العاب اون لاين: العاب بلياردو | العاب سيارات | العاب دراجات | العاب طبخ | العاب تلبيس |العاب بنات |العاب توم وجيري | العاب قص الشعر |
للشكاوي والاستفسار واستعادة الرقم السري لعضوية قديمة مراسلة الإدارة مراسلتنا من هنا |
|
|
|
أدوات الموضوع | تقييم الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
Ξ♥ΞΞ♥Ξ غاده سمان Ξ♥ΞΞ♥Ξ
ولدت غادة السمان في دمشق عام 1942.
تلقت علومها في مدرسة البعثة العلمانية الفرنسية، وفي التجهيز الرسمية بدمشق. تخرجت من جامعة دمشق تحمل شهادة الليسانس في اللغة الإنكليزية. نالت شهادة الماجستير في الأدب الإنكليزي من الجامعة الأميركية في بيروت، عام 1968. تزوجت د. بشير الداعوق صاحب دار الطليعة للنشر، أسست داراً خاصة لنشر مؤلفاتها. لها العديد من الكتب في شتى أنواع الكتابة الأدبية والإبداعية. في حقل الرواية أصدرت على التوالي: - بيروت 75، عام 1975. - كوابيس بيروت، 1979. - ليلة المليار، 1986. - الرواية المستحيلة، فسيفساء دمشقية، 1997. وفي حقل القصة القصيرة أصدرت على التوالي المجموعات التالية : - عيناك قدري 1962. - لا بحر في بيروت 1963. - ليل الغرباء، 1966. - حب، 1973. - غربة تحت الصفر، 1987. - الأعماق المحتلة، 1987. - أشهد عكس الريح، 1988. - القمر المربح، 1994. أما مقالاتها الأدبية الإبداعية ونصوصها الشعرية فقد نشرتها في 16 كتاباً من بينها: "أعلنت عليك الحب" و "الجسد حقيبة سفر"، و "الرغيف ينبض كالقلب" و "كتابات غير ملتزمة" و "الحب من الوريد إلى الوريد" و "القبيلة تستجوب القتيلة" و "أشهد عكس الريح". وقد حظيت غادة السمان باهتمام نقدي واسع تمثل بصدور سبعة كتب عن أدبها، عدا آلاف المقالات والدراسات، ومن بين أصحاب هذه الكتب: غالي شكري وحنان عواد وشاكر النابلسي وعبد اللطيف الأرناؤوط. ولها عدا ذلك كتاب مترجم بعنوان "الشعوب والبلدان." ــــــــــــــــــــــــــ نموذج من ابداعاتها ((اميرة في قصرك الثلجي )) ------------------------- أين أنت أيها الاحمق الغالي ضيعتني لأنك أردت امتلاكي .... * * * ضيعتَ قدرتنا المتناغمة على الطيران معاً وعلى الإقلاع في الغواصة الصفراء ... * * * أين أنت ولماذا جعلت من نفسك خصماً لحريتي ، واضطررتني لاجتزازك من تربة عمري * * * ذات يوم ، جعلتك عطائي المقطر الحميم ... كنت تفجري الأصيل في غاب الحب ، دونما سقوط في وحل التفاصيل التقليدية التافهة .. * * * ذات يوم ، كنتُ مخلوقاً كونياً متفتحاً كلوحة من الضوء الحي ... يهديك كل ما منحته الطبيعة من توق وجنون ، دونما مناقصات رسمية ، أو مزادات علنية ، وخارج الإطارات كلها ... * * * لماذا أيها الأحمق الغالي كسرت اللوحة ، واستحضرت خبراء الإطارات * * * أنصتُ إلى اللحن نفسه وأتذكرك ... يوم كان رأسي طافياً فوق صدرك وكانت اللحظة ، لحظة خلود صغيرة وفي لحظات الخلود الصغيرة تلك لا نعي معنى عبارة "ذكرى" .. كما لا يعي الطفل لحظة ولادته ، موته المحتوم ذات يوم ... * * * حاولت ان تجعل مني أميرة في قصرك الثلجي لكنني فضلت أن أبقى صعلوكة في براري حريتي ... * * * آه أتذكرك ، أتذكرك بحنين متقشف ... لقد تدحرجت الأيام كالكرة في ملعب الرياح منذ تلك اللحظة السعيدة الحزينة ... لحظة ودعتك وواعدتك كاذبة على اللقاء وكنت أعرف انني أهجرك . * * * لقد تدفق الزمن كالنهر وضيعتُ طريق العودة إليك ولكنني ، ما زلت أحبك بصدق ، وما زلت أرفضك بصدق ... * * * لأعترف أحببتك أكثر من أي مخلوق آخر ... وأحسست بالغربة معك ، أكثر مما أحسستها مع أي مخلوق آخر ... معك لم أحس بالأمان ، ولا الألفة ، معك كان ذلك الجنون النابض الأرعن النوم المتوقد .. استسلام اللذة الذليل ... آه اين أنت وما جدوى أن أعرف ، إن كنتُ سأهرب إلى الجهة الأخرى من الكرة الأرضية ... * * * وهل أنت سعيد أنا لا . سعيدة بانتقامي منك فقط . * * * وهل أنت عاشق أنا لا . منذ هجرتك ، عرفت لحظات من التحدي الحار على تخوم الشهوة ... * * * وهل أنت غريب أنا نعم . أكرر : غريبة كنت معك ، وغريبة بدونك ، وغريبة بك إلى الأبد .
|
#2
|
||||
|
||||
كتاب غادة السمان (امرأة عربية وحرة )
في الصفحة الأولى لكتاب المبدعة العربية غادة السمان مشاريع إهداءات اهداء(1) إلى الذين يؤمنون مثلي أن الوطن طائر ، لن يحلق إلا بجناحيه : المرأة والرجل اهداء (2) إذا كانت المرأة الحرة ترعبك إذا كنت نغمة في كورس الشخير التاريخي أهديك هذا الكتاب فقد يطلق سراح فقير الأسئلة داخل رأسك وقد تستيقظ ولو غاضباً علي اهداء (3) إلى الرجال العاشقين لإنسانية المرأة والذين يقفون حقاً مع حرية المرأة وإلى نساء الحرية رغم الثمن الباهض تحية من واحدة منكن أهداء (4) إلى الذين توقعوا مني إصدار هذا الكتاب بمناسبة اليوم العالمي للمرأة المرأة ليست مناسبة إنها البارحة والآن غداً وإلى الذين يحزنهم مثلي أن هذه المقالات العتيقة لم تصبح في ذمة التاريخ ترى هل يعود التاريخ إلى الوراء عندنا ؟ اهداء(5) إلى الذين يتساءلون حول قول أرغون ويتهامسون : ترى هل ((المرأة مستقبل الرجل )) حقاً ؟
|
#3
|
||||
|
||||
نماذج من أعمالها
هاربة من منبع الشمس مازلت في أعماقي.. تمسح الطين عن جسدي بأهدابك ! مازلت في أعماقي... النجوم تفور من منابت شعرك فوق الجبين الأسمر وتنهمر فوق صدرك وهديرها أبداً يناديني .. يهتف باسمي ذائباً ملهوفً .. وأسرع في مشيتي، أشد كتبي إلى معطفي، وتظل أنت تتمطى في أعماقي، والشتاء يتأوه في قطرات المطر التي تلعق وجهي .. وتظل أنت تهتف باسمي، والريح تعول وتدور حول الأذرع الرمادية لأشجار متعبة تسندها ظلالها إلى جانبي الطريق .. والرعد يتدفق في أذني كصرخات دامية التمزق لامرأة ضائعة في صحاري شاسعة. مازلت في أعماقي تتمطى! وأنا أنزلق فوق ظلمة الشارع، ويخيل إليّ أن برك الماء المتجمدة قد ابتلعت أنوار الجامعة التي خرجت منها قبل قليل .. وألتفت ورائي وكأنني أريد أن أتحقق من أنها فعلا هناك .. المكتبة، والمقاعد الخشبية في الحديقة، والنادي المزدحم حيث التقيت زرقة عينيك الضالتين أول مرة، يوم جئت تبحث عن أختك، زميلتي في الصف، وتطوعت أنا لأشاركك التفتيش عنها .. وأحسسنا بسعادة مبهمة ونحن ندور معاً من مدرج إلى مدرج ومن باحة على باحة فلا نجدها .. ونتبادل الحديث بعفوية لذيذة كأي صديقين قديمين .. كم كانت أختك رائعة وكريمة ذلك اليوم! .. لقد اختفت .. لم نجدها بالرغم من الساعة التي قضيناها منقّبين، والتي انتقل البحث في دقائقها الأخيرة من القاعات إلى وجهينا .. وشدتني إلى عينيك كآبة حنون، مغرية الدفء كلهيب موقد يلوح لضائع بين الثلوج من وراء زجاج نافذة .. تنهدت بارتياح لما لم نجدها، وعرضت عليّ تناول كأس من الليمون في النادي ريثما نستريح ونعاود البحث من جديد .. وجلست أمامك .. أشرب من ملامح وجهك وأخزنها في أعماقي بحرص بينما أنت تحدثني ببساطة وانطلاق عن رتابة ساعاتك .. عن جلستك البلهاء كل أمسية وراء زجاج المقهى وتشابه أيامك .. كيف أن السبت يمكن أن يكون ثلاثاء أو أربعاء بالنسبة إليك .. الأشياء التي فقدت طعمها ولونها والأيام التي أضاعت مدلولها .. وظللت أعب من كأسي وفرحة جديدة تعربد فوق المنضدة وتنثر شعرها إشعاعات سعادة في كل ما حولنا .. حتى في نظرات زملائي المرتابة التي بدأت تنتقل من وجهي إلى وجهك بحدة وفضول .. قلت لك ضاحكة لأخفي بعض ارتباكي: " إنهم يحدقون إلينا وكأننا .. حبيبان!! " والتقت نظراتنا بصورة غير عادية لما نطقت بكلمتي الأخيرة "حبيبان" .. لا أدري لماذا ارتعش صوتي مع انتفاضة أهدابك، بينما رددّت أنت عبارتي شبه حالم وكأن حجب الغيب قد انتهكت أمام عينيك : " كأننا حبيبان " . ! وظللت أتأملك مفتونة نشوى، وكأنني اكتشفت في أعماق عينيك مغارة مسحورة ياقوتية الجدران، تومض كنوزها المكدسة قوس قزح وديع الهدوء، يترسب في حواسي، ويغمرها بخدر لذيذ .. لا يعكره سوى همسات الزملاء الذين ركزوا اهتمامهم على التيارات اللامرئية الهادرة بين مقلتي وشفتيك .. لذا لم أتردد في للخروج معك حينما اقترحت عليّ بصوت مبهم النبرات أن نستمر في " البحث عن أختك " خارج الجامعة ! وارتمين شبه حالمة في زرقة سيارتك لنضيع معا في شوارع المدينة التي لم تبد كئيبة كعادتها .. وأدركت أنك بدأت تتسلل إلى أعماقي .. ولما جئت مع مساء اليوم التالي، عرفت أنك لم تأت باحثاً عن أختك .. وأسندت وحشتي إلى سأمك وانطلقنا بهما إلى الغوطة حيث وأدناهما قرب خيمة ناطور أغرتنا نيرانه بالاقتراب منه وإلقاء التحية عليه .. وجلست ترقب رقصة الوميض على جانب وجهي، بينما أنا أعبّ القهوة العربية، والقمر يستند على جانب الخيمة حينا، وتختطفه أرجوحة الرياح الغمامية حينا آخر ... مازلت في أعماقي !! .. تضحك زرقة عينيك لكآبتي . المنحنى قد غيّب الجامعة عن أنظاري .. والوحشة ترتّل أنات الفراق في دبي .. وأنا اسير إلى غرفتي الباردة وأهذي .. أمواج المساء لم تعد تنحسر عن ضياء عينيك. بحاري الكئيبة لم تترقب رنين مرساتك الذهبية في أبعادها السحيقة .. أسير .. وأتعثر وحيدة كطفل جائع في معبد مهجور، مازالت رائحة دم حار تسيح من جدرانه المرعبة .. وأنت .. مازلت في أعماقي ! تمسح الطين عن جسدي بأهدابك .. وصوتك الذائب، صوتك الملون مازال يعربد في عروقي مبتلا بالمطر .. مطر دافئ كان يغسل نوافذ سيارتك " الهائمة في غوطة دمشق " وتتمسك قطراته بالزجاج، وتحدق بفضول على الداخل .. إلى حيث الدفء .. إلى حيث أنا وأنت ذرّتا رمل جمعتهما العاصفة في شاطئ صخري .. وتظل حبات المطر تنزلق ببطء منصتة لهمساتنا .. - اقتربي مني يا رندة .. اسكبي الألوان في الأشياء التي أضحت باهتة كالأشباح .. اضرمي النيران في وحشتي ففي نفسي جوع إلى النور .. ضمّي وحدتك وتشردك إلى لهفتي وفراغي .. وأقترب منك .. ألتصق بذراعك الأيمن وأرمي بأثقال رأسي إلى كتفك : - مذ حضرت من بلدتي الصغيرة وانتسبت إلى الجامعة ومدينتكم وحش يخيفني .. - ماذا يخيفك فيها يا حلوتي ؟ - لكل شيء طابع لا إنساني هنا .. أسمع ضجيجا وعويلاً أرى مصدره .. تنبع من الزوايا المظلمة صرخات بلا شفاه .. تتفجر من شقوق أحجار الشارع دماء بلا جراح .. الزيف يلون كل شيء بكآبة باهتة صفراء .. وفجأة توقف سيارتك وتلتفت إليّ وكأنما روّعتك حرقتي وأثارت حنانك .. وتتجمع قطرت المطر بفضول حول النوافذ كلها وتظل تنصت بينما أنا أهذي شبه باكية : - كنت أخرج من الجامعة مساء، أدور في الشوارع وأبحث عبثاً عن ظلي . واكتشفت أن كل شيء في مدينتكم مزيف، حتى النور الأبيض الفاجر محروم من الظلال من الظلال التي تكسبه مسحة حزن إنساني مستكين .. - يا غجريّتي الصغيرة الضائعة .. - كنت أصرخ بوحشية كلما كفّنني صمت غرفتي لعلّي آنس بصدى .. ولكن الجدران بخيلة حتى بالصدى !! .. وأضربها بقبضتي .. أحاول أن أغرس أظافري في أحجارها الصلدة .. وأنشج .. وعبثاً أنتظر أي وتد حقيقي في عدمي المريع .. لا ظل .. لا صدى .. لا شيء .. لا شيء حتى وجدتك .. وتزداد اقتراباً مني .. ويخيل غلّ أنك تريد أن تلتقط بشفتيك كلماتي المتعثرة فوق عنقي وذقني قبل أن تتناثر في فضاء السيارة الدافئ .. - كنت أتشرد كل ليلة في دربي المقفر .. أحس بملايين الأيدي الخفية تضغط على عنقي .. تسمرني في الشوارع عارية تحت أسياخ المطر الباردة .. تحملني من شعري بقسوة وتدلي بي في البرك الموحلة .. وتظل تنقلني بين الآبار المتجمدة و أتخبط في الهواء، لا أقبض إلا على حزم الريح، لا أقبض على شيء ! لا شيء حتى وجدتك .. ولن أفقدك لأي سبب في العالم .. وأشدد قبضتي على ذراعك بينما تتحسس يداك ظهري وتبعثان رعدة دافئة في جسدي المنهك .. وتهتف بي : - أنت ترعبينني بهذه الأفكار ! .. - بل إنها ترعبني أنا بالذات .. لم أجرؤ قط على الاعتراف بها لنفسي وأنا وحيدة .. أما الآن .. وأنا أمام صدرك .. وقاطعتني هامسا بحرارة : - بل أنت تغفين في صدري .. تتبعثرين في الدم الذي يتدفق في كل ذرة من كياني .. ويسعدني دفء أهدابك التي تمسح الطين عم جسدي وأنا أهذي : - كم تعثرت في برك الطين ولطختني الأوحال .. وأنا أحسن أن قطرات المطر مدببة الجوانب وخّازة الحواف .. تنغرس في خدي بينما بردها الكاوي يلهب عذابي .. - والآن يا رندة ؟ .. - تبزغ شمس في كل قطرة مطر .. وأشدك إلى صدري بكل قواي .. أفتّتك ذرّات، وأسحقك ذرّات، وتنسلّ كل ذرة من إحدى مسامي إلى أعماقي .. إلى حيث ينضم بعضها إلى البعض الآخر من جديد .. وأحس أنك حي تعربد في الحنايا والضلوع .. وتهتف بنشوة : - أيتها الغجرية الهاربة من منابع الشمس .. ألا ترين أن الصقيع أدماني ؟؟ .. وأحدق إلى الشعيرات البيض التي تسلّلت إلى شعرك، ويخيّل إليّ أن ثلجاً لئيماً يتمسك بها .. وأحاول إذابته بشفتي الملتهبتين وأنا ألثمها شعرة إثر شعرة ... وتبعدني عنك ضاحكا، وتمسك بوجهي بكلتا يديك، فتتألق حلقة ذهبية في بنصر يدك اليسرى طالما رأتها من قبل .. وأسألك بكثير من اللامبالاة : - منذ متى تزوجت ؟ - منذ سبع سنوات .. ما يهمني سواء كنت متزوجا أم لا ؟ .. أنا وحيدة .. وحيدة .. يدي المتخبطة في فراغ الذعر لن تسأل اليد التي تعلق بها : كم عمرها ؟ لمن كانت من قبل .. حسبي أنها يد إنسان .. حسبي أنها يدك يا أغلى غال .. ويخيّل إليّ أن ذرّات الظلام تتفجر حول شفتي، وأن قطرات المطر تقفز مذعورة عن النافذة وأنا أسألك : - هل لك أولاد ؟؟ - صبي وبنت !! حاولت أن أرسم في ظلمة السيارة صورة لصبي وبنت يتعلقان بثيابك كلما دخلت دارك .. وزوجة تكشف لك طبق الطعام على المائدة، ويتصاعد البخار فيغطي وجهها بينما تحوط يداك خصرها كأي زوج .. لم أستطع .. حاولت أن أخجل من نفسي أن أتذكر ما تعلمته في بلدتي المنعزلة .. لم أستطع .. خيّل إليّ أن جميع أطفال العالم قد ذهبوا في حلقات متماسكة الأيدي إلى كوكب سحيق البعد .. وأن الطعام بارد على منضدتك .. وأن زوجتك لا تغري بالتقبيل .. وأن يديك لم تخلقا إلا لتضماني هكذا .. هكذا .. وتظل قطرات المطر تتمسح بزجاجنا منصتة .. وأبخرة الدفء تتكاثف في الداخل حتى لا تعود القطرات الفضولية ترى شيئا .. وحتى لا تعود تسمع شيئا بعد أن تخفت همساتنا، وتستحيل إلى قبل مكتومة .. فتهوي إلى التراب وتمتزج به في عناق وديع الاستسلام .. وتنفض عن عشنا الأزرق ذرّات المطر ونحن ننطلق من جديد إلى أعماق الغوطة، إلى حيث تلوح خيمة الناطور ذي الوجه الباش والكلب الأبيض الودود .. وتوقف هدير المحرك وأنت تسألني ككل ليلة : - ما رأيك بفنجان دافئ من القهوة ؟ ويتلوى شبابي طربا ً .. وأجيبك بفتح باب السيارة والقفز منها غير عابئة بالمطر .. وتركض يدي في يدك إلى الخيمة ونجلس أمام نيران الناطور طفلين في الغاب هربا من مذبح مرعب نذرا فيه قربانين لإله أحمر العينين .. وتتعانق نظراتنا بين أحضان اللهب الذي يزداد تأججاً .. والناطور يرقبنا ببهجة فطرية طالما افتقدتها في أعين العابرين من أهل المدينة . حتى إذا ما سرى في عروقنا دفء قهوته العربية، عدنا إلى عشنا الأزرق حيث تلتقط بشفتيك حبات المطر العالقة بأهدابي .. ويغيبنا المنحنى الرمادي .. لماذا أستعيد هذا كله الليلة مادمت قد مضيت ؟ .. أنا أعرف أننا لن نعود نلمّ الحنين .. لن نشرب القهوة العربية عند خيمة القمر .. لن تلتقط بشفتيك حبات المطر عن أهدابي .. مضيت .. دون أن نتشاجر مرة واحدة .. دون أن نختلف في رأي .. كان كل شيء على حاله يوم افتراقنا .. الطريق ينزلق بهدوء تحت عجلات عشنا الأزرق .. والاطمئنان يسبل جفنيه النديين على قلبينا، وأنا أدفن قُبلي بين عنقك وياقة معطفك، وأغمغم ببساطة : لم تعد المدينة ترعبني منذ تمددت في زرقة عينيك .. ستكون لي أبداً، أنت والمطر، والقهوة عند خيمة القمر .. - نكاد نصل يا رندة، ارتدي معطفك . لا أريد أن يصيبك البرد . وأنهض على ركبتي، ووجهي متجه نحو المقعد الخلفي كي ألتقط معطفي الذي رميته هناك كعادتي كل ليلة .. وفجأة .. أراها هناك ! .. فردة حذاء طفل تبسم في وجهي بسخرية ممزقة ! .. فردة حذاء طفل منسية سقطت من قدم ابنك بينما زوجتك تحمله وهي تهبط به من سيارتكما .. أجمد ! .. يغمرني خجل مذعور مفاجئ .. وكعادتك تظل قابضاً على المقود بيدك اليسرى بينما تحوط خصري باليمني وتجذبني إلى صدرك ضاحكاً مداعباً .. لا أغمر وجهك بقبلي اللاهثة .. أظل زائغة التعبير مجمدة النظرات إلى الوراء، حيث ترمي ببصرك متسائلاً .. وتراها كما أرها .. لا شيء .. مجرد فدرة حذاء طفل تبسم بسخرية ممزقة !! .. وأدرك أنك تفهمني تماماً .. لا حاجة بي إلى الكلام مادمت تسمع هذيان صمتي المحموم .. توقف سيارتك ويخيل إليّ أن صوتك انبعث متعبا هدته الليالي وأنت تقول : - لقد وصلنا .. هل أنتظرك غدا كالعادة ؟ وأجيبك ونظراتي مشدودة إلى فردة حذاء طفلك الساخرة : - لا .. لم يعد ذلك ممكنا .. أليس كذلك ؟ .. كان ذلك آخر نقاش دار بيني وبينك .. لكني أحسست ساعتئذ أن الرياح قد حطمت نوافذ عشنا إلى الأبد .. ونظرت على صدرك، إلى حيث تسحقني كل ليلة مودعا، وخيل إليّ أن جميع أطفال العالم عادوا منشدين من كهوفهم السحيقة، وتبعثروا على صدرك، بأطرافهم الشفافة وأجسادهم الهشة ورؤوسهم الدقيقة .. يكفي أن أحاول لمسهم حتى يتناثروا أشلاء بريئة بين أصابعي الدموية ومخالبي المرعبة .. وأردت أن تضمني مودعاً لكنني هربت .. هل كنت تريد أن نسحق صرخاتهم بين جسدينا ؟؟؟ .. أن نلطخ أكتافنا وأذرعنا بطفولتهم الشفافة الدقيقة ؟ أما يكفينا عذابنا ؟؟ .. ومددت يدي أصافحك، وكان الصمت يهذي، وكانت أعيننا تنضح دموعها إلى الداخل .. إلى الأعماق .. وكانت ثورة شعري المبعثر تبكيك .. وكان عذابي ينشج بسكون .. واختطفت معطفي وأنا أتحاشى النظر إلى فردة حذاء الطفل المنسية التي ظلت تبسم بوداعة دافئة حينما هبطت من العش الكسيح .. إلى الأبد .. ولما ضمني برد غرفتي، رأيتك بين أشباح السقف تدخل دارك الدافئة .. أطفالك يتمسحون بثيابك وأنت تنحني إلى الأرض لتدخل في قدم ابنك فردة حذائه الضائعة بحنان دقيق .. وتُقبل زوجتك سمينة متدحرجة .. فتقبّل خديها اللذين تفوح منهما رائحة طعام شهي .. ورأيتكم جميعا بوضوح .. وأدركت أنني لم أعد أستطيع انتزاعك من إطارك الحقيقي لأطير بك إلى مغاوري الفضية في جبال القمر .. لم أعد أستطيع .. ولكنك مازلت في أعماقي ! تتمطى وتحدثني وأنا أخرج من الجامعة كل ليلة .. يبتلعني بحر الظلام الكئيب وتحملني أمواجه إلى غرفتي الباردة . أدرس أحياناً، وأكتب الرسائل المطولة إلى أمي وأبي .. وأنت تنزلق بين الكلمات .. تستلقي على الحروف وتقفز فوق النقاط وتهمس بين السطور .. وأنت تتسلق الصفحات وتظل زرقة عينيك تبسم .. مازلت في أعماقي .. تمسح الطين عن جسدي بأهدابك ! وأنا أسير وقد اختفت الجامعة تماماً .. البرق يلتمع ويضيء البقعة التي كنت تربض عندها بسيارتك منتظراً أن أصل إلى البوار .. أسير بحذر وأشد كتبي إلى صدري والمطر يتسلل على جسدي .. وأنت مازلت في أعماقي تهمس " اقتربي يا رندة، في نفسي جوع إلى فجور النور " .. الدموع تتفجر في عيني وتضيع مع المطر المتدفق .. موضع عجلاتك الراحلة يهذي .. ينهش من قدمي وأنا أمر وأمزق الذكريات مع ضربات حذائي .. وتصرخ يدي .. تريد أن تمتد لتفتح الباب كما كانت تفعل .. وتصرخ قدماي .. تريدان الصعود على دفئك الملون .. ويصرخ جسدي حيث طحنتك ذرّات تسللت من مسامي إلى أعماقي وتتلوى نظراتي .. تحن إلى التمسح بالشلال الأزرق الهادر من العينين .. ويظل صوتك يهمس من أغوار سحيقة مرعبة : " غجريتي الهاربة من منبع النور، ألا ترين أن الصقيع أدماني ؟ " وأحسن أني ظمأى .. ظمأى لشفتيك تجمعان المطر عن أهدابي .. ظمأى لخيمة القمر وقدح القهوة الدافئ وضحكاتنا الغجرية في كبد الليالي .. أنا ظمأى إليك وأنت تتمطى في أعماقي ببساطة مرهقة ! غربان القدر تنهش عيني الناطور قرب خيمته الممزقة .. رياح الشتاء تذرو رماد نيرانه .. والأمطار تغسل الحمرة عن جمراته حيث تترسب ليالي العذاب سوداء فاحمة .. الرمال أفاع تزحف لتغطي كل شيء .. الكلب يعوي في الخواء منتحبا . وأنا هنا .. وقد عادت الأيادي الخفية تضغط على عنقي .. تسمّرني في الشارع عارية تحت أسياخ المطر .. تحملني من شعري بقسوة وتدلي بي في البرك الموحلة والآبار المتجمدة .. وأشد وشاحي إلى رأسي .. أشده .. وأظل أشعر أن الأيدي تجذبني من شعري .. وأمضي إلى غرفتي .. لا أحلم بأكثر من جدران لا تبخل على وحشتى بصدى ..
|
#4
|
||||
|
||||
كوابيس بيروت
كابوس 2 حين غادرت سيارتي ذلك الصباح ، ودخلت الى البيت سالمة - حتى اشعار آخر - لم اكن ادري انها المرة الاخيرة التي ساغادر فيها بيتي بعد اعوام طويلة .. وانني منذ اللحظة التي اغلقت الباب خلفي ، اغلقته ايضاً بين وبين الحياة والامن ..وصرت سجينة كابوس سيطول ويطول.. وانني عدت واخي الى البيت لنلعب دور السجناء ..ولو علمنا لتزودنا بشيء من الطعام في درب العودة .. ولو علمنا ربما لما عدنا ..ولو .. ولو .. وزرعنا "لو" في حقول الندم ، فنبتت كلمة ياليت. كابوس 3 لم نكن قد سمعنا الراديو بعد . فقط حينما عدت : تذكرت انني للمرة الاولى منذ شهر غادرت البيت دون ان استمع الى ارشادات المذيع شريف ، او اغسل وجهي على الاقل .. وحين انصت اليه ، كان الاوان قد فات . كان المسلحون يحتلون فندق "هوليدي ان" المواجه لبيتنا الصغير العتيق والذي يطل فوق اعلى طوابقنا (الثالث) . كما يشرف جبل من الاسمنت والحديد فوق كوخ لفلاح مسالم في قعر الوادي ... بعدها فقط استيقظت وادركت انني كاعزل محكوم بالاقامة الجبرية وسط ساحة معركة ! ...فاتصلت بالبقال لاطلب مؤونة من الطعام . لا جواب . تلفنت لدكاكين الحي كلها . لا احد يرد . تلفنت للجيران ، فرد ابنهم امين مدهوشاً ، اين تعيشين ؟ الا تعرفين ما يدور حولك ؟ كابوس 4 اين اعيش ؟ ردني سؤاله الى واقع مروع . اعيش في ساحة حرب ولا املك أي سلاح ولا اتقن استعمال أي شيء غير هذا النحيل الراكض على الورق بين اصابعي تاركاً سطوره المرتجفة كآثار دماء جريح يزحف فوق حقل مزروع بالقطن الابيض . اين اعيش ؟ يبدو انني اسكن بيتاً من الشعر (بكسر الشين) . وسادتي محشوة بالاساطير ، وغطائي مجلدات فلسفية ، وكل ثوراتي وقتلاي تحدث في حقول الابجدية وقذائف اللغة. اين تعيشين؟ ودوى انفجار .. وشعرت بوخزة : لماذا لم اتعلم المقاتلة بالسلاح - لا بالقلم وحده - من اجل ما اؤمن به ...؟ كم هو خافت صوت صرير قلمي على الورق حين يدوي صوت انفحار ما ..وقررت : ان الوقت ليس وقتاً لتقريع الذات على عادة الادباء الذين يقعون في ازمة ضمير كلما شب قتال ويشعرون بلا جدوى القلم ... المهم ان اعيش ، فالحياة هي وحدها الضمان لتصليح أي خطأ اذا اقتنعت فيما بعد انني على خطأ..والوقت ليس وقت مراجعة ذاتية او حوارات فلسفية .. كانت الانفجارات تتلاحق ، وقررت ان اواجه الواقع الملموس حالياً وان احدد موقعي من ساحة الحرب بطريقة عسكرية ، واحصائية ! كابوس 6 هدأ الرصاص قليلاً.. اقتربت من النافذة ... كذلك فعلت الام التي تقطن في الدور الثالث من البناء المقابل لبيتي . وكان البقال العجوز يضع لها بعض ارغفة الخبز في سلة مربوطة بحبل وقد وفقت هي خلف خشب النافذة وادلت اليه بالحبل دون ان تخرج حتى يدها .. اما هو فقد احتمى بمدخل البناء. كان الهدوء شاملاً ، وتخيلت ان المقاتلين يغسلون وجوههم ويبردون اسلحتهم .. وقررت ان انادي البقال - المغامر وامارس الشيء ذاته . وبدأت السيدة ترفع السلة المربوطة بالحبل ببطء شديد . وقررت : لابد ان يديها ترتعدان الان ! ... ولكن السلة كانت ترتفع باستمرار وكان حبلها دقيقاً حتى بدت مثل سلة تصعد في الفضاء نحو الخائفين ، حاملة رغيف السلام .. لاحظت ان عيون بقية الجيران المختبئين خلف النوافذ كانت ايضاً تتابع طيران سلة الخبز في الفضاء ، واحسست ان قلوبنا حيعاً مثل قلب واحد يصلي من اجلها ..كأن السلة صارت طفلاً .. طفل المحبة والامان والتواصل مع عالم البسطاء.. وظلت السلة تعلو حتى وصلت الى حدود الطابق الثاني ، والصمت المتوتر ما زال يسود ... وفجأة انطلقت رصاصة . لا ادري هل سمعنا صوتها اولاً ام شاهدنا السلة تهوي في الفراغ مثل رجل سقط من الشرفة . وفهمنا جميعاً بومضة برق مدلول ما حدث : هنالك قناص ما اطلق رصاصة على الحبل الرفيع . لقد عرض مهارته امام اهل الحي جميعاً . لقد قال لنا جميعاً : انني قادر على اصابة أي هدف مهما كان دقيقاً ونحيلاً. قلوبكم كلها تحت مرماي . شرايينكم كلها استطيع ان اثقبها شرياناً شرياناً . استطيع ان اصوب داخل بؤبؤ عيونكم دون خطأ . استطيع ان اصوب رصاصتي الى أي جزء يحلو لي من اجسادكم ؟ وحين هوت السلة ، شعرت بان الحي كله تحول الى قلب واحد يتنهد بغضة . وادركنا اننا جميعاً سجناء ذلك الغول الغامض المختبيء في مكان ما والذي يتحكم بدورتنا الدموية والعقلية والنفسية لمجرد انه يمتلك بندقية ذات منظار تدرب عليها بعض الوقت .. ولتذهب الى الجحيم كل الساعات التي قضيناها في الجامعات والمختبرات لنتعلم ! وحين سقطت السلة ، سقطت آمالنا معها وتكومت على الرضيف جثة تحتضر . حين سقطت السلة ، حزنا كما لو ان طفلاً سقط من على دولاب مدينة الملاهي وانطفأت الاضواء والضحكات كلها دفعة واحدة ..كان واضحاً اننا فهمنا جميعاً رسالة القناص . ومن ساعتها اغلق خشب نوافذ الحي كلها باحكام ..ولم تفتح! وداعاً ايها الشمس !.
|
#5
|
||||
|
||||
كابوس 10
هدأ الرصاص قليلاً... لم يبق الا الليل والصمت ... صمت غامض متوتر .. خيل الي انني اسمع اصواتاً خافتة..أصوات استغاثة ..ظننتني واهمة ، ثم تذكرت دكان بائع الحيوانات الاليفة المجاور لنا ...لعل صاحبها يعمل قناصاً مثلاً ، وهو مشغول عن رعايتها واطعامها بصنع الدمار (ام تراه لا يستطيع الوصول اليها؟) وتخيلتها داخل اقفاصها ..تشم رائحة البارود والنار ، وتلتقط كهارب الخطر ... لكنها عاجزة عن الهرب ، وعاجزة عن الدفاع عن نفسها ..اين صاحبها الذي اعتاش من الاتجار بهاوبيعها وشرائها؟.. الم يسجنها بأسم تامين العيش (الكريم) لها؟ ..ولماذا يغيب عنها مع غياب الزبائن والصفقات وقدوم الخطر؟... اين صاحب دكان الحيوانات الاليفة؟ تراه لملم ثروته التي جمعها من بيعها وهرب بها الى اوربا مع من هرب؟ (اتذكره . في وجهه قسوة لا يخفيها تهذيبه البروتوكيلي مع الزبائن . مرة رافقت زميلة الى دكانة . كانت ترغب في شراء قط سيامي تعرف مواصفاته جيداً: ازرق العينين. بني الاذنين . ابيض الجسد . بني الذيل . وعبثاً حاولت اقناعها بانها بحاجة الى انجاب طفل بدلاً من الهرب الى تبني قط . كانت ما تزال تعشق صديقها المتزوج الذي لن يطلق ام اولاده ولن يتزوجها . كان يغدق عليها النقود كتعويض (عطل وضرر) عن شبابها المهدور ، وكانت فيما يبدو راضية بالصفقة مع حبيبها الثري ، وقد قررت تتويج قصة الحب بتبني قط ، ما دام انجابه غير ممكن . دخلنا الى الدكان ..الجزء الخاص بالغرباء-والقادمين من الخارج لاتمام صفقاتهم-نظيف وجميل ومرتب كانك في دكان سويسري ، وفيه كل ملاهي عصرنا الاستهلاكي كما في شارع الحمراء وطريق المطار وصالة الترانزيت والروشة والكازينو مثلاً ...وقفت صديقتي في هذا القسم النظيف العصري المفروش (بالستينلس ستيل) و (الموكيت) اما انا ، فتجاوزت اسوار الدكان السياحية الى الداخل ..وكان صوت صديقتي يتناهى الي وهي تعرض طلبها : اريد قطاً سيامياً - ابن عيلة - ازرق العينين اسود الشاربين نبي الذنب ابيض الجسد ..وكان صاحب الدكان يرد: كل طلباتك موجودة. والاسعار متهاودة..ساحضر لك ثلاثة قطط تختارين منها بنفسك ..قالت : اترك اختيار القط لذوقك ..ورن الهاتف وانشغل في حوار -صفقة حول كلاب للصيد وكنت اتسلل الى ماوراء السور الديكور الذي يحجب حقيقة وضع بضاعته .. خلف السور ، كانت الاقفاص المختلفة الاحجام والاشكال مرصوصة ومتلاصقة كما في مقابر الفقراء ...الشمس لا تطالها ولا الرياح ولا الندى ولا السماء الزرقاء ..وداخل الاقفاص كانت هناك مجموعة كائنات حية تشبه البشر في تنوعها : كلاب مختلفة الانواع ..قطط رمادية وبلدية وشامية ..ارانب بيضاء جمر العيون ..فئران بيض . فئران ملونة ..اسماك ملونة صغيرة تسبح في "الاكواريوم" المضيء كانها فراشات مائية ..عصافير مكسورة الخاطر والجناح ..بلبل وحسون وببغاء وغيرها ...حيوانات من مختلف الالوان والاشكال والامزجة يجمعها القفص ، والسجن ، والبؤس ..كانت متعبة ، فلا القطط تموء تماماً ولا الكلاب تعوي جيداً ولا العصافير تغني ..وتسائلت : تراه يضع دواء مخدراً في اوعية الماء الخاصة بها ؟ ام انه لا يطعمها بما فيه الكفاية لتكون قوية فتثور وتضرب رأسها بالقفص وتعض يد السجان والزبون ، البائع والشاري ؟ كانت عيناي قد الفتا الظلمة النسبية بالداخل ، ورغم موسيقى الجرك العالية التي حرص صاحب الدكان على وضعها في (الجناح السياحي) من دكانه ، فقد استطعت ان اسمع الصوت الموحد الحزين لشعب الحيوانات الاليفة في الاقفاص ... كان يشبه صوتاً قادماً للمرضى والجرحى والمتعبين ، لكنه صوت تهديدي شرس الوعيد ... كان من الواضح ان البائع يطعمها بما فيه الكفاية لتبقى على قيد الحياة فقط ، كي يظل قادراً على بيعها ، يسقيها مياهاً نصف ملوثة ، ويخرجها الى النور حينما تكاد تحتضر ، وهمه الوحيد ابقاؤها حية كي لا تموت ويخسر تجارته . ولكن ، اية تجارة؟ هذا موضوع آخر لا يهمه . علاقتها مع الشمس والغابات والبحار والليل والقمر وافراح المواسم والحرية ، كل هذه امور لا تعنيه مطلقاً.. وفجأة وجدته خلفي . جاء ليحمل لصديقتي الحيوان المطلوب . فتح احد الاقفاص . اخرج منها قطاً حشر حشراً في مجال حيوي ضيق مع سبعة قطط أخرى من نوعه ، لاخظت ان بعضها جريح ، ولعلها في غمرة ضيقها بسجنها وبؤسها وسوء وضعها ، تقتتل فيما بينها ، ويعض بعضها بعضها ، وصاحب الدكان يرحب دونما شك بهذه الظاهرة حيث يعض البؤساء كل منهم صاحبه ، بدلاً من ان يهجموا جميعاً عليه هو مرة واحدة..هو العدو الحقيقي... اخرج القط من القفص واغلقه بعناية . التقت نظرتنا . كان من الواضح انه فهم انني افهم ما يدور وان ذلك لم يعجبه ابداً . قال بصلف : ممنوع دخول الزبائن الى المخزن ! قلت : لست زبونة . انا من الفريق الاخر ... وتمت الصفقة بين رفيقتي المدحورة عاطفياً المتلهية بهمومها الشخصية عن حقيقة ما يدور ..ودفعت ثمن القط ، وخرجت بعد ان زودها البائع باسم طبيب بيطري من المفروض ان تذهب اليه فوراً لتلقيح القط وقص اضافره! البائع اولاً ، ثم البيطري ، وربما بعده الصيدلي . وبعده لا ادري ماذا من حلقة مافيا المنتفعين .. وحين خرجت صديقتي بالقط لاخظت ان (راعي) الدكان تنهد الصعداء . كان سعيداً بخلاصه من فم اضافي يجب اطعامه. لم اشعر بأية عاطفة تربط بين صاحب الدكان وشعبه من الحيوانات الاليفة .. انه يخرجها من اقفاصها ويعيدها اليها دون ان يرف له قلب ! ...وحتى في السجون ، ثمة علاقة انسانية تنشأ بين السجان وسجينه (وكلاهما من طبقة مسحوقة واحدة ) ، اما صاحب الدكان ، فلم الحظ ان بينه وبين "رعيته" لمسة حنان واحدة ..لا جسر بينهما غير المصالح ... وهو قادر على ترويضها جميعاً ، خانعها وشرسها ، بالتجويع والسجن والاذلال وشروط العيش الرديء بحيث لا تقوم لها قائمة في وجه طغيانه ولا مبالاته ... وذهبنا الى عيادة الطبيب البيطري وكانت فخمة ونظيفة وخاصة بطبقة القطط المرفهة .. ولا ادري لماذا تذكرت مشهد امرأة كانت تضع طفلها تحت خيمة في عكار وقد تمسكت بغصن شجرة وهي تصرخ دون طبيب او معين او قطعة قطن واحدة ..كنت قد ذهبت يومها لكتابة تحقيق صحفي عن مجاهل عكار ، وشاهدت يومها كيف يولد الاطفال ليتعمدوا بالتراب فوراً ... فقد وضعت طفلها الذي تلقته منها ارض الحقل وامتزج دمه بالاشواك ، ثم امسكت بحجر وقطعت به حبل الخلاص ، بينما وقفت انا مذهولة امام وجهها المتجلد الصامد الشبيه بالصخرة التي كنت قد تحجرت قربها ! ودخلنا بالقط الى عيادة الطبيب، وبمساعدة الممرضة وصديقتي تم الامساك بالقط وقص اضافره ، وكان هو يضرخ بما تبقى له من قوة مناضلاً للابقاء على سلاحه الطبيعي بينما المجهول يحيط به من كل جانب ... وبعد عملية قص الاظافر ، جاء الطبيب بابرة غرسها في فخذ القط ، وتذكرت انا بهلع ان طفل الفلاحة العكارية قد يكون قد مات الان لانه لم يجد من يلقحه ...وبعد ذلك قرر الطبيب ان من الضروري اعطاء القطة جرعات محدودة من الفاليوم كي لا تبحث عن قط تمارس معه ما تمارس ، وتحمل ، لانها ما رالت صغيرة السن!.. والحمل خطر على صحتها العزيزة . وهنا جنت رفيقتي . قطة لا قط ؟ كانت تريد قطاً ذكراً . وصاحب الدكان باعها الاخ القط على انه ذكر لا انثى . تلقت النبأ بحزن شديد كأمرأة انجبت طفلتها لسابعة وقد حلف زوجها بالطلاق في حال عدم انجابها لذكر! ثم قبلت ما هو "مكتوب عليها" وبدأت تشتم البائع الغشاش بينما البيطري يعطي جرعات فاليوم للقطة ، ثم بدأت تشتم الطبيب البيطري حين طالبتها الممرضة بالفاتورة. كابوس 12 لم يتوقف شلال النار.. لاحظت انني جالسة على الارض ، مكومة تحت مستوى النافذة . قررت انني لا اعرف من اين ستاتي الرصاصة التي ستسقر في صدري ، وبالتالي لماذا لا اتمدد في فراشي واتعلم النوم رغم الرصاص؟ لقد عشت في ظروف لا حد لقسوتها ..واضطررت الى النوم في اماكن مسكونة بالبرد والغربة والاشباح الرمادية ، وعلمت نفسي التكيف مع ما حولي من عذاب ... بل انني روضت نفسي ذات مرة على النوم ، وقد سلطت على وجهي مصباحاً كهربائياً ساطعاً . اليوم علي ان اتعلم النوم في ساحة حرب ... استجمعت ارادتي ، وكل ما اعرفه من اليوغا ، وبدأت افكك اعضاء جسدي عضواً بعد الاخر . كما لو كنت دمية عرض لواجهات المخازن . امرت ساقي اليمنى بالنوم ، ثم ساقي اليسرى . بدأت آمر اعضاء جسدي واحداً بعد الاخر بالسفر عن الزمان والمكان الى براري النوم... تاكدت ان التجربة ممكنة التحقيق ، لكنها تحتاج الى كثير من المران... فقد دوى انفجار شديد ، وانفرطت من يد دماغي جديلة الاعصاب التي كنت الملمها خيطاً بعد الاخر واسيطر بها على جسدي عضواً بعد الاخر . وبعد فشلي هذا اصبت بنكسة . بدات اسمع الانفجارات اعلى مما كانت على حقيقتها (او هكذا خيل الي). ثم حدث شيء غريب ، دخل جسم غريب الى الغرفة ، كائن ساخن الحيوية ، مروع النشاط ، سمعت صوته يضرب خشب الباب ثم المقعد فالسرير فالباب .. في البداية لم افهم ما حدث بالضبط ، كانت رائحة حريق خاصة تفوح من الغرفة ... كانت رصاصة ما او شظية قد اخترقت طرف باب الغرفة وفجرت ساق الكرسي ثم اصطدمت بالسرير وارتدت عنه الى الباب الاخر فخرقته ...ووقفت احدق مذهولة ..كانت شظايا الخشب تملأ ارض الغرفة والسرير وشعري وتغطي المجلات التناثرة على الارض ..وكنت اتامل موضعها بهلع ..فقد حفرت الخشب تماماً على عمق 10 سنتمترات على الاقل ، اما الكرسي الواطيء الذي اصابته فقد تناثر بين شظاياه بعض قطع المسامير التي صهرت وانكسرت تماماً كما لو ان مطرقة جهنمية ضربتها ... شيء آخر روعني ... كنت اظن الرصاص (وهذه اول مواجهة عملية بيننا) ينطلق في خط مستقيم ثم يصيب هدفه ..اما هذه الرصاصة (ام الشظية؟) فقد تحركت في الغرفة كما لو كانت كرة بلياردو او قطاً مذعوراً ... ركضت في الاتجاهات كلها هادمة نظرياتي العسكرية كلها عن السلامة في البقاء على مستوى الارض او التمدد ، فالفظيع ان مستوى انفجار (الرصاصة او الشظية) كان على مستوى خفيض جداً لا يزيد ارتفاعه اكثر من 30 سم عن الارض ...وذهلت . من اين دخلت الرصاصة اياها؟ وكيف؟ وحيرني الامر حتى انساني خوفي، وخرجت الى الغرفة المجاورة من حيث بدأت الشظية (نزهتها) وخيل الى انها ربما كانت قد انطلقت من داخل المنزل ..على الجدار المقابل لاول باب ضربته ، فوجئت بندبة وقد سفط بعض الكلس والتراب عن الجدار الى الارض ... اذن من هنا مرت الرصاصة .. ولكن من اين دخلت والنوافذ كلها مغلقة بالخشب والزجاج غير مكسور .. وبدأت احدق جيداً في النوافذ حين دوى انفجار ، فقرررت وقف (تحقيقاتي العسكرية) ، واغلاق (ملف القضية) مؤقتاً والهرب الى الطرف الاخر من البيت. هذه المرة كنت خائفة حقاً ..فقد وعيت للمرة الاولى ان الرصاص لا يمشي على الصراط المستقيم وانما قد يمشي في خط متعرج كجرذ يركض من جدار الى اخر. ووعيت ايضاً ان الرصاص لا يمشي بالضرورة فوق مستوى النوافذ ، وان القضية اكثر تعقيداً بكثير من المعلومات السطحية التي كنت قد جمعتها من السينما البوليسية والروايات ، وادركت انني اواجه عدواً اجهله تماماً ، وبهذا الشعور البائس تمددت باستسلام على اريكة في الصالون . من كابوس 13 تمددت على الاريكة في الصالون ، وكان الظلام دامساً وجميع الانوار مطفئة ... تعلقت نظراتي بشقوق النوافذ المحكمة الاغلاق المفتوحة الزجاج . كنت قد اغقلت خشبها وتركت النوافذ الزجاجية مفتوحة . هكذا قرأت في كتاب بوليسي انه من الافضل في حال الانفجارات ترك زجاج الغرف مفتوحاً كي لا يحوله الضغط الى سكاكين تتناثر في كل مكان وتنغرس في جسد الضحية . وارتعدت لهذا الخاطر . ظللت اتامل شقوق النوافذ ، (والقمريات) أي النوافذ الصغيرة المستديرة الملاصقة للسقف والتي لا خشب يغطيها وتوجد في اكثر البيوت الدمشقية والبيروتية القديمة . كان الغرض الاساسي منها ادخال مزيد من النور نهاراً الى الغرف الشاهقة الجدران، والسماح بدخول ضوء القمر اليها ليلاً ... اما الان ، فقد بدت لي القمريات المزينة بالزجاج الملون مثل اسلحة فتاكة ...مثل عشرات الخناجر التي لا ادري متى يطلقها الانفجار من عقالها .. هكذا تمددت وحيدة في قلب الظلام ، وخلف القمريات كان المنظر مذهلاً . فقد كانت الصواريخ والقنابل المتفجرة في الجو تضيء الليل كالبرق ، وتلتمع خلف القمريات مثل عاصفة برقية رعدية جهنمية لا تهدأ . احسست بخوف بالغ . ولكنني رغم كل شيء لم اتمالك نفسي من الاعجاب بجمال المشهد بينما القمريات بزجاجها الملون تسطع فجأة وتنطفيء ثم تسطع بتسارع "سيكاديلك" ساحر الالوان. وقررت انني مثل رجل يهوي الى قاع شلالات نياجارا بينما هو ما يزال مسحوراً بجمال المشهد ... او مثل شخص يسقط من الطابق الخمسين ويعجب بزهور الشرفات التي يمر بها في دربه الى الموت. كابوس 16 لم يطل السكون..بدأت الطلقات المتقطعة بايقاعها الخفيف ايذاناً بدخول العزف الاكثر شراسة وعنفاً.. مع الانفجار الكبير الاول لملمت نفسي من موضعي على الاريكة حيث قضيت الليلة السابقة.. حاولت السيطرة على اعصابي لقضاء يوم عادي قدر الامكان كي لا اصاب بالجنون! ..كان ذلك مستحيلاً. كنت فيما مضى ابدأ يومي بمطالعة الصحف ، ولم اجدها طبعاً خلف الباب ..(لا يمكن لهم توزيها على البيوت بالمصفحات مثلاً! وحتى لو ارتدى باعة الصحف ثياباً واقية من الرصاص لما استطاعوا الوصول الى بابي حيث مركز القتال) ... ورغم معرفتي الاكيدة بان القطط نفسها لا تجرؤ على التجول في شارعنا ، لكني تلفنت الى دكاكين البقالة المجاورة ...وطبعاً لم يرد احد. اقتربت من النافذة وشققتها قليلاً . كان المشهد مروعاً. كانت النوافذ كلها مغلقة . كأن الحي فرغ تماماً من سكانه . كأنهم تسللوا جميعاً هاربين تحت جنح الظلام . وحين يهدا الرصاص ، يسود سكون متوتر مخيف ، سكون كابوسي لا يصدق ، كالسكون داخل التوابيت المغلقة منذ قرون ، سكون يجعلك تحن الى سماع أي صوت ،حتى ولو كان طلقة رصاصة . قررت الاستماع الى الراديو ، وهو اداة لا اتعامل معها عادة الا مؤخراً وللاستماع الى المذيع شريف فقط ، الذي يخاطبنا بصدق مباشر دونما حذلقات خطابية سمجة ..فاخفض صوت المذياع . بحيث لا اميز الغناء او الموسيقى او الثرثرة ، ولكني اعرف نبرة صوت شريف، وحين اسمعها ارفع صوته ، وحين ينتهي الكلام اعود الى حشو القطن في فم المذياع ..وهكذا.. اليوم ، لشدة وحشتي ، ادرت زر الراديو ، وكان المذياع يقول: قضت العاصمة ليلة هادئة ما عدا طلقات متقطعة في منطقة القنطاري وحول فندق "الهوليدي ان". وصرخت به : الا تخجل من هذه الكذبة؟ ولم يرد علي وانما تابع قراءة نشرة الاخبار وانتقل فوراً للحديث باسهاب عن الحرب الاهلية في ...البرتغال. صرخت به : ولكني لا الومك .. انت مجرد حنجرة ، وهم يحشونها بالمعلومات الكاذبة ... انت مجرد اداة للجريمة. لم يرد الذيع علي وانما تابع قراءة الاخبار عن انغولا . وصرخت به: الا تخجل من هذه الكذبة ؟ ولم يرد علي وانما تابع نشرة الاخبار وانتقل فوراً للحديث باسهاب عن الحرب الاهلية في البرتغال . وصرخت به : انت المسدس، وهم اليد والطلقة ..وحينما تقع جريمة ، يجب سجن القاتل لا المسدس. ولم يرد المذيع علي وانما بدأ يتحدث باسهاب عن حالة الطقس. وبدأت الانفجارات تتوالى ، وتتعالى متلاحقة ونهض اخي مذعوراً يبحث عني. وقررت : نشرة الاخبار الحقيقية هي ما نسمعه من الريح ، لا من الراديو. كابوس 23 الا يتعب الرجال ؟ الا تستريح اصابعهم المشدودة على الزناد؟ فترات الهدوء لا تكاد تذكر . وقررت : لابد ان استبدال المقاتلين يتم خلال لحظات الصمت المتوتر العابرة. الان عاد ذلك الصمت المتوتر المروع .ارهفت السمع . سمعت صراخ بعض الرجال ، لكنني لم استطع تمييز كلامهم ، فقط اصوات نداءات سريعة وحادة كصراخ الخطر لدى طيور الغابة. كانت مأساتي ان بيتي يقع في منتصف الطريق تماماً بين المتقاتلين، تماماً في الوسط . تذكرت الذي قال "خير الامور الوسط" وترحمت عليه . لو كان يسكن بيتنا ، لقال شيئاً آخر ربما. كنت اعرف ان المقاتلين في الشوارع خلفنا ، لابد انهم يتصلون بالناس ، وربما يتقاسمون ارغفة (المناقيش) معاً . اما موقع بيتنا في الوسط تماماً على تلة مكشوفة من كل الجهات ومحاطة بحدائق برية الاعشاب ، كل ذلك جعل الاقتراب منا امراً مستحيلاً للطرفين. وحتى للطرف الثالث من الغربان الذين احترفوا سرقة البيوت المنكوبة بالحرب. كنا كسكان وادي الجذام ، لا احد يجرؤ على الاقتراب منا ، حتى اللصوص !! وحدها القذائف تجرؤ على زيارتنا وقرع ابوابنا وجدراننا. كابوس 35 كانت ابواب مغلقة في داخلي تتفتح باباً تلو الاخر ، ووجدتني احدق في الاشياء فارى الى ابعد منها . في الممشى امامي على طول الجدار مكتبة تمتد من الارض الى السقف . ليس الممشى آمناً بقدر ما كنت اظن . ففي حال انفجار داخل البيت قد تنهار الكتب فوقي وتقتلني . اما البقية الباقية من الجدار فيغطيها ملصق (بوستر) فيه صورة خضراء كثيفة الاشجار . وكان بوسعي ان اخطو الى داخل اللوحة ، هاربة الى الغابة الاوربية من جحيم عالمي ، وكان بوسعي ان اتسلق الاشجار والتحف بالضباب وانام قليلاً. لكنني لم افعل . لقد علمتني الحياة ان الهرب من انتمائي الحقيقي لا يجدي . انا ابنة هذه الارض ، ابنة هذه المنطقة العربية المضطربة حتى الغليان . انا ابنة هذه الحرب ، هذا قدري. تعلقت عيني بالرف الذي يضم كتبي وعشرات من الكتب التي ترجمتها . ووجدتني اهمس : وانا ايضاً قد شاركت في صنع هذه الحرب. صحيح انني لم احمل سلاحاً قط ، صحيح انني مذعورة كاي جرذ في دكان بائع الحيوانات الاليفة ، ولكن كانت سطوري تحمل دائماً صرخة من اجل التبديل، صرخة من اجل مسح البشاعة عن وجه هذا الوطن وغسله بالعدالة والفرح والحرية والمساواة . وكل ما يفعله المقاتلون هو انهم ينفذون ذلك على طريقتهم . انها حروفي وقد خرجت من داخل الكتب لتتقمص بشراً ، يحملون السلاح ويقاتلون. اكنت حقاً اريد ثورة بدون دم ؟ اجل ، مثل كل الفنانين انا متناقضة ، اريد الثورة ولا اريد الدم . اريد الطوفان ولا اريد الغرقى. ها قد عدت الى معزوفة تانيب الذات . -ولكن هذه مجرد كوابيس لا ثورة . -كل الثورات تولد هكذا معمدة بالدم . حتى ولادة طفل لا تتم الا معمدة بالدم. -ولكن عدداً كبيراً من الابرياء والعزل يموت . -لا احد بريء في مجتمع مجرم. -ما زالت انفجارات القنابل تتعالى ، ما زلت جالسة في الدهليز احتمي بجدرانه شبه المتلاصقة كرحم حجري . لم اعد مذعورة كجرذ. الكتب تحدق بي من رفوفها . وانا احدق بالكتب ، ولا احد يملك للآخر شيئاً.. الكتب اغلفة فارغة والكلمات هربت من الصفحات لتصير رجالاً مقاتلين . اتناول كتاباً من تلك التي ترجمتها . افتحه . اجده كما حدست ، صفحات بيضاء . ان الحروف خرجت الى الشوارع لتمارس حياتها الخاصة . صارت مقاتلين يحولون الافكار الى سلوك . ما الذي يخيفني؟ ما زالت انفجارات مضيئة تتلاحق في اعماقي وابواب مغلقة في روحي تنفتح باباً تلو الآخر. ما زالت الاصوات تتعالى في ذاخلي ، وتتابع نقاشها داخل ذلك الصندوق الصغير المقفل جيداً المدعو دماغي .تتلاحق الصرخات ويخيل الى ان جدران الدهليز ورفوف المكتبة تردد اصداءها . -ولكن عدداً كبيراً من الابرياء والعزل يموت . -لا احد بريء في مجتمع مجرم. -والوافقون على الحياد؟ -لا حياد في مجتمع بلا عدالة . لا حياد في مدينة العرى والفيزون . مدينة الجوع والتخمة . المحايدون هم المجرمون الاوائل . الاكثرية الصامتة هي الاكثرية المجرمة ، انها ترى الظلم وتعانيه ، لكنها تؤثر السلامة الرخيصة على الكفاح الخطر النبيل . -بعض الناس غير مؤهلين نفسياً لرؤية الدم . -حينما يحدقون جيداً في جرحهم الداخلي ودمهم النازف، لابد وان يتعلموا رؤية عدوهم ينزف تحت ضرباتهم هم. -من ضربك على خدك الايمن ادر له الخد الايسر. -بل العين بالعين والسن بالسن والباديء اظلم . -ولكن، ما ذنب الاكثرية الصامتة الامنة المسالمة . -ذنبها الصمت والمسالمة والعيش في وهم الامن . كل عملية حياد هي مشاركة في عملية قتل يقوم بها ظالم ما ضد مظلوم ما. الاكثرية الصامتة هي الاكثرية المجرمة . انها تشكل اغراء لا يقاوم لممارسة الظلم عليها . انها هي التي تثير غريزة الشر في نفوس الذئاب البشرية. المسالمة هي تحريض على القتل . وتلك جريمة . المسالمة هي شروع في الانتحار ، وتلك ايضاً جريمة. -ولكنني لم اكن على الحياد. انني منحازة لطرف ضد آخر. انني منحازة للشمس والعدالة والحرية والفرح والمساواة. وقد قضيت عمري اخدم هذه القضايا بالسلاح الوحيد الذي اتقن استعماله . -كان عليك ان تتقني استعمال اسلحة اخرى من اجل يوم كهذا . -ولكن قلماً جيداً خير من رصاصة طائشة . -ولكن ما جدوى القلم في دوامة النار الان؟ -انتظر ريثما يصمت الرصاص فيعود للقلم صوته . -تعنين ان تجلسي في هذا الممشى المعتم كالجزذان . وحينما تنتهي الحرب تتابعين دورك السخيف : التصفيق او التصفير من خلف طاولة مكتبك. وحينما يدوي الانفجار تنزلين للاختباء تحت الطاولة. -ولكن ما جدوى ان يقتل الادباء في الحرب مادامت طبيعة اكثرهم لا تؤهلهم ليكونوا مقاتلين جيدين . بايرون كان شاعراً عظيماً ومقاتلاً فاشلاً. وقد مات في الحرب الاهلية باليونان بعد ان كبد (فريقه) لا الفريق العدو خسائر كثيرة. لو عاش وكتب من اجل المثل التي يؤمن بها لافاد واستفاد بدلاً من ان يتعفن بعد ساعة من موته وتنطفيء يده التي هي مصباحه. من واجب الفنان ان يبقى على قيد الحياة كي يستمر في اداء رسالته : الكتابة! -ولماذا تتمسكين بهذا المثال ؟ ماذا عن غيره من الفنانين المقاتلين؟ -همنغواي كان مقاتلاً سيئاً ايضاً. لقد استفاد ادبه من تجربة المعركة ، اما فريقه فلابد وانه دفع الثمن باهظاً من سوء استخدامه للسلاح ولفنون القتال. ولعل المرة الوحيدة التي اجاد فيها همنغواي استعمال سلاحه كانت لحظة انتحاره ! -ستجدين الان عشرات الامثلة لتبرير نفورك الفكري من مشهد الدم ، ومن العنف الجسدي. -لا اريد ان اسقط فريسة شعور بالذنب لانني لا اقاتل . اعرف عشرات من المثقفين الفرنسيين الذين داهمهم هذا الشعور ايام الحرب الاهلية في اسبانيا وتطوعوا للقتال وكانت النتيجة انهم كانوا عبئاً على الثوار، واحداهن (كانت شاعرة كبيرة) لم تكن تصلح في ميدان الحرب حتى لطبخ الطعام للجنود . ان جر الفنان الى القتال هو كجر ماري كوري من مختبرها الى المطبخ بحجة ان البلاد تعاني نقصاً في الطباخين! -اذن ترين ان مهمة الفنان هي ان يصب البنزين ويشعل النار ثم ينسحب من المدينة هارباً . -تقريباً! هذا صحيح على نحو ما . مهمته ان يخلق الثورة لا ان يمارسها . لقد اعلن الرئيس جمال عبد الناصر ان كتاب "عودة الروح" لتوفيق الحكيم كان من العوامل الهامة التي ساهمت في تفجير ثورته والضباط الاحرار، واشعال شرارتها. الفنان شرارة الثورة ونبوئتها . -ووقودها! -ان موته كجرذ لا يفيد احداً . ولكن ما يحدث عادة هو ان الفنان نوع فريد من الثوار . انه يصنع الثورات ويجد نفسه بطريقة ما وقوداً لها لا محالة . انه يشعلها وهو يعرف انه اول من سيحترق بنارها . وحتى اذا لم يقتل الفنان اثناء الثورة فانه سيفقد ادوات عمله : مكتبته ومراجعه وكتبه وارشيفه وسلامه النفسي الداخلي النسبي الذي سيمزقه تماماً التشرد الجسدي ، هذا بالاضافة الى تشرده الروحي المستمر. -ولماذا لا يقاتل الفنان حين تشب الحرب كاي فرد آخر في المجتمع؟ هنالك مقاتلون جيدون ومقاتلون سيئون ، فلماذا لا يكون مقاتلاً سيئاً ؟ ان ذلك سيحجبه على الاقل من الموت وحيداً ، ومن عذاب الاصوات المتناقضة في داخله . -لان تركيبة الفنان النفسية التي تجعل منه فناناً جيداً هي نفسها التي تحول بينه وبين ان يكون مقاتلاً جيداً . لا استطيع ان اقتل أي انسان او اعذبه . سافكر بانه كان ذات يوم طفلاً بريئاً. سافكر بانه لم يصنع من نفسه الوحش الذي هو امامي وانما هي عوامل كثيرة خارجة عن ارادته ساهمت في صنع ذلك الوغد امامي . سافكر ايضاً بامه ، بحبيبته ، ساعجز عن تعذيبه ، ساتذكر كيف قد يبدو وجهه وهو يضحك وهو يصلي. ساحس بانه كوكب قائم بذاته ، وان قتله مجزرة كونية. اصوات ، اصوات ، اصوات ، تتفجر داخل راسي وتتناقش بصوت عال ومع كل صوت اشعر بان امرأة جديدة خرجت من داخلي، ولم اعد امرأة واحدة في الدهليز ، بل تناسلت وتكاثرت وازدحم بنا الدهليز . ودوى انفجار رهيب وكنت واثقة انه داخل بيتي في مكان ما . وعدت امراة وحيدة . وحيدة في الدهليز على الخط الفاصل بين الموت والحياة، اواجه مكتبتي الكبيرة ، والمح عبارة "الثورة" في اكثر عناوينها . وصرخ صوت في داخلي: هذاكابوس لا ثورة. هذه "كوابيس سادية" لا "حرب تحريرية." ورد صوت آخر : كل الثورات في التاريخ كانت تبدو من الداخل هكذا . المهم في الثورة هو الجيل الذي سيحصدها . لابد لكل ثورة من جيل ضحية. سمعت جيدا صوت سقوط جدار ما ، اخمد انفجار الاصوات في رأسي . ركضت . للوهلة الاولى ، بدا لي دخاناً كثيفاً يتصاعد من غرفة جدتي. لم اكن ادري انني استطيع ان اكون شجاعة. دونما وعي حملت (طفاية الحريق) الصغيرة وسارعت الى الغرفة . كان السقف محفوراً والجدار مقابل للنافذة. في البداية ظننت قذيفة ما سقطت على السطح، وركضت نحو المطبخ اتسلق السلم الخشبي الى السطح ففوجئت بأن القرميد الذي يغطي بيتنا سليم ولا ثقب فيه . عدت الى الغرفة . كانت سحب الغبار قد استقرت على الارض والاثاث. وحين حدقت جيداً اكتشفت ان شيئاً ما قد اخترق زجاج النافذة وثقبه دون ان يكسره مصطدماً بالسقف ومرتداً الى الجدار وان ما توهمته دخاناً كان مجرد غبار تساقط من السقف والجدار المشروخين . وبحثت على الارض فوجدت ثلاث قطع معدنية ما تزال ساخنة ، واحدة منها مدببة ، وكانت بصورة عامة صغيرة واذهلني انها قادرة على احداث هذا الخراب كله. حينئذ فقط لاحظت ان ركبتي ترتجفان كانهما فُصلتا تماماً عن جسدي ورغباتي . وركعت على الارض ودفنت وجهي بين يدي وبدات ابكي. كابوس 60 ما زلت انتظر الغروب لازور جيراني ، مخلوقات بائع الحيوانات الاليفة ، اتابع قراءة الصحف العتيقة المكدسة في بيتنا . وتبدو لي التسلية الوحيدة الممكنة وفي الوقت ذاته تبدو لي تعذيباً . اقرأ واقرأ . من أول يوم سجنت فيه وانا اعيد قرائتها. اراها بعين جديدة. كل خبر صار له مغزى جديد ودلالة مختلفة . قرأت الاعلان التالي : من مسلماني وسمير الى اهلهم في منطقة النبطية. نحن بخير فاطمئنوا !! غمرني رعب لا حدود له . انها النهاية . لا اثر للحضارة بعد اليوم حولنا . الهاتف اختراع تم بعد العصر الحجري ونحن عدنا الى العصر الحجري. ولعلي اقرأ الصحف القديمة واتمسح بكتبي كي اؤكد لنفسي انني اعيش في هذا العصر المفروض انه عصر الفضاء. ربما كان هنالك مركبة فضائية تنطلق في هذه اللحظة من الارض الى كوكب ما لاكتشافه ومع ذلك ما يزال في كوكبنا من يحيا عذابات العصر الحجري! الصحف وحدها تجعلني اصدق لدقائق انني ما زلت في عصري نفسه ولم تختل عجلة الزمن ببيروت وتعيدها فجأة آلاف السنين الى الوراء. اية مأساة ان نعيش في وطن يصبح فيه بقاؤنا على قيد الحياة خبراً يستحق الاعلان عنه ؟ لو توقفت الصحف عن الصدور-كما سيحدث اذا تابعوا تدميرها - كيف سيتصل حسن وسمير ومحمد باسرهم ؟ وكيف سيوصلون نبأ نجاتهم من الوحوش الى اهلهم في الطرف الثاني من الغابة؟ أبالدخان على طريقة الهنود الحمر ؟ بقرع الطبول؟ بالحمام الزاجل؟ اقرأ: جاءنا مايلي : علي فادي يوسف من عرمتي وهو غير علي يوسف الذي عثر عليه مذبوحاً بأيدي (....) ، اعجبتني صيغة الاعلان . اذا نجوت فسأنشر اعلاناً اقول فيه: اعلن انني انا لست غير التي وجدت مذبوحة في مراحل مختلفة من حياتها والتي توفيت عدة مرات وقامت من رمادها ، واعلن انني ما زلت على قيد الحياة وقادرة على ان اذبح مرات عديدة ايضاً في المستقبل! هاهي الشمس وقد بدأت تلملم عباءتها الذهبية وعما قريب تلقي الطبيعة رداء الليل الاسود . حان وقت زيارتي لدكان بائع الحيوانات الاليفة . انه الليل. ليل المتفجرات والرعب. ليل الارواح الهائمة الغاضبة ، التي صارت صرخاتها مكتوبة بلغة الحديد والنار على وجه السماء. وانا اتسلل خارجة من بيتي . اهبط درجات السلم. الحظ بأسي انني احنى قامتي ، ليس فقط عند النوافذ بل على طول السلم. حتى حينما اتحرك داخل البيت صرت احني قامتي . صحيح ان تجربة الرصاصة (البلياردو) علمتني ان الانحفاض تحت مستوى النوافذ لا يجدي مع الاسلحة الحديثة ، لكنني رغم كل شيء صرت احني هامتي الى ما تحت مستوى النوافذ . كانني انحني لا للرصاص وانما لمنطق الرصاص. كم هو مذل ان يتحرك الانسان اياماً واياماً وقد احنى قامته كالاحدب. حتى ولو عاد السلام الى هذه المدينة ، فانه سيجدنا قد نسينا المشي منتصبين ، وصارت مشيتنا اقرب الى مشية القردة . انه الليل . ليل الوحشية والموت المختبيء حتى تحت اظافرك . انه ليل الدمار. وانا وصلت الى الحديقة وانعطفت الى خلف المنزل. في البداية اخافني العراء. واخافني ان اسمع صوت الرصاص في العراء للمرة الاولى ، طوال الايام السابقة كنت اسمع صوت الرصاص وانا محتمية بالجدران او بالاثاث او ملتصقة بأي شيء . اما الان وانا اقف في الحديقة تحت السماء بجسدي الهش دونما أي نوع من الدروع والمظلات واسمع مطر الرصاص ، تعتريني رجفة مخيفة . صوت الرصاص في العراء شيء مختلف. انه الموت وقد خلع قناعه وتقدم منك . انك انت تلك النملة في مملكة الليل الشاسعة . ركضت الى اقرب شجرة -وكانت نخلة، والتصقت بجذعها . دفنت نفسي في صدرها العاري وخيل الى انني اسمع دقات قلبها ، اسمع النسغ يركض في عروقها ، اسمع الخوف يدق طبوله داخل خشبها . ازداد التصاقاً بها. نصير شجرتين مذعورتين . نصير حياتين مذعورتين . ولكنها ستظل مكانها حتى تصيبها قنبلة او لا تصيبها . انها لا تستطيع مثلي ان تطلق ساقيها للريح. احسست بشيء من العزاء لانني انثى لا شجرة ولانني استطيع ان اركض. آه صوت الوصاص في العراء وانا وحيدة. في البداية اخافني الى ابعد مدى . كانت كل رصاصة تستقر في جسدي انا شخصياً وكل قذيفة تنسفني انا شخصياً . ثم قررت: الرصاصة التي ستصيبني لن اسمع صوتها. والقنبلة التي ستطيح بي لن ترعبني لانني ساكون ممزقة قبل ان اجد وقتاً للرعب. فلم الخوف اذاً؟ كل ما اسمعه لا يمكن ان يؤذيني مادام كل ما سيؤذيني لا يمكن ان اسمعه . امدني هذا الخاطر ببعض القوة ، لكنني على الرغم مني ظللت ارتجف كلما دوى انفجار. سرت في الظلام باتجاه الجدار الخلفي لدكان بائع الحيوانات الاليفة. كنت اعرف جيداً مكان الاشجار والنباتات في الحديقةـ لكنني تعثرت اكثر من مرة رغم ان الظلام لم يكن دامساً تماماً. رفعت رأسي الى السماء. لا قمر. هنالك فقط بقايا مصابيح الشارع التي ما زال اكثرها يضيء. اصل الى النافذة. ضيقة وعلى مستوى الارض من ناحية الحديقة، لكنها قد تكون مرتفعة جداً بالنسبة لارض المخزن. فكيف اهبط منها؟ ربما كان علي ان آتي معي بحبل. لكنني لم اتسلق حبلاً من قبل. ترى هل الامر سهل كما في الافلام؟ كل ما يحدث لي هذه الايام سبق لي ان شاهدته في الافلام واكتشفت كم الحياة المعاشة تختلف عن تلك المغامرات التي تزيف الحياة على الشاشة. قد يكون تحت النافذة كرسي اهبط عليها. او صندوق. او احد اقفاص الحيوانات. ولكن لماذا استبق الاشياء؟ فلنحل المشكلة خطوة خطوة. المهم اولاً ان افتح النافذة قبل ان افكر بكيفية الهبوط منها. تحسستها في الظلام. شعرت انها مكسوة بالاوساخ وبطين جاف. وان بعض الحشرات او الديدان الصغيرة تركض فوقها مذعورة لوقع اصابعي. كانت النافذة مغطاة بشريط من (المنخل) داخل اطار من الخشب. ترى هل خلفه قضبان ؟ سأعود الى البيت لاحضر مقصاً واقص به (شريط المنخل) الحديدي الذي يبدو من ملمسه المتعقر ان الصدأ قد اكله . اهز الاطار بيدي فيذهلني كم هو مخلخل، ويذهلني ان النافذة كلها قد خرجت في يدي. وخلفها لم تكن هنالك اية قضبان . أي سجن هو هذا؟ ولماذا لا يحتاط صاحب الدكان خوفاً من هرب رعاياه وعصيانهم؟ ام ان السجن ليس قفصاً فحسب بل هو اولاً رعايا اذلاء، ورعاياه من الببغاوات والقطط والفئران والكلاب والحساسين والطواويس لا يستحقون عناء كبيراً لسجنهم والاتجار بهم؟ مددت رأسي داخل المخزن عبر النافذة. كان الظلام دامساً ورائحة كريهة تفوح. والصمت التام مخيماً على المكان. تسائلت : هربوا جميعاً؟ ام ماتوا جميعاً؟ ام تراهم مثل باقي اهل الحي يقبعون في الظلام في مخابئهم مذعورين صامتين حائرين، خائري القوى؟؟ بعد قليل الفت عيناي الظلمة ، ولم اعد اشم الرائحة الكريهة كثيراً. لاحظت ان سقف المخزن ليس مرتفعاً بقدر ما كنت اتصور، وانني استطيع ان ادلي بجسدي من النافذة ثم اقفز على الارض بسهولة. ولماذا السقف المرتفع ، وهل تهم صاحب الدكان الشروط المعيشية الصحية الجيدة لحيواناته ، ام ان كل ما يعنيه هو ان يبقيهم على قيد الحياة كي يتابع اتجاره بهم ؟ انه الليل وانا قد قفزت الى داخل الدكان. قفزتي اثارت همهمات واصواتاً غريبة . اذن لم يموتوا ولم يهربوا ، ولكنهم مثل بقية اهل الحي تماماً في حالة ذعر وخوف. هم يحسون بوجود جسم غريب داخل المكان ، ويحاولون عبر قلقهم وخوفهم الغريزي تحديد كنهه. هل هو حيوان من فصيلتهم (صديق) ام من فصيلة اخرى (عدو) ؟ وما نتيجة دخوله الى سجنهم؟ لعل كل حيوان منهم يفكر في، انا ذلك الكائن (الغريب) عن السيادة ، أي عن سيادته هو عليها وهي الان بحكم (ببغائية) ما حفظته تعلن بان دخولي الى الدكان تحد للسيادة(!). ولكن ، اية سيادة هذه؟ اية سيادة لمن يسكن قفصه ، ويقضي وجوده سلعة تباع وتشتري لاصحاب النزوات ولاثرياء من أي مكان جاءوا؟ اية سيادة لمن حياته سجن بلا نهاية؟ وصحيح ان بعضها الذي يعرض في الواجهة الخارجية يعيش في ظروف نموذجية تلفت انظار الزبائن، وتجعل الحيوانات في المزارع الاخرى المجاورة تشعر بالغيرة من ترف تلك القاطنة في شروط عصرية نموذجيةـ ولكن الاكثرية الساحقة من مخلوقات بائع الحيوانات الاليفة تعيش هنا خلف جدار التنك المرتفع الذي لونه رجل الديكور ، ورسم عليه مناظر طبيعية بديعة لشاطيء ساحر تعلوه الغابات المزروعة بالارز والقمم المتوجة بالثلوج ! اية سيادة هي هذه؟! كانت الببغاوات اول من واجه دخولي بشكل عدائي. كانت اصواتها غاضبة ومتحدية في البداية، ثم صارت خافتة. انها بحكم طبيعتها الببغائية لا تملك الا ان تكرر الاسطوانة التي حفظها اياها سيدها، لكنها يضاً بحكم بؤسها وارهاقها لا تملك الا ان تصمت او على الاقل تكف عن تكرارها بحماس . ببغاء واحد ظل يصيح : مرحباً ياضيف. انا نحبك . اشتريني. ويقول بعدها على التوالي: اطلع ياغريب . وكان الببغاء يكرر العبارتين كما لو كانتا وجهين لعملة واحدة. ووسط هذا الليل المرعب وجدت صوت الببغاوات مضحكاً .وانفجرت اضحك بصوت عال. فانا لست من (جماعة الزبائن) اصحاب الثراء ولا اجد سبباً يدعوا لاعتباري (الغريب) غير المرغوب فيه. اليس بؤسنا واحداً؟ خوفنا واحداً؟ قلقنا وحيرتنا ومخاوفنا وبالتالي مصيرنا واحداً؟ سكتت الببغاوات. لم تبق عير همهمة جماعية كبقايا صوت مظاهرة مقهورة امام هراوات رجال الشرطة. مزيج عجيب من مواء وعواء و"هسيس". اجل لم تكن العصافير تغرد او تزقزق بل كان صوتها اشبه بغمغمات محتضر. كان الصوت رهيباً مخيفاً مليئاً بالهول. بل كان كالصوت البعيد القادم من قبيلة من الجرحى والمحتضرين الذين ادمتهم الحرب وحرقت اطراف ثيابهم واهدابهم واقدامهم. وحينما عادت الانفجارات شعرت ببعض الراحة..فصوت العذاب الحيواني اشد ايلاماً لقلبي حتى من صوت الرصاص المصهور في فوهات البنادق . هدأ الرصاص. عادت الهمهمات . وسمعت نفسي اقول لهم بصوت عال: شعبي الكريم! (سمعت صوتي وخفت منه وخيل الي انني بدأت اصاب بمس من الجنون). ولكنني تابعت: ياشعبي الكريم. بلاغ رقم واحد. جئت احمل لكم الخلاص . وردت علي الحيوانات بارتفاع همهمتها التي كانت تحمل كثيرا من الخوف. صرخت بهم: صفقوا لي، وانفجرت ابكي. شعرت انني ممثل صغير بائس مهزوم يمثل وحيداً على مسرح بائس مهزوم مثله. كانت عيناي قد الفتا الظلام النسبي تماماً . تذكرت انني هنا لاحضر لهم الطعام والماء ولاتفقد حالهم ، لا لاصاب بجنون العظمة وانصب نفسي اميرة على مملكة البائسين. الاسياد لا ينقصونهم ولكن ينقصهم الماء والغذاء وكل شيء أخر ما عدا الزعماء. فوجئت بالطعام في اقفاصهم وبالماء ايضاً. لم يكن قد نقص ولا زاد. كان في الاقفاص ما فيه الكفاية ليعيشوا اياماً. ترى هل غامر صاحب الدمان وجاء لاطعامهم؟ اشك في ذلك. كانت نوعية الطعام سيئة، والماء ايضاً كان ملوثاً ، ولكنه كان موجوداً على كل حال. ودوى انفجار. وعلى ضوء التماع الصاروخ الذي اضاء كالبرق لوهلة، شاهدت كل شيء في نظرة واحدة شاملة انطبعت في ذاكرتي كوشم من جمر والى الابد. شاهدت ان بعض الحيوانات جريح، كانها تقضي نصف وقتها في الذعر ، والنصف الاخر في الشجار فيما بينها. هذا السجن المروع البؤس يشحنها بعدوانية تحتاج الى تفريغ، والتفريغ يحدث للاسف عن طريق الاقتتال فيما بينها بدلاً من الهجوم الموحد على صاحب الدكان، سجانها. وشاهدت احد الطواويس فارشاً ذيله، وخيل الي انه يتباهى على ما تبقى من حيوانات، وان الكلاب الكبيرة (تتمرجل) على الكلاب الصغيرة ، والقط الكبير يفرض (الخوة) على القط الصغير، خيل الي انهم مشغولون بسفاسف فروقهم البيولوجية دون ان يلحظوا انهم يشتركون في شيء واحد : هو انهم جميعاً عبيد وسجناء. آه الحمقى، الا يرون حقيقة الامر؟ بلى. ربما كانوا يرون ذلك، فقد لاحظت في عيونهم جميهاً نظرة واحدة. نظرة دامعة مليئة بالذل والنكسار والذعر ولمسة من الغضب القلق. اتجول بين مخلوقات دكان بائع الحيوانات الاليفة ـ وضوء الشارع يرتجف مع كل انفجار، والليل الحزين يسيل من اقفاص الحيوانات السجينة المكسورة النظرات. اتجول بينها مثل ملك اسطوري مجنون في قرية خرافية جميع سكانها من الجرحى والمشوهين والبؤساء ، وهو اشد الجميع بؤساً. اعاود مخاطبتهم : ياشعبي الكريم . قررنا منحكم اثمن ما في الوجود . الحرية. وكأن صوتي يقلقهم اكثر مما يرعبني (يرعبني ان اكون مشرفة حقاً على الجنون). وخلف كل جملة اصرخ بها ، تعلو همهماتهم الموحدة ، العواء المتعب للكلاب ، عواء اقرب الى المواء، ومواء القطط الشبيه بالانين، وصوت العصافير الذي لا يشبه الزقزقة ، بل هو اقرب الى اصوات شخير شيوخ محتضرين ، وشهقات الارانب ونعيب الفئران الاقرب الى صوت البوم منه الى صوت العصافير . وأمتلات الماً لحال تلك المخلوقات السجينة البائسة وقررت : سوف اطلق سراحها . سوف امنحها الحرية والفرح. وغداً حين ياتي صاحب الدكان الذي يعتاش من بيعها ، لن يجدها . سأحررها من البؤس الذي تحياه . لحظات وافتح ابواب الاقفاص كلها ، لحظات واسمع خفق اجنحة العصافير وهي تطير عبر النافذة وفوق الاشجار الى البحر الذي لابد وانها تفتقده في سجنها المعدني ، وتهرب من هذه المدينة المجنونة الى الغابات ، لحظات وافتح باب سجن كلاب الصيد لتنطلق مجنونة تشم رائحة الليل النقي هاربة من جحيم الاسر ، لحظات وتخرج القطط وهي تموء كما لو كانت تزعرد ، وقد تمشي على قائمتين بدلاً من اربع لشدة الفرح، لحظات وتنطلق الفئران البيض وتتسلق الاغصان وتنام ملتفة باوراق الاشجار ، لحظات وتتحول كآبة هذا السجن الى مهرجان حين تمسه يد الحرية، ولكن بمن ابدأ او أي الاقفاص افتح اولاً؟ خشيت ان افتح قفص الكلاب قبل القطط ، فتطارد الكلاب القطط وتؤذيها . كان من الممكن ايضاً اطلاق الطيور قبل الكلاب والقطط معاً لئلا تنشأ معركة جوية ارضية بينها. قررت ان تتم عملية (تحرير) مخلوقات بائع الحيوانات الاليفة على الوجه التالي : اطلاق سراح الطيور اولاً ثم الفئران . فالطواويس . فالقطط . فالكلاب . كان لابد من (التخطيط المرحلي) للعملية ، وقد فوجئت بذلك ، والا لخططت له طوال النهار. يدي ترتعد وانا افتح اقفاص الطيور كلها من حساسين وبلابل وببغاوات . شيء رائع ان نصنع الحرية . كان الباب صدئاً ، لكنه لم يكن محكم الاغلاق . صرير حاد صدر عن مزلاجه ، وبدا لي ان الطيور اجفلت قليلاً كانما اخافها صوته . فتحت الباب على مصراعيه ، وفوجئت بانها لم تتجه اليه لتطير هاربة صوب الحرية والليل والرياح والسماوات ودروب المجرة ، وانما سارت تلقائياً نحو المكان المعد لطعامها كما لو كانت عمياء او منومة مغناطسياً . لقد اعتادت ان يتم فتح باب السجن لمجرد لاطعامها ، ولعلها تظن انه اعيد اغلاقه . فتحت ابواب اقفاص الطيور ، وهالني ان عصفور منها لم يطر. كأنها نسيت الحرية . كأن خيوطاً لا مرئية تربطها بجدران سجنها . جلست اراقبها مذهولة . لم تعد المتفجرات ترعبني . لم تعد اصوات الرصاص تخيفني. مشهد الطيور القابعة في سجنها رغم الباب المفتوح ملأني بذهول وخوف لم اعرف لهما مثيلاً طوال حياتي . دائماً تخيلت الطائر جائعاً للحرية، يقضي لياليه وهو يضرب جدران القفص بجناحيه وبابه برأسه . دوماً تخيلت انني ما اكاد افتح الباب للعصافير حتى تنطلق فوراً طائرة نحو شمس الحرية. ولكن ، في هذا للبل الذليل الطويل، تبدت لي صورة مروعة للطبيعة (الحيوانية). تقدمت منها ، وحملت في يدي بطائر ، واحسست بجسده ينبض داخل يدي دافئاً وربما خائفاً ، بل خيل الي انني احس بضربات قلبه ، حملته وقذفت به نحو النافذة . فرد جناحيه قليلاً، قليلاً جداً بما فيه الكفاية ليكون سقوطه على الارض متوازناً واقل ايلاماً . واستوى واقفاً على قدميه وعاد فمشى باتجاه قفصه وطار بجناحين مضطربين ليستقر في داخله ، ثم مشى الى داخله واختبا بين بقية زملائه السجناء. صعقني المشهد . فانطلقت كالمجنونة افتح ابواب الاقفاص جميعاً ، واصرخ بها جميعاً . فكانت تهرب من موقع الباب وتمعن هرباً الى ابعد بقعة داخل السجن وبعضهم يحتمي ببعض . كأن الحرية غول قابع بانتظارها . كانها نسيت كل شيء عن الطبيعة والسماء والركض والتحليق والسباحة ، نسيت كل شيء عن الحرية والفرح وتحضير رزقها ومتع الصيد في دروب الفصول الاربعة ، مكتفية بنصيب يقيم اودها بينما هي مختبئة داخل اوكارها مذعورة من الرصاص راضيه بهذا السجن الخامل مسلمة امرها الى الاقدار. والى سيدها صاجب الدكان . ذكرتني بحال اهل حينا ، حيث يهدأ القتال في اوائل كل شهر، فيذهب كل واحد لقبض واتبه او نصف راتبه او ربعه كما يشاء له رب عمله ، ويعود بعدها راكضاً الى بيته ، القفص ، حاملاً ما استطاع تخزينه من طعام ، قابعاً في عاصفة الريح والنار والجموم مكتفياً من حياته باحط انواع الوجود البيولوجي. كانت ابواب سجون دكان بائع الحيوانات الاليفة كلها مفتوحة ، ولم يهرب احد عبر النافذة . بعض القطط مد برأسه من باب السجن دون ان يُخرج جسده منها . كلب خرج وتجول قليلاً في ارض الدكان - السجن- ثم عاد الى القفص المعد له بالذات . لم يفكر حتى بالدخول الى قفص آخر على الاقل . شعرت بان المشهد يثير جنوني . فتركت الدكان وانطلقت هاربة . تسلقت النافذة ، وخرجت منها كما دخلت ، واعدت اطارها الى مكانه ، ولم احكم اقفالها بحيث تستطيع الحيوانات الخروج منها فيما لو حاولت او رغبت حقاً بذلك . في الخارج كان الليل بانتظاري ، بارداً وكئيباً ، والرصاص لا يهدأ. ركضت الى النخلة ، ودفنت وجههي في جذعها الرطب وفاحت في انفي رائحة الارض . وبكيت طويلاً طويلاً وقد الصقت صدري بصدرها . وخيل الي انها لم تعد خشباً ، وان جذعها رق لي ، وهززت الى بجذع النحلة ، وخيل الي ان شيئاً رطباً نقياً يتساقط على ، وشعرت ببعض السلام يغمر روحي الممزقة
|
#6
|
||||
|
||||
هذا ديوان الكاتبه اللبنانيه غاده السمان
اعلنت عليك الحب و.........غاده السمان هذه الحروف بحلوها ومرها .. نمت في رحم حبك ... وترعرعت في بلاط جدك... وكبرت تحت شمس لقائك ... وانتظمت في سطور لأجل عينيك... لك وحدك اهديها ... واستميحك عذراً في اطلاع الآخرين عليها .. غادة السمان .......................... آه صوتك صوتك ! يأتيني مشحوناً بحنانك وتتفجر الحياة حتى في سماعة الهاتف القارسة. آه صوتك صوتك ! _ ويتوقف المساء حابساً أنفاسه _ كيف تستطيع أسلاك الهاتف الرقيقة أن تحمل كل قوافل الحب ومواكبه وأعياده الساعية بيني وبينك مع كل همسة شوق ؟! كيف تحمل أسلاك الهاتف الدقيقة هذا الزلزال كله وطوفان الفرح وارتعاشات اللهفةآه صوتك صوتك ! صوتك القادم من عصور الحب المنقرضة صوتك نسمة النقاء والمحبة في مدينة الثرثرة وأبواق السيارات الضحكة والنكات الثقيلة كالأسنان الاصطناعية مدينة بطاقات الدعوات إلى الحفلات وورقات النعوة وشركات التأمين مدينة المقاهي والتسكع والكلاب المرفهة وزيت الشعر والتثاؤب والشتائم وحبوب منع الحمل والسمك المتعفن على الشاطئ ... آه صوتك صوتك ! صوتك الليلي الهامس طوق نجاة في مستنقع الانهيار. آه صوتك صوتك ! مسكون باللهفة كعناق يعلقني بين الالتهاب والجنون على أسوار قلعة الليل... وأعاني سكرات الحياة وأنا افتقدك وأعاني سكرات الحياة وأنا أحبك أكثر. .......... آه صوتك صوتك ! ترميه من سماعة الهاتف على طرف ليلي الشتائي مثل خيط من اللآليء يقود إلى غابة ... وأركض في الغابة اعرف انك مختبئ خلف الأشجار واسمع ضحكتك المتخابثة وحين ألمس طرف وجهك توقظني السماعة القارسة. آه صوتك صوتك ! وأدخل من جديد مدار حبك كيف تستطيع همساتك وحدها ان تزرع تحت جلدي ما لم تزرعه صرخات الرجال الراكضين خلفي بمحاريثهم ؟! .................آه صوتك صوتك ! وهذا الليل الشتائي يصير شفافاً ورقيقاً وفي الخارج خلف النافذة لابد ان ضباباً مضيئاً يتصاعد من زوايا العتمة كما في قلبي آه صوتك صوتك ! وكل ذلك الثراء والزخم الشاب تطمرني به وأشتهي أن أقطف لك كلمات وكلمات من أشجار البلاغة ولكن ... كل الكلمات رثة وحبك جديد جديد ... الكلمات كأزياء نصف مهترئة تخرج من صناديق اللغة المليئة بالعتق وحبك نضر وشرس وشمسي وعبثاً أدخل في عنقه لجام الألفاظ المحددة ! ...........آه صوتك صوتك ! يولد منك الفرد والضوء والفراشات الملونة والطيور داخل أمواج المساء الهارب لقد احكمت على نفسي إغلاق قوقعتي فكيف تسلل صوتك الي ودخل منقارك الذهبي حتى نخاع عظامي ؟! آه صوتك صوتك ! واتوق إلى احتضانك لكنني مقيدة إلى كرسي الزمان والمكطان بأسلاك هاتف ومطعونة بسماعته ! آه صوتك صوتك ! وانصت إلى قلبي ... يا للمعجزة : انه يدق !
|
#7
|
||||
|
||||
تقديم بسيط لكتاب ليل الغرباء للرائعة غادة السمان ..
الكتاب يحتوي على عدة قصص منفصلة عن ناس اغتربوا عن الوطن لأسباب إرادية أو قسرية .. وكما يقولون الغربة كربة .. أنها الشعور بأنك خائف، وحيد ، وضائع .. أنها النظر إلى الوطن بعيون مشرقة وممتلئة بالحنين ..
|
#8
|
||||
|
||||
الإهداء:
إليك .. يا من جعلتني أعي غربتي.. لكَ، ولذكرى حكاية لم نعشها .. غادة من قصة خيط الحصى الحمر كما كل ليلة جلسنا في مقهى تروبيكانا .. كما في كل ليلة ،قال لي :<<أحبك>> فضحكت لأنني لم أجد جواباً أكثر سخفاً أقوله! كما في كل ليلة انطوى على ذاته وقد جرحه استخفافي وبدأ يجول بعينيه في المقهى بحثاً عن أي صديق يغرق معه في حديث سياسي عن بلده .. . . . عاد يكرر : <<أحبك>> ولكنه كان جالساً أمامي على مقعد مستقل وكان على المنضدة فنجانا قهوة لا فنجان واحد ،فعدت أسأله : ما معنى أنك تحبني؟ قال: معناه أنني أرغب في أن أكون وإياكِ شيئاً واحداً! عدت أتأمل فنجاني القهوة المستقلين، بينما عاد يتمم حديثه، قال : كلانا لاجئ، الحب وحده هو البديل، هو وحده يستطيع أن يسبغ على بيوتنا الميتة صفة الوطن، هل تفهمين؟ الحب وحده خيام سعادة لجيلنا الممزق .. قلت: لا .. كيف يمكن أن أكون وإياكَ شيئاً واحد؟ قال: بأن أمنحك أعماقي – أسرار بيتي وأسرار عمري، بأن أعري أعماقي لكِ كماض، وأعري وجهي لعينيكِ كحاضر ومستقبل، فأبكي أمامك بلا خجل أو أشتم أو أغني كطفل .. وبأن تحدثني عن حياتك الحقيقة الداخلية .. . . . ولعل يدي ارتجفت حينما سمعت صوته يدوي بوحشية صارخاً : ادخلي .. أني أمنحك كنوزي، لنكون شيئاً واحداً ! وكانت القهوة الحارة تندلق من يدي وتلهبها، وهو يكرر لنكون شيئاً واحداً! لا أدري لماذا وجدتني أصرخ مثله: لا أحد يستطيع أن يكون شيئاً واحداً مع آخر، القهوة اندلقت على يدي، فأحرقت يدي أنا ولم تحرق يدك، وآلمتني أنا لا أنت، وكنوزك لكَ ولا تهمني كثيراً لأنها لا تملك لي شيئاً .. ورأيت مسامه تتعرق بأسلوب يذكر بالبكاء .... فلم أقل شيئاً، وسمعته في الحمام يفتح الماء بشدة، ثم عاد والماء ما يزال يقطر من وجهه لم يعد يعبرّ عن أي انفعال، ولا أدري لماذا أحسست أنه صار يشبهني كثيراً برغم عينيه الخضراوتين الكبيرتين.. *********************** وبصوت مسرحي اعتاده سائق التاكسي الذي ينقل السياح من المطار إلى فنادقهم يقول : هذا الخط يفصل بين القدس المحتلة والقدس العربية .. وتذكرت بكاء جدتي لأن دار عمي تقع خلف الخط، وتمنيت أن لا تكون في الدار كي أجد القدرة على أن أقول لهم أن غازي انتحر! أجدني أغمغم : وإذا تصادف أن دار إنسان ما تقع خلف الخط واشتاقت عجوز إلى رؤيته .. يقول وقد استحال فجأة إلى شخصية مأساوية تخرج من دفتي كتاب أخفيته طويلاً في أظلم ركن في ذاكرتي : يعودون به ورصاصة في صدره.. . . . لا أعتقد أن نبأ انتحار أخي قد بلغهم بعد، ومع ذلك أدخل الدار، ولا أدري لماذا تقودني نظراته إلى الداخل .. أحس أن في الداخل مقصلة ويجب أن أدخل وأن أتركها تسقط على عنقي.. في الداخل كانت عجوز ممددة على الفراش ورصاصة في صدرها .. جدتي! . . . من النافذة استطيع أن أرى ذلك العلم الغريب بين الغسيل المنشور ، أنهم يتابعون حياتهم العادية بسلام ... ونحن .. نحن هناك جدار الرصاص ... ربما كان خيط رفيع من الدماء على التراب بين عتبة دارنا وذلك الجدار .. وأذكر أسطورة من أساطير جدتي .. قالت أن أطفال الغابة لما ضلوا طريقهم، استطاعوا العودة مسترشدين بخيط من الحصى خلفته لهم جنية تحبهم ولا تنسى، وتعرف كل شيء .. المشاهد كلها تغيم، وخيط الدم هذا أراه الآن بوضوح، خيط من الحصى الأرجوانية الثمينة في عتمة الغابة، ممدودة نحو تلك الأرض العتيقة ..
|
#9
|
||||
|
||||
من قصة أمسية أخرى باردة
أمسية أخرى باردة .. وأنا قد عدت وحيدة لم أعد أذكر بالضبط كيف ولماذا افترقنا .. لم أعد أذكر فيما إذا كنت قد حزنت على فراقه أم لا .. كل ما أعرفه، أنه كان لا مفر من أن نفترق وأن شيئاً في داخلي قد انكسر بلا صوت، وأنني أبحر فيما وراء أصقاع الحزن أو الأمل .. وأن الأشياء في العالم الخارجي عادت تبدو غريبة ومرعبة، وأنني زائغة، زائغة،قطرة زئبق على مقاهي الأرصفة ... . . . أمسية أخرى باردة .. افتح باب بيتي، تفاجئني أضواء الشارع ممزقة ومرمية على البلاط المعتم الباردة والغرفة تطل من أفواه الأبواب المغمورة مظلمة ساكنة .. أخاف البيوت الفارغة المعتمة- نسيت أن أترك النور مضاء قبل خروجي- لأنني حينما أعود وأفتح بابي، أحس أن هنالك من ينتظرني في الداخل .. . . . ونسيت فرحتي الصغيرة أمام البيت وأنا أراقب بائع البالونات يتحرك بسرعة نحو الرصيف المقابل لداري، وعلى رأس أنبوب صغير يضع قليلاً من معجون خاص، فتتطاير البالونات في الجو.. بالونات شفافة لماعة، مختلفة الحجوم، تتطاير بين الرؤوس والأجساد المسرعة فتنفقئ، ويعلو بعضها فوق الرؤوس ولكنه لايلبث أن ينفقئ أيضاً ... مجموعة أثر أخرى من البالونات، تتطاير، ثم تنطفئ ولا تخلف حتى أثر رماد ... فورة بعد أخرى، جيل بالونات بعد آخر .. لا أدري لماذا تسمرت أراقب البالونات الفقاعات، وداخلها كنت أرى وجوهاً ووجوهاً عايشتها وعرفتها، ووجوهاً لم أعرفها، تتناثر على الرصيف، تعلو، تصرخ بشعاراتها، ثم نفخة أخرى من فم بائع البالونات، وتطير كلها نحوي، ثم تنفقئ كلها بصمت قبل أن تمس وجهي أو تترك بصماتها على صفحة عيني، غمرني جوع مؤلم .. جوع إلى شيء كبير كبير، يستطيع أن يعلو في الجو دون أن ينطفئ، فعلى الأقل خارج مرمى بصري! . . . أمسية أخرى باردة ... لست جائعة، ولا أعرف شيئاً اسمه وقت الطعام .. وقت الطعام عندي هو لحظة جوعي، وقد ينقضي يومان قبل أن يحل ذلك المنبه الاجتماعي... لا أدري لماذا تعطل في داخلي.. لكنني أترك طعاماً يطهى على النار دائماً، لا لآكله، ولكن لأشم رائحته، أحب أن تفوح في داري رائحة الطعام دائماً، وأعرف أن ذلك يفقد الدار شاعريتها ولكنه يميزها عن مكتبي .. قرب رف الكتب الكبير أغرس شريط السخانة وأترك عليها وعاء طعام .. أبخرة الأكل تنتشر على الجدران .. تغلف الكتب .. تتسرب إلى ثيابي الأنيقة المعلقة في الخزائن المفتوحة... الآن ورائحة الدار هكذا، أستطيع أن أغمض عيني في فراشي وأتخيل أن أسرة كبيرة – تخصني- تتحرك الآن خارج غرفتي وتتسامر حول المائدة .. من المفروض أن أكون جائعة .. يوماً بعد يوم أفقد القدرة على الانسجام مع صفوف الناس في حركاتهم المتآلفة .. يوماً بعد يوم، أشعر بأن الأشياء التي أدّرسها مضحك وسخيفة وأخشى من أن تصرخ في طالباتي: لا تصدقن شيئاً مما أقول كله كذب وخداع ... . . . افتح صنبور المياه الباردة على رأسي .. ثم ثلاث حبوب منومة ... - لماذا لا تستمرين في ابتلاع ما تبقى؟ ... -ولماذا استمر؟ ما الفراق؟ مجرد أمسية أخرى باردة! - جربي - ليس هنالك ما يهزني بما فيه الكفاية لأموت .. لا أحب نفسي بما فيه الكفاية لأنقذها بالموت، ولا أكره شيئاً بما فيه الكفاية لأهرب منه بالموت...
|
#10
|
||||
|
||||
من قصة فزاع طيور آخر
كانت أيضاً تمطر، ولكن بشراسة .. كنت لا أزال أحبك .. أعجز عن النوم إذ لم أخف وجهي في صدرك .. كنت لا أزال أؤمن بأن في قاع بحار صمتك كنوزاً نادرة .. ضوء مكتبك كان ينزلق تحت بابها المغلق .. عارية القدمين تسللت إليك ... ببطء أخرس كنت أتحرك وراءك .. وقفت.. وصعقني المشهد .. فعلى المنضدة كانت هنالك عشرات من قصاصات الأوراق، وعلى كل منها لا شيء سوى كلمة ((مذنب)) أو كلمة (( بريء)) .. أما المصنف الأسود الذي جئت به معك وقلت أنك سوف تدرسه فكان على الأرض، تحت قدميك!.. شهقت .. وحينما التفت إلي، ورأيت وجهك، وتعبيره المرعب فهمت كل شيء .. في ثانية، بسرعة إلتماع البرق أدركت كل شيء .. ظل وجهك متقلص الملامح ، يتفصد عرقاً .. إذن هذا ما يخفيه صمتك؟ ... لتقتل، ظللت محافظاً على منصبك كقاض، رغم نجاحك الكبير في البورصة .. . . . إذن لن يكون لي طفل أبداً! ... لن لن لن .. هكذا بلغني الطبيب الآن ... حكماً قاطعاً غير قابل للتمييز أو النقض .. لماذا؟ لا أحد يدري .. لماذا؟ .. فوق غيمة مشدودة إلى أفق معتم أرى مئات الأوراق التي سبق ورأيتها على منضدة زوجي .. مذنب .. بريء .. عاقر .. تنجب .. مذنب .. بريء .. عاقر .. تنجب .. ثم أصابع شيطانية عابثة، تلتقط ورقة ما ... ثم يقول الطبيب : آسف .. عاقر ... وعلى الوسادة كانت القطة تضعهم دفعة واحدة، خمسة أطفال .. عاقر ... ربما كان لفزاع الطيور أطفالٌ مثله ولكنهم يكرهون الصمت، لذا يرحلون مع أغاني طيور الحقول ... . . . لا تزال تمطر صراخاً .... الصوت ينبعث من هناك ... صوت يناديني أيضاً .. لست واهمة .. أكره ليلة الأحد حينما يذهب الخدم جميعاً .. ((تفاحة)) وحدها لم أعطها إجازة منذ رأيت بطنها يكبر .. أكرهها، وأحقد على صبرها في تحمل تعذيبي .. تلهث تعباً، تمسح عرقها الكريه الرائحة، تتحرك كحيوان أبله، وعبثاً أقنع نفسي أن في بطنها ماعزاً أو جرواً أو فئراناً .. المطبخ .. ليست في المطبخ .. غرفتها الحقيرة .. ممددة على ظهرها فوق الفراش ... يداها فوق بطنها الكبير .. صامتة، وعضلات وجهها متقلصة بتأثير ألم لم أراه قط يرتسم في ملامحها من قبل .. وجهها مؤثر ومهيب! . . تتمتم متوسلة .. تريد طبيباً .. . . يا أنا .. تمطر تمطر خلف النافذة ... تراها تمطر أيضاً في بيروت؟ لماذا لا تمطر في كل مكان في وقت واحد؟ من يوزع المطر والأطفال.. من جعل الصدفة عدالة؟ تمطر .. تمطر .. والخادمة تصرخ متوسلة .. . . . تريد طبيباً وإلا ماتت .. وأنا الحاكم المطلق.. بماذا سأحكم؟ صقيع القسوة المفجعة يغمرني .... يتحجر داخلي .. الأصوات كلها تموت عند عتبة عالمي بهدوء حقيقي، أخرج إلى غرفة زوجي .. أجلس ... أخرج ورقة بيضاء .. أقطعها بعناية إلى قسمين .. أكتب على الأولى ((سأحضر الطبيب)) .. وأكتب على الثانية ((لن أحضر الطبيب)) .. أطوي كل منهما .. أضعهما في جيبي وأخلطهما ... ثم أسحب واحدة منها .. أفتحها .. وأقرأ (( لن أحضر الطبيب)) .. حكم قاطع لا يرد .. لا أسمع أي صوت وأنا أدخل إلى غرفتي ... بهدوء وعناية أرتدي ثيابي .. أحمل مفاتيح سيارتي .. ولا أنسى أن أترك لزوجي ورقة كتب فيها (( أنا عند نورا ونيلي .. سوف نلعب البريدج مع بقية الشلة))
|
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
راديو قصيمي نت | مطبخ قصيمي نت | قصص قصيمي نت | العاب قصيمي نت |