13-10-06, 09:30 PM
|
|
القصة الثامنة والستون
ألحان وألوان
أتَمنى أن أسمِعَكُم لحناً من الألحانِ التي ألَّفتُها وأعزفُها على أوتارِ عودي. أثقُ أنني سأفعلُ ذات يومٍ، فألحاني ستجدُ طريقها إلى كلّ أذنٍ تحسنُ تذوقَ الموسيقى، ولكن دعوني الآن أحكي لكم قِصتي التي بدأت مع ولادتي وترافقُ أيام حياتي.
اسمي إبراهيم الغساني، عمري أربعةَ عشرَ عاماً. أدرسُ في الصفِ السابعِ لستُ متأخراً بسببِ رسوبٍ أو تقصيرٍ، ولكن تأخرتُ في الانتسابِ إلى المدرسة.
وأنا كفيفٌ! هل تدرون ما معنى ذلك؟! الكفيفُ لا يرى من الدنيا إلا اللونَ الأسود. كم كنتُ حزيناً بادئَ الأمرِ، وكم بكيتُ حين كنتُ في السنوات الأولى من عمري. مراتٍ كثيرةً سمعتُ بكاء أمي وأبي، ورغم ذلك بقيَ رفيقي اللون الأسود وسيبقى. فالأطباءُ الذينَ اصطحَبني أبي إليهم على مدى خمسةِ أعوامٍ أكدُوا أنني لن أتمكنَ من الرؤيةِ مدَى الحياةِ. بعدها بدأتُ أحلم وأتمنى. أمورٌ كثيرةٌ حلمتُ برؤيتها، منها ثيابي الجديدة التي تحضرُها لي أمي، وألعابي التي أحبُّها كثيراً والعصفورُ الذي يُسمعني أعذبَ الألحانِ، وبرامجُ الأطفالِ التي يضحك لها شقيقي عادل ووجهُ أمي الحنون، ولكن لا جدوى... لهذا كنتُ أمضي معظمَ وقتي في الغرفةِ المخصصةِ لي ولشقيقي عادل لا أغادرها، وإذا علمتُ بزيارة ضيوفٍ إلى بيتنا أتظاهرُ بالنوم فقد مللتُ من سماع كلماتِ الشفقةِ.
يكبرني شقيقي عادل بعامٍ واحدٍ، ولهذا فدخوله إلى الصف الأول من المدرسة أعادني إلى أمنياتي. سمعتُ أبي يحثه على الاجتهادِ، وقال لـه مراتٍ عديدة: العلمُ نورٌ يا بني. وأنا أحبُّ النور، وأحبُّ العلم.
الأشهر الأولى لدوامِ شقيقي في المدرسةِ كانت صعبةً، فهو يحبُ اللعبَ كثيراً، ويفضلهُ على التعلمِ، وأبي يبذلُ كلّ المحاولاتِ لتعليمهِ، يقرأ لـه الدروسَ، ويعلمُهُ تركيبَ الجملِ ويبسطُ لـهُ تمارينَ الحسابِ ويلحنُ لـه الأناشيدَ المدرسيةَ، كل ذلك في غرفتنا وأنا أُصغي إلى دروسِ أبي وأعجبُ حينَ يعجزُ شقيقي عادل عن الحفظِ. التزمتُ الصمتَ مراتٍ عدة لكنني أخذتُ بعدها أعيدُ ما يقرأ أبي بمجرد سماعي لـهُ، لفتَ ذلك انتباه أبي فأخذ يشجعني، يسمعني النشيدَ فأعيدُه، يسمعني درسَ القراءةِ فأرددُه كما سمعتُ، وأجري لـه بعض العملياتِ الحسابيةِ البسيطة حين يطلبُ. وكم تنهدَ أبي وقالَ: ليتَني أستطيعُ إرسالَك إلى المدرسةِ.
فكرتُ كثيراً: لماذا لا يستطيعُ؟ أليسَ ما أسمعهُ من أبي هيَ الدروسُ التي يشرحونها في المدرسة؟ إنني متأكدٌ من قدرتي على المتابعةِ.
مرَّتِ الأيام، وعادلُ اجتهدَ ونالَ إعجابَ معلمهِ، وتوقفَ أبي عن شرحِ الدروسِ لـه، ولهذا طلبتُ من شقيقي أن يقرأ أمامي بعضَ دروسِ القراءةِ والنشيدِ والحسابِ التي يأخذونها في الصفِ. اصطحبني أبي وأمي في زياراتٍ إلى بيوتِ الأصدقاءِ رغمَ اعتراضيَ الدائم فأنا لا أحبُ مغادرةَ غرفتنا. كان يحزنني حديثُ أبي عن إعاقتي التي لا تمكِّنني من القيامِ بأي عملٍ، وحرصُ أمي الزائد عليَ، ومع دخولي عامي السادس أصبحَ شقيقي عادل في الصفِ الثاني، أناشيدُه أجملُ ودروسُ القراءةِ أكثر متعة. لقد أسمعني وحفظتُ منها الكثير، ومساءَ أحدِ الأيامِ سمعتُ أبي يقول لأمي: ما رأيكِ أن نرسلَ إبراهيم ليتعلم في مدرسة القرية؟ إنه طفلٌ ذكيٌ وقادرٌ على التعلم. فبكت أمي وردَّت: لا... إننا هنا نُراعي مشاعره ولا أريده أن يتعرضَ لما يثيرُ حزنَهُ. وتابعت أمي: يمكنكَ أن تعلّمه بعضَ الدروسِ من كتبِ عادل. لكن انشغالَ أبي معظمَ الأوقاتِ أبعَده عن مهمةِ تعليمي.
طلبتُ من عادل أن يصحَبَني في لقاءاتِ لعبهِ مع رفاقِه فرفضَ. قالَ إنَّ الألعابَ التي يمارسونَها ستسبب لي الأذى، فقررتُ ألا أطلبَ منه ذلك ثانيةً أحسستُ أن هذه الغرفةَ عالمي وعليَ أن لا أزعجَ أحداً بطلباتي بعد الآن. اللونُ الأسود يشتدُ، ألعابي مللتها، وأنا سجينُ غرفتي.
ومساءَ يومٍ ربيعي هبت فيهِ نسمات لطيفة سهرَ في بيتنا عَمّي راشد وزوجته. لقد عادا من السفر منذُ أيام، سمعتُ ترحيبَ أبي وأمي بهما وحديثاً جميلاً عن حبِ الوطنِ. سألَ عمي عنّي فأخبره والدي بحالتي. شدَّ انتباهي اهتمام عمي بي، وبعدَ قليل طلبَ أبي منهُ أن يعزفَ على أوتارِ عودِه الذي أحضرَهُ معه، فانطلقتِ الأنغامُ الشجيةُ الرائعةُ. ما تمالكتُ نفسي فخرجتُ إلى حيثُ يجلسونَ في حديقةِ بيتنا. توقفَ عمِّي عن العزفِ ليرحِّبَ بي قائلاً: حبيبي إبراهيم! كنتَ نائماً؟
فابتسمتُ وقلتُ لـهُ: أرجوك تابع العزف.
عادَ عمي يطلقُ أعذبَ الألحانِ. كانت سهرةً من أجملِ أيامِ عمري، وحين أرادَ الانصرافَ قالَ: سأزوركَ يا إبراهيم لأسمعكَ النغماتِ التي تحبها.
أراكَ تحبُّ الموسيقى.
وكرر عمّي زياراته إلينا. وما انقضَى شهرٌ إلا ونشأت صداقة رائعة بيني وبينه.
قال لي يوماً بحضورِ أبي: ما رأيُكَ أن أعلِّمكَ العزفَ على العودِ؟
ضحكتُ، فتابع عمي: إنني جادٌ في ما أقول. عدم قدرتِكَ على الرؤيةِ لا يعني أنك عاجزٌ عن القيامِ بأعمالٍ ممتعةٍ. الكثيرُ من المكفوفينَ يقدمون خدماتٍ كثيرةً لأوطانِهم، ويفعلونَ الكثيرَ من أجلِ أن يتمتعُوا بحياةٍ سعيدةٍ عنوانها العمل والعطاء.
قلتُ لعمي متعجباً: وهل أستطيعُ تعلمَ العزفِ حقاً؟
أجابَ: أجل. المهم أن تكونَ لديكَ الإرادة القوية.
وضعَ العودَ في حضني، وعلّمني كيفَ أمسكهُ، ثمَّ وضعَ الريشةَ بينَ أصابعي وطلبَ مني أن أداعبَ الأوتارَ بالريشةِ فأصدرتْ صَوتاً جَعلني أبتسمُ. قال عمي: ستتعلم. أنا واثقٌ.
تحدثَ أبي: سيكونُ هذا رائعاً. وأمي سألتْ راشد: هل صحيحٌ أنَّ إبراهيم سيتمكنُ من ذلك؟
ردَّ راشد: أجل.
أخذتُ أنتظرُ زيارةَ عمي، وهو يحضرُ إلينا ويعلمني، وشيئاً فشيئاً بدأتُ أداعبُ الأوتارَ برقةٍ كما يوصيني. بدأتُ أعزفُ ألحاناً شبيهةً بما أسمعُ عبرَ الإذاعةِ، وعمي يرافقُ عزفي ببعضِ الأغاني العذبةِ، وما مضى الصيفُ حتى قطعتُ شوطاً كبيراً في تعلمِ العزفِ على العودِ.
أنتظرُ زياراتِ عمي بشوقٍ كما قلتُ، لكن حينَ زارَنا مع زوجتِه مودعاً أبكاني. أحسستُ أنّ اللونَ الأسودَ يعود من جديدٍ ليحتلَّ كل أيامي وسأفقدُ اللحظات الجميلة التي أعيشُها بوجودِه. لكنَّه فاجأ الجميع حينَ قال لأبي وأمِّي: لي عندكما رجاء.
قالَ أبي: تفضل..
تابعَ عمي: أرجُو أن تَسمحا لي باصطحابِ إبراهيم معي. ففي المدينةِ حيثُ سأسكنُ يوجدُ معهدٌ لتعليمِ المكفوفين وأثقُ إنه سيكونُ مثالَ التلميذِ المجتهدِ المتفوقِ. سأهتمُ به، وستتعززُ صداقتي معه. وأخذَ يتحدثُ عن عباقرةٍ مكفوفينَ تميزُوا في مجالاتٍ شتى كالشعر والموسيقى واللغة والعلوم وذكر أسماءَ (طه حسين عميد الأدب العربي وأبي العلاء المعري الشاعر الكبير والموسيقار سيد مكاوي وغيرهم).
قالت أمي باكية: لا يمكنني قبول بعده عني، إنني أتابعُ شؤونَه وأهتمُ به. فسألَني أبي: ما رأيُكَ يا إبراهيم؟
أجبتُه: إن كان عمي راشد سيبقى قريباً مني فأنا موافق. إنني أحبُّ التعلمَ كثيراً، وسأتقنُ العزفَ على آلةِ العودِ أكثرُ بوجودِ عمِّي، وسأعودُ حين أكملُ تعليمي، كما أنكم ستزورونني في المدينة أليس كذلك؟
اقتربَ عمّي راشد واحتضنَني وقالَ: ستكون أغلى وأعز صديق.
وبعدَ أيامٍ كانتْ رحلَتي الأولى نحَو المدينةِ برفقةِ عمي. سجلَّني في مدرسةِ المكفوفين، وكم كانت سعادتي كبيرةً وأنا أتقنُ تعلمَ القراءةِ والكتابةِ بحروفٍ مخصصةٍ لحالتَنا بسرعةٍ كبيرةٍ. وسرَّني أكثر اهتمامَ مدرستِنا بأصحابِ الهواياتِ حيثُ أتاحوا لي فرصةَ متابعةِ تعلمِ العزفِ على العودِ. أصبحتُ حياتي أكثرَ متعةً وسروراً، واللون الأسود لم يعدْ ذلك العدوَّ المخيفَ لي.
زارني أبي وأمي وشقيقي عادل مرات في المدرسة، وكانت سعادتهم كبيرةً حينَ تأكدُوا من تفوقِي في الدروس والعزفِ على العودِ، وزرتُ قريتَنا كثيراً برفقةِ عمي. أصبحَ لديَّ عُوَدٌ خاصٌ بي أعزفُ عليه ألحاناً جميلةً، حيثُ يجتمعُ الكثيرُ من أصدقاءِ عادل وأصدقائي ـ أجل أصبحَ لديَّ أصدقاء أحبّهم ويحبونني ـ ونتبادل الأحاديث الشيقة.
في مدرستنا تميَّزَ صديقي نبيلُ بصوتٍ عذبٍ رائعٍ، فاقترحَ معلمُ الموسيقى أن أعزفَ لـه ويغنّي فشكلنا ثنائياً مُوسيقياً ونلنا إعجابَ جميعِ من سَمعنا.
وخلالَ أشهرٍ قليلةٍ أخذَ عمي راشد وأصدقاؤُه يساعدُونا على إقامة حفلاتٍ خيريةٍ تقدُم أرباحُها للأسرِ الفقيرةِ، وهذا ما زاد حماسِتي واندفاعي لتقديمِ الأفضلِ باستمرار.
اجتزتُ صفوفَ الدراسةِ بتفوقٍ صفاً تلوَ آخر. أنا الآن في الصفِ السابعِ تعلمتُ الكثير من علومِ الموسيقى وألفْتُ العديدَ من الألحانِ التي نالتِ الإعجابَ، كما أنني كتبتُ أبياتاً من الشعرِ بعد أن شجَعني مدرسُ اللغةِ العربيةِ.
أحلامي كبرت وأصبحتْ حياتي أجمل. سأكون في المستقبلِ معلمَ موسيقى وسيكون اسمي (إبراهيم الغساني) كاسم الكثيرِ ممنْ تعلمُوا إن الحياةَ تحلو بالعملِ والعطاءِ، والوطنُ يحتاجُ جهودَهم ولو كانُوا مكفوفينَ. بقيَ عليَ أن أخبركم: لم يعد اللون الأسود رفيقَ حياتي الوحيد بل أصبحت الموسيقى والدراسة والصداقة والعطاء كلها ألواناً جديدةً جميلةً زاهيةً تزينُ أيامي.
التوقيع
|
تتقدم إدارة المنتدى بالشكر الجزيل
للمراقب والأديب/ حسن خليل ، على
جهوده الكبيرة في الرقي بالأقسام الأدبية
من خلال النقد ووضع المسابقات والحوافز
لجعل أقسامة متميزة كما هو ، سيما في
نجاح مسابقة " المقالة الأدبية " .
8/1/2012م
الأدارة .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
|
|