحوي".. هذه المهازل ينبغي أن تتوقف احترامًا وإجلالاً لهذه اللغة, ثم أقول للذين يخشون على أنفسهم وهم يتحدثون الفصحى من سخرية وهمز ولمز المجتمع: والله لا يضيركم أبدًا أن تتحدثوا بها إطلاقًا, هذا الذي يسخر إنما يسخر من نفسه ويهزأ من نفسه, ولو رآنا الناس جادين في استخدام هذه اللغة والتعامل بها مع كل الناس فما هو إلا وقت قليل وسيعترفون لنا بالفضل ويجبرون على التعامل معنا بكل احترام وجدية, وحينها سيكتسب المتحدث بها شكلاً عظيمًا ووجاهة وقيمة, وبالتالي سيكون مسموع الكلمة بين الناس مهابًا بينهم عن طريق استخدامه لهذه اللغة الفصيحة.
- هل كان الاحتلال أو كما يحلو للبعض أن يسميه "الاستعمار", هل كان يقف وراء ذلك المستوى المتدني للغة العربية التي نعيشه الآن في حياتنا؟!
لو نظرنا إلى دور الاستعمار – ونقول الاستعمار حتى نتفاهم بالمصطلح الشائع – فالاستعمار أو المحتل أول هم من همومه أن يسلب المستعمَر أو المحتل شخصيته, وأن يشعره بالانهزام, وأن يتأكد من أنه تابع ذلول مهيأ للاستماع, فاللغة العربية التي هي لغة القرآن ولغة العبادة ولغة الشعائر ولغة العلماء ولغة التعامل مع التراث ولغة التاريخ ولغة الاتصال بالقيم ولغة إحياء معاني التميز, هذه اللغة بكل هذا الزخم تصنع إنسانًا عظيمًا يستعصي على الاحتواء.. إنسانًا له تميزه وله اعتزازه, والمستعمر لا يمكن أن يقوم ويبقى ويستمر في بلد فيه عزة, وعينه الأولى في الأساس على أن يسلبه عزته وكرامته وهويته, وقد أشرت من قبل إلى الكلمة التي قالها العقاد عن اللغة العربية: "الهوية الواقية", فعندما كُسرت الهوية الواقية في الجزائر استطاعوا أن يفرنجوا الجزائر ويحولوا بينها وبين لغتها العربية حتى استعصى على أهل الجزائر أنفسهم كيف يتفاهمون, وفعلوا هذا في المغرب وفعلوه في بلاد كثيرة. أما في بلادنا وبفضل الله كان للأزهر فضل كبير بعد الله تبارك وتعالى على حماية هذه اللغة, والمتدينون والدعاة المصلحون المنتصبون للدفاع عن الدعوة وعن الإسلام همهم الأساسي الدفاع عن هذه اللغة حتى يسلُس لهم أمر الدفاع وأمر الدعوة في المجالات كلها, إذن التآمر على اللغة من أول مخطط "وليام ويلكوكس" في مشروعه الاستعماري الذي دعا إلى تمصير اللغة, وتحويلها إلى اللغة العامية المصرية, ومحاولته المستميتة لكي يحول بين الناس وبين أصول اللغة العربية, والمؤسف أن كثيرين ممن عاصروه صدّقوه وظلوا أن هذا الثعلب الماكر يريد خيرًا للغة العربية وأهلها, حتى بعض العلماء والمتخصصين سقطوا في أحابيله, وقالوا: نبحث عن بديل للغة العربية, ومنهم من قال: نكتبها بالحروف اللاتينية, ومنهم من قال: نختار لغة وسطًا بين العامية والفصحى ونسميها "الفصحمية".
- وللأسف كان بعضهم من الرواد والمتخصصين في مجال اللغة العربية!!
نعم.. في الحقيقة أسماء خطيرة جدًا, يؤسفنا أن يكون رجل بقدر "طه حسين" يقع في مثل هذا الأمر, وإن كنت – للإنصاف – أعلم أن الرجل في أواخر أيامه رجع عن هذا ودافع عن العربية, وآخرون غيره ولا نريد أن نذكر أسماءً, لكن يكفي أن حافظ إبراهيم قام ردًا على هذه الهجمة, وقام غيره, ولأن اللغة تلامس الفطرة, وتلامس العزة, وتلامس الميل القلبي والحب, ولأنها القرآن ولأنها الحديث, كان الناس جميعًا مهيئين لأن ينفعلوا ضد مثل هذه الدعوة ويبطلوها ويوقفوها.
- كيف السبيل إذن للنهوض بهذه اللغة من كبوتها والمحافظة عليها؟!!
لكل لغة حراس عليها.. لكل لغة رجال يدافعون عنها, من رجالنا المخلصين ومن علمائنا الأفاضل الذين جاد بهم الزمان من لدن فجر العربية إلى يومنا هذا, فحافظ إبراهيم في خضم هذه الأزمة التي تحدث الزميل الفاضل عنها ألقى قصيدته المشهورة دفاعًا عن اللغة العربية وفي صدرها يقول:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وَلَدْتُ وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِعَرَائِسِي *** رِجَالاً وَأَكْفَاءً وَأَدْتُ بَنَاتِي
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي موقف حافظ إبراهيم موقف فريد, نحن نريد من حراس العربية وعلمائها الأفاضل أن يوجدوا على الساحة, وأن يظهر منهم المختفون وهم كثيرون وهم أفذاذ, يستطيعون أن يكتبوا, وفي أجهزة الإعلام أن ينادوا بأعلى أصواتهم: كيف ننهض بالعربية؟! وينبهون إلى مواطن العلة والداء, ينبغي أن يكون هذا الصوت موجودًا في كل نوافذ الإعلام صباح مساء, لأن الموقف يحتاج إلى ذلك والموقف خطير للغاية, وقد تابعنا في الفترة الأخيرة من يؤكدون في بحوث أن اللغة العربية - وبالذات بين الناشئة - مهددة تهديدًا خطيرًا أن تتوارى عن ألسنة أبنائنا إزاء هذا النشاط اللغوي الأجنبي الذي يستشري يومًا بعد يوم, وبمناسبة ذلك أقول: نحن لسنا ضد اللغة الإنجليزية, نحن في حاجة إليها, والعولمة تفرض علينا ذلك, ولكن ليس على حساب اللغة العربية ولا على حساب التربية الدينية, والتربية الدينية بالمناسبة ينبغي أن يكون لها مجموعها, وأن يضاف إلى المجموع العام للثانوية العامة, هذا أمر مهم للغاية. أيضًا مسألة التعريب للتعليم العلمي التطبيقي, التجربة موجودة في سوريا الشقيقة, ونجحت نجاحًا باهرًا, ففي كليات الطب والهندسة والحاسبات تدرس هذه المواد هناك باللغة العربية. وهناك أمر أود أن أنبه عليه وأن ينتبه الجميع له: ينبغي أن يكون مقرر اللغة العربية موجودًا بكل الكليات لكل طالب جنبًا إلى جنب بجانب التربية الدينية, اللغة العربية ينبغي أن يكون لها وجود واضح في كل مراحل التعليم.. هذه مسألة مهمة. وأضف إليها إن تكرمت علينا إخواننا في وسائل الإعلام, عليهم أن يعيدوا حساباتهم وأن يفسحوا الطريق فقط للقادرين على التحدث وإدارة الحوار وتقديم البرامج باللغة الفصيحة.. هذه المسألة لا تقبل المناقشة. إلى إخواننا كذلك في السلك الدبلوماسي لا تتحدثوا إلا بالفصحى في المؤتمرات العامة, افرضوها فرضًا أينما وليتم وجوهكم.. احرصوا على أن تجعلوها لغة عالمية بكل الوسائل الممكنة وتمسكوا بها, فهي جزء من شخصيتكم وهوية أمتكم التي نعتز بها جميعًا.. ينبغي أن نفيق, وأن نعود إليها, مخلصين لها, حريصين عليها, متمسكين بها؛ لأنها لغة الله يوم القيامة ولغة أهل الجنة في الآخرة.
- لعل هذه الندوة تكون خطوة على طريق الحفاظ على هويتنا المتمثلة في لغتنا العربية..
وفي الختام أتقدم بخالص الشكر إلى ضيفيّ الكريمين والعلمين اللغويين:
- الأستاذ الدكتور حمدي فتوح والي الحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي.
- والأستاذ الدكتور أبو الفتوح حسن عقل أستاذ الأدب والنقد بكلية التربية جامعة المنصورة.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
التوقيع
|
وما العجزُ إلاّ أنْ تُشَاوِرَ عاجزاً
و ما العَزْمُ إلا أن تَهُمَّ وتَفْعَلاَ
|
|